هــل نحـن دولة مدنيــة؟
الكتاب
44597 السنة 133-العدد 2009 يناير 12 15 من محرم 1430 هـ الأثنين
هــل نحـن دولة مدنيــة؟
بقلم: جابر عصفور
أعترف أنني شعرت بالدهشة والحزن عندما أبلغني الأستاذ الدكتور نور فرحات أن المحكمة الابتدائية حكمت علي بأن أدفع تعويضا مبلغا وقدره خمسون ألف جنيه بالتضامن مع جريدة الأهرام التي نشرت مقالي أيها المثقفون اتحدوا الذي احتججت فيه علي حكم صدر علي الشاعر أحمد حجازي لمقال أبدي فيه رأيا اجتهد فيه, وكان من تبعات الحكم الحجز علي أثاث منزل أكبر شاعر مصري, ولا أزال أري في هذا الأمر ما يمس الثقافة المصرية بأسرها, ويهدد حرية التعبير, بل يدفع الكتاب إلي أن يصطنعوا لأنفسهم رقيبا داخليا, حتي لاتلاحقهم دعاوي كتلك التي لاحقت حجازي,
وطالت الذين احتجوا علي الحكم عليه, والحجز علي أثاث بيته في الوقت نفسه. وأتصور أنني الضحية الجديدة في السلسلة التي شملت حكم حجازي الذي انتهي بأن دفعت روزاليوسف العشرين ألف جنيه, ودفعت الاخبار حوالي مائة ألف جنيه عن مجموع الأحكام التي صدرت ضد جمال الغيطاني ومحمد شعير لأنهما فعلا ما فعلت, ومعهما إبراهيم سعدة, وذلك في موازاة الحكم علي الشاعر حلمي سالم وسحب الجائزة التي منحها إياه المجلس الأعلي للثقافة بأغلبية أصوات كبار المثقفين, وعلي إنجاز إبداعي سبق كتابة القصيدة التي اتهم فيها الشاعر بالكفر, وها أنذا أنضم إلي الضحايا.
وأحسب أن مثل هذه الأحكام لن تتوقف, وأن هناك ضحايا محتملين قادمين في الطريق. صحيح أن الحكم الذي صدر ضدي حكم ابتدائي, وأن لي الحق في التقدم إلي الاستئناف, مؤكدا احترامي للقضاء المصري, وثقتي في عدالته إلي آخر مدي, فأنا لم أقل سبابا ولم أكتب قذفا, بل حذرت من ظاهرة لاتزال تتفاقم, ولا أزال أحذر منها, وأري في تزايدها وتصاعدها احتمالات غير إيجابية الدلالة, خصوصا عندما نضعها إلي جانب غيرها من الظواهر, وألاحظ ارتفاع معدلات الكتب التي أدانهامجمع البحوث الإسلامية في السنوات الأخيرة, ومنها كتاب شريف الشوباشي لتحيا اللغة العربية وليسقط سيبويه
ــ ورواية ريح الجنة لتركي الحمد, وهو كاتب سعودي, وديوان هكذا عن حقيقة الكائن وعزلته أيضا للشاعر محمد آدم, والشيوخ المودرن لأحمد فتوح, والدنيا أجمل من الجنة: سيرة أصولي مصري لخالد البري, وركعتان في العشق: دراسة في شعر عبدالوهاب البياتي,ومسئولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث للأستاذ جمال البنا. ولا أهدف إلي حصر الأعمال الإبداعية والفكرية التي وقعت تحت طائلة توصيات المصادرة, فقد فعلت ذلك دراسة علي مقربة من الحافة التي قام بها فريق من الباحثين تحت إشراف نجاد البرعي, وهي عن حرية التعبير في مصر2004 ــ2007, وذلك بعد أن سبق إصدار مجلد المقصلة والتنور عن حرية التعبير في مصر2002 ــ2003, قبل المجلدات الأربعة التي تكمل بقية الصورة المعتمة التي تبعث علي الحزن, وتدفعني إلي تحية الجهد الذي بذله نجاد البرعي مع الفريق الذي عمل معه, فأصدروا خمسة مجلدات منذ سنة2004 إلي سنة2008. وهي شاهد دقيق علي كل ما يحدث بمصر في مجال حرية التعبير, مع التعرض لأهم المشكلات واقتراح عدد من الحلول التي نرجو أن تجد صدي لها.
والواقع أنني عندما أضع المعلومات التي جاءت في المجلدات الخمسة التي أصدرها نجاد برعي والباحثون العاملون معه إلي جانب القضايا المرفوعة علي المثقفين, ومعهم عدد من المسئولين في الدولة من بعض الذين يزعمون الدفاع عن الدين الإسلامي( وذلك في موازاة البعض الموازي الذين يزعمون الدفاع عن العقيدة المسيحية), وأضيف إلي ذلك التدخل بالحذف في الطبعات الجديدة من أعمال أدبية سبق نشرها, لإحسان عبدالقدوس علي سبيل المثال, أو تدخل عمال بعض المطابع في نصوص المقالات والكتب أثناء الطباعة. ولا أستبعد طوفان الفتاوي التي أصبحت تنهمر علينا, فلا يثير أغلبها سوي الضحك( علي طريقة شر المصائب ما يضحك) والسخرية, فضلا عن الاحتقان الطائفي الذي ينذر بالخطر, أقول: عندما أضع ذلك وغيره موضع التأمل, أردد لنفسي أن هذه ليست مصر التي أعرفها وأعرف تاريخها في الاستنارة وميراثها في حرية التعبير في الوقت نفسه. ولذلك أطرح علي نفسي السؤال: هل نحن لانزال نعيش في دولة مدنية, أم انقلب الحال فأصبحنا أقرب إلي الدولة الدينية منا إلي المدنية التي كنا نحلم بتقدمها لاتخلفها, أو انقلاب أبنائها عليها.
إن الدولة المدنية كما أعرفها, أو أفهمها, هي التي تقوم علي دستور يضعه البشر, عبر ممثليهم, تحقيقا لمصالحهم, ولغاية تقدمهم, يلازمه قانون بشري يحقق العدل والمساواة بينهم بلا تمييز, متيحا لهم( مع الدستور) حق الاختلاف وحرية التفكير والتعبير, مشيعا بينهم مناخا من التسامح, يدعم الحوار المجتمعي المقرون بالحرية في كل المجالات التي يتقدم بها الوطن ويزدهر. ولا يختلط في هذه الدولة الديني بالسياسي, أو يصبح القانون أداة في خدمة الدين أو السياسة, أو حتي الطائفية أو الثروة. وبقدر ما ينتفي وجود طبائع الاستبداد في الدولة المدنية القائمة علي الفصل بين السلطات, في موازاة استقلال الجامعة التي وصفها سعد زغلول بأن دينها العلم, فإن شيوع طبائع العدل لابد أن تقترن بشيوع لوازمها: طبائع التسامح واحترام حق الاختلاف, واستقلال القضاء الذي لايعرف سوي روح القانون المقرونة بالقيم التي يؤكدها الدستور الذي يحمي القضاء مبادئه المدنية حمايته أركان الدولة المدنية ولوازمها وقيمها التي لاتختلط بغيرها, فتفسدها أهواء السياسة أو سلطة المال أو هذا التحزب الديني أو ذاك.
|