"التبرعات امتداد للسياسة بوسائل أخرى وأحيانا بديل عنها" (عن كلاوزيفتز بتصرف غليظ)


ليس غريبا ولا جديدا على المملكة العربية السعودية ـ حكومة وشعبا ـ أن تمد يد العون بما يضمد جراح المنكوبين مثلما تفعل الآن وبسخاء مع الشعبين اللبناني والفلسطيني ، غر أن الطابع الإنساني النبيل لهذا المسلك السعودي الخيّر لا يجب أن يمنعنا من محاولة فهمه في سياقه السياسي الأعرض ، ففي نهاية الأمر ليست المملكة جمعية خيرية أو منظمة إغاثة دولية .

يرى كاتب هذه السطور أن حملة التبرع (الحكومي والشعبي) التي انطلقت مؤخراً في المملكة والوقت الذي انطلقت فيه جاءت ـ ضمن أشياء أخرى ـ لترسم طريقا لخروج المملكة من موقف غير موات بل محرج كل الإحراج وضعت فيه نفسها حين بادرت بوضع نفسها ـ منفردة ـ على قمة القرار العربي ، تتحدث وتتصرف باسمهم منفردةً ومتعالية على العمل الجماعي المنسق ومن ذلك أنها لم تذهب إلى اجتماع الجامعة العربية إلا لتلقن العرب الآخرين دروسا في الحكمة والسلوك السياسي القويم ، والحق أن بلداناً عربية أخرى مثل مصر والأردن لم تبخل في دعم (هل أقول : توريط ؟) المملكة فيما تصدت له ، ثم كان أن اكتشفت المملكة أن ما تصدت له أكبر من حجمها وقدرتها على التأثير فعادت بسرعة إلى ما يقع في نطاق قدرتها وسيطرتها وهو خزينتها العامرة لعها تنجح في شراء شيء من أشياء كثيرة عجزت عن تحصيلها بالسياسة ، لنلق نظرة سريعة :

- في الساعات الأولى من انفجار الوضع على الجبهة الإسرائيلية ـ اللبنانية أصدرت المملكة بيانا يحمّل المسئولية عن اشتعال الموقف لحزب الله بشكل واضح صريح ، وبضجيج إعلامي هائل روج للبيان السعودية بوصفه تعبيرا عن حكمة ضل عنها العرب كثيرا ضلالا كلفهم الغالي والنفيس ، وأهم ما عناه هذا البيان نقطتان :

أولاً : أنه ربما للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أن يصطف طرف عربي ضد طرف عبي آخر بهذا الوضوح وينحاز ـ ضمنيا ـ للدولة العبربة وأن يحدث ذلك خصوصا في وقت حرب ، وإذا أضفنا أن للموقف السعودي الجريء هذا بعداً طائفياً لا تخطئه عين حق لنا أن نطالب دعاة العروبة وأنصار "الأمة العربية" أن يقتربوا أكثر من حقائق الواقع في العالم العربي وانقساماته الدينية وغير الدينية .

ثانيا : أن البيان السعودي المذكور قد تعامل بإيجابية بالغة مع حساسية أمنية إسرائيلية بالغة هي الأخرى تتعلق بحزب الله (والنفوذ الإيراني) وثغرة الكاتيوشا وغير الكاتيوشا في الجدار الشمالي للقلعة الصهيونية ، لكن حكومة أولمرت لم ترد بالمثل ، أي لم تراع ـ في المقابل ـ حساسيات سعودية تتعلق بدور المملكة في لبنان وما تتصوره لنفسها من مسئولية سياسية ودينية على المستويين العربي والإسلامي ، لم يحدث ـ مثلا ـ أن ردت إسرائيل ببيان مقابل تقول فيه أنها رغم تحركها العسكري ضد حزب الله ستظل متمسكة بالسلام طبقا للمبادرة العربية (السعودية) .

- لما أوغلت إسرائيل في وحشيتها وبدا أن عمليتها العسكرية ضد لبنان تتجاوز بكثير جدا ما يمكن تصور أنه مجرد رد فعل على أسر جنديين وقتل ثمانية آخرين أرسلت المملكة موفدين إلى واشنطن لـ "حث الإدارة الأمريكية على الضغط على إسرائيل لإيقاف عدوانها على لبنان الشقيق" (حسب اللغة الصحفية الرائجة) ولكن ما أن انتهي اجتماع الموفدين السعوديين مع الرئيس الأميركي حتى خرج المتحدث الرسمي للبيت البيض ليعلن أن موقف الإدارة الأمريكية من حرب اسرائيل على لبنان ..........لم يتغير .

