الحرب والاقتصاد والسلطة السياسية في الشرق الأوسط
مقال مهم جداً صدر هذا الشهر عن دورية اللوموند ديبلوماتيك
الحرب والاقتصاد والسلطة السياسية في الشرق الأوسط
خاص النشرة العربيّة
ريموند هينّبوش
بناء الدولة بين الأزمة الداخليّة والهيمنة الخارجيّة
لماذا لم تستطِع بلدان الشرق الأوسط بناء دولها المؤسساتية والديمقراطية رغم التهديدات الخارجيّة؟ وما كان دور النفط والمساعدات الخارجيّة في تقويض هذا البناء، في الجمهوريّات والملكيّات على السواء؟ وكيف تواجه الولايات المتحدة هناك أكبر مقاومة وتحديات تقويض هيمنتها؟
يوجد ترابطٌ بين الحرب والاقتصاد والسلطة السياسية؛ لكنّ الترابط بين الحرب والنفط والسلطة أكثر عمقاً في الشرق الأوسط. إذ تمحورت مجموعة من حروب الشرق الأوسط حول السيطرة على مصادر الطاقة العالمية المتمركزة في الخليج؛ فالنفط سلعة إستراتيجية ومن يسيطر عليها يحصل على النفوذ في المنطقة والعالم. كما نشأت مجموعة أخرى من الحروب بسبب الصراع العربي الإسرائيلي. وحدهما أثار كلٌّ من محوري الصراع هذين ما يكفي من المشاكل، ولكن وقعهما مجتمعين كان أكثر تفجيراً، إذ أدّى الدعم الغربي لاستمرار إسرائيل في احتلال أراضٍ عربية وحكم الشعب الفلسطيني إلى تسييس عملية الحصول على النفط. هكذا تحوّل ما هو أصلاً علاقة تجارية عاديّة بين منتجي النفط ومستهلكيه، إلى صراعٍ لتأمين الطاقة.
1. الحرب وبناء الدول: هل تشكّل الحرب والنفط والدولة في الجمهوريّات القومية الاستبدادية العربيّة أعباءً لا يمكن تحملها؟ حالة مصر وسوريا والعراق
أحد التحديات الأساسية في الشرق الأوسط هو ترابط الاقتصاد والحرب مع بناء الدولة. وتشير مصادر العلوم السياسيّة أنّ الحرب والتحضير لها يؤدّيان إمّا إلى دعم أو إضعاف سلطة الدولة، وإلى ازدياد التسلّط أو إلى ارتفاع نسبة المشاركة الديمقراطية. وقد قام برهان تشارلز تيلي [1] الشهير بحسب التجربة الغربية على أنّ “الحروب تُنشئ الدولة والدولة تشنّ الحروب”. فمن أجل المشاركة بشكلٍ فاعلٍ في الحرب كان على القادة بناء دولٍ أقوى، ذات جيوش وإدارات أفضل ضروريّة لجباية الضرائب وحشد الموارد الاقتصادية ولتحريك القوة القتالية البشرية. كما تؤدّي الحرب إلى تمركز السلطة من أجل تحريك الموارد واتخاذ القرارات بسرعة. لكن القيام بالحروب يتطلّب أيضا ً بناء علاقات بين الدولة والمجتمع، لأنّ القبول بدفع الضرائب والتجنيد يعتمد على الشرعيّة، وتتطلّب الشرعية الاعتراف بحقوق الناس السياسيّة والاقتصادية الاجتماعية إلى حدٍّ ما. بالإضافة إلى أنّ أكثر الجيوش فعاليّةً هي جيوش المواطنين الذين تدفعهم المشاعر القومية كما أظهرت ذلك جيوش الثورة الفرنسية. ولقد أدت المشاركة في الحروب إلى نتائجٍ إيجابية بالنسبة للأوروبيين فيما يتعلّق ببناء الدولة والديمقراطية، بالرغم من أنّ ثمن هذه المكاسب كان باهظاً.
