حرب لبنان لم تقع
جوزف سماحة
حرب لبنان لم تقع. هذا هو الانطباع الذي يخرج به من يتابع مواقف عدد من شخصيات ما يسمى «الأكثرية». في رأي هؤلاء أن الاثنين 14 آب يحلّ فوراً بعد الثلاثاء 11 تموز. غافلون تماماً. ولولا قدر من التهذيب لقيل إنهم مغفّلون.
لم تحصل حرب لبنان إذاً. لم يختبر لبنان العنف الهمجي الاسرائيلي ويهزمه. ولم يكتشف لبنان كم أن صداقات أنظمة عربية تشترى بالدم. ولم يتأكد من أن الرعاية الدولية للعدوان قابلة للاختراق بالتضحيات وحدها، لا باسم الحرص الأميركي المزعوم على الديموقراطية او باسم العلاقات التاريخية مع فرنسا.
ثمة خطاب سياسي في لبنان يكرر بطريقة هزلية ومثيرة للسخرية «خطاب الإنكار» الذي يتلبّس جورج بوش. فالرئيس الأميركي لا يزال يردّد أن أحوال مشروعه في العراق ممتازة. ويقلّده سياسيون لبنانيون ببغاوية تستدعي الشفقة في ما يخص المشروع نفسه في لبنان. خطاب هؤلاء السياسيين ينهض على رفض التحليل الملموس للواقع الملموس.
أولاً، إنه خطاب يرفض التمييز بين حصيلة العدوان بما هي عجز إسرائيلي عن تحقيق الأهداف المعلنة، وبين القرار الدولي 1701 بصفته محاولة، إذا قرئ من زاوية محدّدة، لمكافأة إسرائيل.
ثانياً، إنه خطاب يتعامى عن تقديم أي تقدير جدّي لموازين القوى. يترجم ذلك نفسه بمعاملة المقاومة كأنها مهزومة. الأنكى من ذلك أن أحد أقطاب الأكثرية يقترح دفتر شروط على المقاومة وما يجب عليها فعله بعد الانتصار الذي ينسبه إليها من دون أن يلاحظ أن دفتر الشروط كان سيكون هو نفسه لو أن المقاومة انكسرت. هل هذا عناد أم قلّة إدراك؟ المهمّ أن التعامي المشار إليه يرفض النظر إلى ديناميات الصراع التي أنتجت القرار 1701. وهذه الدينامية وحدها هي القادرة على فرض فهم محدّد لهذه الوثيقة، وعلى جعل التطبيق يقع في مكان بين ما أسفر عنه النزاع ميدانياً وما استقرّ عليه سياسياً.
ثالثاً، يرفض هذا الخطاب لبعض الأكثرية تمييز نفسه عن القراءة الاسرائيلية للقرار. يتطابق معها بالكامل بحيث لا نعود نعرف إلى من نستمع ومن نقرأ. ربما كان ضرورياً الاعتراف لهذا الخطاب، في هذا المجال تحديداً، بفضيلة الوضوح. إلا أنه وضوح يقارب الفجور. لماذا؟ لأنه لا يتورّع عن توجيه اتهامات لآخرين بالتبعية إلى محاور إقليمية رافضاً، في الوقت نفسه، أي «تخوين»، أيْ أيّ تنبيه له من مدى اندراجه في المحور الذي تقوده الولايات المتحدة وتشكل إسرائيل ركيزته الأساسية في المنطقة و«الواقعيون المبتذلون» ركيزته الفرعية.
رابعاً، يرفض هذا التيار ترتيب الأولويات. الجثث تحت الأنقاض، الحرب قائمة، الاحتلال موجود، القتال مستمرّ، القرار الدولي غامض، الحقوق اللبنانية معلّقة... كل ذلك غير مهمّ. فالمهمّ، فقط، هو هذه الاندفاعة الطفولية لما يتراءى لها أنه انتزاع المبادرة والإقدام على طرح مطالب الحدّ الأقصى. يجب أن نلاحظ أن هذه المطالب تتماهى مع القراءة الإسرائيلية «المتفائلة» للنتائج (جائزة لمن يجد فرقاً جوهرياً بين كلمة إيهود أولمرت أمس وكلمات لسياسيين لبنانيين في الأيام الأخيرة). ويشكّل هذا الأمر جزءاً من السجال المفتوح في إسرائيل. فهناك من يتّهم الحكومة بأنها لم تحصل على شيء من حربها. وهناك من يلمّح إلى مسؤولية الجيش. وهناك، في المقابل، من يسوّق للحرب والقرار بأنهما أعطيا إسرائيل كل ما تطلب. إن قوى الأكثرية اللبنانية تتدخّل بصورة مواربة في هذا السجال لتغليب الرأي الإسرائيلي «المتفائل» ولنسخ فهمه للقرار 1701.
يمكن الذهاب أبعد من ذلك. تحاول قوى في هذه الأكثرية الإيحاء الى «المتفائلين» الإسرائيليين أن ما لم ينجز خلال الشهر الماضي، بالقوى التي احتشدت لتنفيذه، سيتحقّق في القريب العاجل بفضل المساهمة التي ستقدّمها قوى لبنانية جرّارة!
خطاب الإنكار اللبناني، وهو خطير فعلاً مع أنه هزلي في بعض جوانبه، يستند إلى شعار مركزيّ: لا عودة إلى ما قبل 12 تموز. رفض هذه العودة مطلب أميركي ــ إسرائيلي طبعاً، ولكن الأهم من ذلك هو أن المستحيل فعلاً هو تجاهل ما حصل منذ 12 تموز حتى اليوم. وما حصل هو تضاؤل فاعلية التهديد بأن «ما ترفضون إعطاءنا إياه سلماً سنأخذه، بواسطة إسرائيل، حرباً». لقد حصلت حرب لبنان وهذا ما استطعتم الحصول عليه. تواضعوا.
فضيلة التواضع بعيدة جدّاً عن هؤلاء. فهم يهربون من شعار «لا عودة إلى ما قبل 12 تموز» نحو أطروحة هي، في الواقع، أكثر نبلاً من القائلين بها: الاستثمار في الدولة! عندما يستمع المرء إلى هذه العبارة الخلّابة عليه أن يتذكّر أن من يردّدها يقصد أن المفترض، بعد كل التضحيات، الاستثمار في أشخاص محدّدين ومشاريع معيّنة وبرامج ورغبات... أن القابضين على مفاصل الدولة، وهي في ممارستهم، او ممارسة غالبيتهم، ليست سوى مزرعة، أن هؤلاء لا يريدون سوى حسم تباينات تعوق انفلات مشروع الهيمنة الداخلية والالتحاق بمشروع الهيمنة الأجنبية.
«لا عودة إلى ما قبل 12 تموز» إنما معناه أن لا عودة إلى استباحة الدولة. المدخل الضروري إلى ذلك، وهو مدخل متواضع، تغيير الحكومة الحاليّة وتأليف حكومة اتحاد وطني. ولكن الوجهة البعيدة هي الانتهاء من كذبة أننا كنا في «دولة». لقد اكتشفنا المقاومة في هذه الحرب، وهي ما لا يجوز التفريط به لمصلحة ما يسمّيه البعض، زوراً، دولة.
هاتوا دولة وخذوا استعداداً للبحث في مصير المقاومة. ولكن كيف يمكن الرهان، لبناء دولة، على سياسيين حاسمين في أن حرب لبنان لم تقع.
http://www.al-akhbar.com/ar/node/993