- بصلف إسرائيل وانسداد الباب الأميركي ، وجد السعوديون أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه بعجزهم المطلق عن ممارسة أي تأثير على الأحداث ، أضف أن هذا الضجيج الإعلامي وهذا الوعظ المكثف إذا لم يجد إنجازاً مادياً ملموساً يستند إليه قد يأتي بنتيجة عكسية وخصوصاً لجهة انكشاف قدرة المملكة على الحركة والتأثير أمام نفسها وأمام الرأي العام العربي ، والحق أن الفجوة الهائلة بين تنطع الخطاب الإعلامي السعودي وهزال الأداء السياسي قد أضفت على المملكة ـ سياسةً وخطاباً إعلامياً ـ طابعا كاريكاتوريا لاتخطئه عين .

- مع إدراك السعودين أن قمة القرار العربي والقيادة العربية التى أرادوها من البداية لأنفسهم منفردين "واسعة عليهم" بعض الشيء ، راحوا ينظرون حولهم إلى البلدان العربية الأخرى فوقعت أنظارهم على مصر ، "حسناً إذا كانت "العقلانية" التي ندعيها ـ نحن السعوديين ـ ونبشر بها لم تأت بنتيجة وجعلتنا أضحوكة أمام خلق الله فلماذا لا نجرب بعضاً من "الغوغائية" و "التهور" التي بالغنا كثيرا في هجائهما في الأيام الأخيرة ، لكن لأن الغوغائية ليست من طباعنا وأخر ما يُتوقع منا أن نتهور ، ذلك أن لفعل التهور شروطا لا نملك الكثير منها ، فهي مصر إذاً التي لا تخلو شوارعها على مدار الساعة من "الغوغاء" المتظاهرين وتاريخها القريب حافل بكل أشكال التهور " .

- لكن حتى "الورقة المصرية" استخدمتها السعودية بطريقة بالغة الرداءة : دُعي حسني مبارك لزيارة المملكة ، وقبل وصوله بساعات قليلة صدر عن الديوان الملكي السعودي بياناً جديدا يحذر من أن للصبر حدودا وقد ـ لا سمح الله ـ ينفد ، ويحذر أيضا وبشكل عام من أن المنطقة قد تنجر إلى حرب يتضرر منها الجميع (بما فيهم إسرائيل وربما إيران) ولا يعلم مداها إلا الله ، لكن لماذا يصدر البيان قبيل وصول مبارك ولا يكون بياناً سعوديا- مصريا مشتركا؟ ربما لأن مصر مرتبطة باتفاقية سلام مع إسرائيل وقد يحرجها أن تشترك في بيان يلمح للحرب في المنطقة وحتى لو بصيغة عامة جدا ، وربما لأن المملكة تريد أن تحتفظ لنفسها منفردة بالموقف والقرار على أن يكون دور حسني مبارك هو الدعم والمساندة وليس الشراكة في رسم الموقف أو اتخاذ القرار ، وربما الاعتباران معا ، لكن المهم هو أن العالم الذي لم يلتفت إلى رأي السعودية وهي "عقلانية" لم يلتفت إلى رأيها وهي "غوغائية" ، لا إلى السعودية المسالمة التي تدعو لوقف العدوان ولا إلى السعودية "المتهورة" التي تهدد بـ .......مصر ، والحاصل أن حسني مبارك ـ في طريق عودته ـ أدلى بتصريحات للصحفيين المرافقين له على طائرته لتخرج الصحف المصرية في اليوم التالي بعنوان عريض حاسم لكن فاقع ورديء الصياغة : "مصر لن تحارب إسرائيل من أجل لبنان" .

أجواء كئيبة موحشة شعرت معها السعودية وكأنها تعجلت الصعود على خشبة مسرح دون أن يكون لها دور تلعبه في الدراما الساخنة الدائرة فوقها فتاهت بين الأبطال الفاعلين كلما ولت وجهها شطر أحدهم أعطاها ظهره ، وهنا جاءت حملة التبرعات السخية لتغطي انسحاب هذا الكمبارس الزائد عن الحاجة ولكن أيضا لتخدم أغراضاً أخرى مثل توفير مادة للطبل الإعلامي ، غضافة طبعا إلى ضمان دور سعودي في ترتيب أوضاع لبنان بعد أن تضع الحرب أوزارها وفي المساحة التي سيتركها خلفهم الأبطال الفاعلون (امريكا ، إسرائيل وحزب الله) بعد أن يكون كل طرف من ثلاثتهم قد حقق ما تيسر من أهدافه من الحرب .