تطوّرت دولة الأمن القومي في الجمهوريّات الأساسية في الشرق الأوسط بالتوازي مع مشاركتها في الحروب، خاصّة في مصر وسوريا على الحدود مع إسرائيل، وفي العراق مع الخليج. وقد جعلت تلك الدول السلطة مركزيّة، وطوّرت إدارات ضخمة محترفة وقوّات عسكرية مسلّحة، واحتوت القوى الاجتماعية ضمن بنى تعاونيّة وحقّقت بعض الشرعية القومية. هكذا بدا أن الحرب تتماشى مع بناء الدولة، في البداية على الأقل.
لكن الحرب لم تؤدّي إلى الديمقراطية في الشرق الأوسط. بدلاً من ذلك، لحظ غريغوري غوز [2] الترابط بين المشاركة في الحرب وحجم الجيوش واتّساع الاستبداد. فقد استخدمت الحرب والتخوّف من الحرب لشرعنة الحكم الشموليّ ولتسهيل عمليّات قمع المعارضة وتوسيع سيطرة الدولة على الاقتصاد.
لماذا اختُزلت علاقة تيلي في المنطقة؟ بالتأكيد، اعتمدت هذه الجمهوريات على التجنيد، وعلى بناء جيوش المواطنين؛ لكنّها أيضاً طوّرت قوات خاصّة لحماية النظام مؤلّفة من مجموعات داخليّة موالية، خفّفت من التأثير الديمقراطي للجيوش المواطنية. كما أخذت الجمهوريات بعضاً من الموارد الاقتصادية من المجتمع، وخاصةً مصر التي حصّلت مبالغ لا بأس بها من ضرائب الحرب بين 1967 و1972. لكن هذه الجمهوريات اعتمدت أيضاً على ريوعٍ خارجيّة، بشكل مساعداتٍ أجنبية أو عائدات نفط. لذلك تدنّت الحاجة للضرائب، ولم تكن إمكانات الخرق الاجتماعي كافية، إذ لم تكن هناك حاجّة ماسّة للتفاوض الاجتماعي حول المشاركة؛ بل على العكس، لقد أدّى الاستحواذ بالريوع إلى تعزيز الطابع العائلي المغلق للسلطة ومنح موارداً للإنفاق على الأجهزة القمعيّة.
بالإضافة إلى ذلك، تبيّن بشكلٍ خاص، أن التأثير الإيجابي للتحضير للحرب على تقوية بناء الدولة قد بقي مؤقّتاً وهشّاً في عدة نواحي. إذ وجد مايكل بارينت أنّ التحضير للحرب قد دعّم بناء الدولة في مصر وإسرائيل في البداية، لكن سرعان ما قوّضها [3]. كما وجد تييري غونغورا [4] أنّ أعباء الحرب قد أصبحت مفرِطة، أثقلت كاهل الاقتصاد، بينما أدّى الأداء السيّء لبعض جيوش الشرق الأوسط إلى تداعي الشرعية القوميّة التي كانت قد قد اكتُسِبَت بصعوبة. هكذا، عندما يتمّ إضعاف قدرة الدولة، وأداءها الاقتصادي وشرعيّتها، تجد الأنظمة صعوبةً في الذهاب نحو الديمقراطية دون المخاطرة بخسارة السلطة.
2. الحرب والملكيات الريعية هل يشكّل اعتماد الأنظمة الملكيّة على الولايات المتّحدة لتأمين أمنها القومي عبئاً لا يمكن تحمّله؟ حالة دول الخليج وإيران
اتبعت الأنظمة الملكيّة الريعية طرقا ً مختلفة عن الجمهوريّات. فمع أنّها تعرّضت للقلاقل من جرّاء حتميّة الصراع للسيطرة على موارد الخليج النفطية بين القوى الخارجيّة والوطنيين المحليّين، وكذلك للتهديدات من قبل الدول المجاورة الأكبر، لم تشكّل تلك الأنظمة جيوشاً قادرة على مواجهة هذه التهديدات. وذلك بسبب مساحتها الصغيرة وعدد سكانها المحدود، أو لأنّ مواطنيها في حالة اقتصادية جيّدة ويرفضون الخدمة العسكرية. أكثر من ذلك، أنّ هذه الأنظمة الملكية لا تثق بولاء جيشها، إذا ضمّت إليه عناصر من الطبقة الوسطى والعاملة، وهو الأمر الذي مفرّ منه في حال أرادت تشكيل جيوش مواطنين قادرة على الدفاع عن أرضها.
هكذا اعتمدت إستراتيجياتها البديلة على اللجوء لحماية قوّة عظمى: بريطانيا سابقاً، والولايات المتحدة حالياً. حيث يسمح هذا الأمر بإبقاء على جيوشٍ صغيرة ويحدّ تشكيلاتها بالعناصر القبلية، ما "قبل الوطنيّة". كما تشتمل هذه الإستراتيجية على الاعتماد على القوّات الجوية المتطوّرة التي يمكن للأمراء تشغيلها، كبديلٍ لجيشٍ ضخم. وتشكّل عمليّات شراء الأسلحة المتطوّرة طريقةً للحصول على الالتزام الغربي بأمنها. يموّل كل هذا من عائدات النفط، وليس من الضرائب؛ لذلك تبقى قدرة الجباية في هذه الدول ضعيفة. فلا يدفع المواطنون الضرائب ولا يقومون بالخدمة العسكرية، ويصبحون بذلك غير فاعلين سياسيّاً، وتبقى الدولة ضعيفة.
ولكن كلفة اعتماد الأنظمة الملكيّة على حماية الولايات المتحدة قد أضحت باهظة جدّاً. فقد تبدّدت مبالغ كبيرة من عائدات النفط لشراء الأسلحة الباهظة من الولايات المتحدة؛ وكان هذا الأمر عاملاً أساسياً لقيام الثورة الإيرانية ضد الشاه. فطالما بقيت الولايات المتحدة قوّة توازن خارج الحدود off-shore، طالما غدت تكاليف الحماية معقولة، يمكن إدارتها؛ ولكنّه بعدما تواجدت الولايات المتحدة بشكلٍ مباشرٍ في قواعد عسكريّة في الخليج، نشأت مشاكل محليّة أضرّت بشرعية الأنظمة؛ بحيث ظهر البرهان أنّ نشوء وتنامي تنظيم القاعدة يرتبط بشكلٍ مباشر مع نموّ التواجد العسكريّ للولايات المتحدة في العربية السعودية. هكذا أضحى هذا التواجد في ظلّ إدارة الرئيس جورج و. بوش ثقلاً لا يُحتمل، خاصّةً وأنّه استخدم قواعده في الخليج لشنّ حربٍ على العراق ضعضعت الاستقرار في المنطقة، بعد أن تمّ تجاهل نصيحة الحلفاء الإقليميين بأنّ هذه الحرب "ستفتح أبواب جهنّم”. ولو لم تعتمد دول الخليج على الولايات المتحدة بشكلٍ كبير للمحافظة على أمنها، ولو كان لديها القليل من الديمقراطية، لكانت حذت حذو تركيا ومنعت الولايات المتحدة من استخدام أراضيها لشنّ حربها على العراق.
هكذا يبدو أنّ العبرة من تجربة الشرق الأوسط هي أنّ الحرب والتحضير لها تقوّي الدولة وتؤدّي إلى المشاركة المواطنيّة، هذا في حال استخرج المال من الداخل، ولكن ليس إلى حدّ تحميل الدولة فوق طاقتها؛ ولكن إذا ما تمّ تأمين الموارد من الخارج وإعفاء المواطنين من القتال أو من دفع الضرائب، فستبقى الدولة عندها ضعيفة وتحت رحمة القوى الخارجية المهيمنة المتربّصة.
3. الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: تجاوز إمبريالي؟ عبر مناهضتها للشعوب ودعمها لإسرائيل تنتج الولايات المتحدّة أزمات دوريّة في الشرق الأوسط تشرّع استمرار هيمنتها أمام القوى الأخرى.
تعتبر العلاقة بين الحرب والقوى العظمى أيضاً موضوع خلاف، وخاصّةً في حالة السلطة المهيمنة المتواجدة حاليا ً في الولايات المتحدة، والتي تتدخّل بشكل متزايد في الشرق الأوسط.
فبحسب نظريّات استقرار نظام الهيمنة، تلعب السلطة المهيمِنة دوراً إيجابياً في نشر قواعد النظام الرأسمالي ومراقبة النظام العالمي وتأمين المصلحة العامة، مثل تأمين وصول الاقتصاد العالمي إلى موارد الطاقة بأسعارٍ معقولة. إذ من المفترض أن تعتمد الهيمنة على شرعيّة زعامتها، وكذلك على الغلبة العسكرية والاقتصادية.
لكن يؤمّن معظم المنظّرين للهيمنة بأنّها غير مستقرة؛ فقد وثّق بول كينيدي [5] نشوء وسقوط قوى عظمى متتالية في التاريخ الأوروبي. هكذا لا تستقرّ الهيمنة، بسبب ما ينتج عنها من إلتزامٍ مفرِط بتأمين الموارد للجيش، الأمر الذي يمكنه تقويض اقتصاد النظام المهيمن. تكون الدولة المهيمنة في البداية على رأس هرم السلطة العالمية لأنّها تملك أكبر الأنظمة الاقتصادية وأكثرها قدرةً على المنافسة وعلى تمويل قوى عسكرية ضخمة. ولكنّ الهيمنة تؤدّي بعد ذلك إلى تحمّل مسؤوليات عالمية واسعة دون حدّ، وإلى الاستمرار بالاستثمار في القدرات العسكرية، خاصّةً عندما تتعدّى بشكلٍ حتميّ على مصالح دول أخرى وتواجه تحدّي نهوض قوّة ثانية أو ثالثة. هكذا يؤدّي الاستثمار المفرط في الجيش إلى استنزاف اقتصادها وبالتالي إلى سقوطها.
فما هو الدرس من تواجد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟ لقد قال عدّة باحثين مثل سيمون بروملي ودافيد سبيرو [6]، أنّ سيطرة الولايات المتحدة على نفط الخليج هي المفتاح الأساسي لتحقيق هيمنتها العالمية. فقد تمّ تقبّل زعامتها في العالم الرأسمالي، لأنّها اعتبرت بالذات أساسيّة لتأمين تدفّق نفط الخليج إلى اقتصاد العالم الرأسمالي؛ وهذا درسٌ برهنته الولايات المتحدة للعالم من خلال اغتنامها فرصة احتلال صدام حسين للكويت. حيث تمكّنت الولايات المتحدة من خلال وجودها وتحالفاتها في الخليج من الحصول على قدرة تنافسيّة بإعادة تدوير البترودولارات، وأصبحت في مركزٍ يسمح لها بتحجيم منافسين كألمانيا واليابان، والصين في الوقت الحالي. هكذا تنتج الولايات المتحدة الحاجة التي تستفيد منها: ففي حين يمكن لتدفق النفط أن يكون ببساطة عبارة عن علاقة تجارية فيها مصلحة للدول المورّدة والمستهلكة على السواء؛ إن ما سيّس الأمر وجعله مسألة أمنيّة هو مناهضة الولايات المتحدة للأنظمة والشعوب في المنطقة، خاصّة من خلال دعمها للمشاريع التوسعيّة الإسرائيلية. وقد نتج عن ذلك نشوء أزمات دوريّة في الشرق الأوسط، تظهر بعنف كل عقدٍ من الزمن تقريباً، فأضحت بذلك هيمنة الولايات المتحدة ضروريّة.
كانت حرب العراق في العام 2003 حدّاً فاصلاً في إشكاليّة الهيمنة الأميركية. فإذا كانت عدّة دول تنظر إلى الهيمنة الأميركية قبلها كأمرٍ حميدٍ، فقد تحوّلت النظرة اليوم لترى هذه الهيمنة مؤذية. إذ كانت الحرب نتيجة "مشروع القرن الأميركي الجديد" الذي نشأ من تحالف الصقور المتحمّسين لدعم السلطة العالمية الأميركية، والمصالح النفطية، والمجمّع التجاري الصناعي العسكري، والمحافظين الجدد المرتبطين بشكلٍ وثيق مع حزب الليكود اليميني الإسرائيلي. وقد جلب انتخاب الرئيس جورج و. بوش هذا التحالف إلى السلطة.
فلماذا اعتبر هؤلاء أنّ الهجوم على العراق مفتاحٌ لمشروعهم؟ المفارقة في الهيمنة الأميركية هو أنّ نفط الشرق الأوسط أساسيّ بالنسبة لها، لكن الشرق الأوسط هو أيضاً مركز المقاومة الأساسي لهذه الهيمنة؛ وقد شكّل التحدّي الذي قام بها صدام حسين رمزاً لهذه المقاومة، وسيبعث خلعه عن الحكم برسالة مفادها "أنّ ما يقوله الأميركيون سيتمّ تنفيذه". وأيضاً اتضح للأمريكيين، أنّه لا يمكن الاعتماد على العربيّة السعودية التي لطالما استندت إليها الولايات المتحدة لتأمين النفط للاقتصاد العالمي بسعرٍ منخفض. إذ كان مواطنون سعوديون قد تورّطوا في أحداث 11/9، كما قلّصت المملكة السعودية من إمكانيّة استخدام الولايات المتحدة للقواعد المتواجدة على أراضيها للقيام بهجماتٍ على العراق. كما يتطلّب استمرار جودة العلاقات الأميركية-السعودية تنفيذ واشنطن لالتزاماتها في مسيرة السلام العربيّة الإسرائيليّة، في حين يؤمّن الدعم المالي الذي تقدّمه الولايات المتحدة توسيع إسرائيل للاستيطان وممارسة سياساتها القمعية على الأراضي الفلسطينية، بالإضافة إلى موقف بوش الداعم لشارون الذي جمّد عمليّة السلام. ولطالما تخوّف المحافظون الجدد أن تفضّل الولايات المتحدة استرضاء السعودية على استرضاء إسرائيل، كما فعل جورج بوش الأب في أوائل التسعينات. هكذا كانت السيطرة على العراق، مع ثاني أكبر مخزونٍ نفطيّ في العالم، هي السبيل للخروج من هذه المعضلات: إذ ستُغني السيطرة على منتجٍ ثانٍ للنفط عن الاعتماد على السعودية، وستسمح بالحصول على النفط العربي دون تلبية المصالح العربية [7].
هل قوّض غزو العراق هيمنة الولايات المتّحدة على العالم؟
ولكن أحداث الحرب لم تجرِ كما خُطّط لها. فقد كان متوقّعاً أن يرحّب العراقيون بالأميركيين كمحرّرين، وأن تكون القدرات العسكرية الأميركية المتفوّقة، والتي دعمتها "الثورة في الشؤون العسكرية" العالية التقنيّة، تستطيع إخضاع العراق، تماما ً كما بدا النصر سهلاً في البداية في أفغانستان. ولكن المقاومة التي قادت حرباً غير متوزانة asymmetric قد برهنت في كلٍّ من العراق وأفغانستان أنّها صعبة الاستئصال. بالطبع لقد ولّدت إرهاباًًً مميتاً، وهي ظاهرة ترتبط بعدم شرعيّة الاحتلال الأجنبي. ولكن بحسب الدراسات المتعلّقة بمواجهة التمرّدات، تتطلب هزيمة هذا النوع من التمرّد محتلٍّ واحد لكلّ 20 من السكّان الخاضعين للاحتلال. وهذا مستوى لا يمكن للولايات المتحدة تحقيقه، لا في العراق ولا في أفغانستان؛ وهكذا فقد تخلّت أمريكا في الوقت الحالي عن المزيد من حملات "تغيير النظام"، مثل الحملة المزمعة ضد إيران، وتعاني من فرط التزاماتها بالقوّات العسكريّة.
كما تبيّن أن التكاليف الاقتصادية باهظة أيضاً. فبحسب المحافظين الجدد كان من المفترض أن تغطّي الحرب تكاليفها الذاتية كما حصل في حرب 1990. ولكن في هذه الحالة، وبسبب انفراد الموقف الأميركي، لم يكُن أيٌّ من العرب في دول الخليج أو غيرهم، كالألمان أو اليابانيين، على استعدادٍ لدفع السعر الذي كان قد جعل حرب 1990 مجانيّةً بالنسبة للخزينة الأميركية. وكان من المتوقّع أن يكون النفط العراقي جاهزاً للضخّ والتصدير بكميّاتٍ يُمكن استخدامها لتمويل الاحتلال، ولكن هذا التوقّع قد خاب أيضاً. وبالنتيجة، فقد تمّ إنفاق الفائض في الميزانية الحكوميّة الذي خلفه عهد الرئيس وليم كلينتون، واستبدل الأمر بعجزٍ في الميزانية بترليونات الدولارات. وعلى مستوى أعمق، تمثّل الولايات المتحدة إمبراطورية عجزٍ ماليّ تسحب مدّخرات الآخرين، بدلاً من تصدير رؤوس الأموال كما فعلت الإمبراطوريات السابقة. وقد أدّى إطلاق عنان ارتفاع أسعار النفط بسبب عدم الاستقرار في الخليج بعد العام 2003 إلى جعل الاقتصاد العالمي هشّاً، عرضةً لأزمة مالية ولفقدان الثقة بشكلٍ عام.
فهل سيتمّ كبح الميول العسكرية الأميركية؟ وهل سيملي التجاوز الإمبريالي الآن تراجعه حتميّاً؟ بالرغم من الوضع في العراق، تخطّط مؤسسات الأمن القومي في الولايات المتحدة لزيادة عدد الجنود الأميركيين، وخلق قوّات جديدة لمكافحة حركات التمرّد، وتأسيس نوع من الخدمة الاستعمارية، إذ من المتوقّع حصول عمليات احتلالٍ أخرى في حربٍ مستمرّة على الإرهاب مركَّزة على العالم الإسلامي. وليس من المؤكّد أن انتخاب رئيسٍ جديدٍ كافٍ لتحويل زخم طاغوت الأمن القومي الأمريكي، مع المصالح الهائلة المعنيّة، القادرة على اختزال أماني ومخاوف الناخبين العاديين حول صناعة السياسات.
فبالنظر إلى الصورة على المدى الطويل، نجد أنّ الولايات المتحدة قد انغمست بشكلٍ متزايد، بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة، في حروب المنطقة، إمّا حول النفط أو تلك المتعلّقة بإسرائيل. وقد ترافقت حروب الشرق الأوسط عبر التاريخ مع ارتفاع أسعار النفط، الذي ترافق بدوره مع تركيز الثروات في الشركات المالية والنفطية الكبرى، بعيدا ً عن مصالح العمّال والشركات الصغيرة. وقد ساهم تفجّر أسعار النفط بسبب الحروب في المنطقة وما نتج عن ذلك من إعادة تدوير للبترودولارات إلى خارج المنطقة، بشكلٍ كبيرٍ في كساد السبعينات المتزامن مع التضخّم stagflation، الذي سمح لرونالد ريغان ومارغاريت تاتشر بإلغاء دولة الرفاه، وأطلق أزمة الديون وأرّخ لعقد التنمية المفقودة في أميركا اللاتينية. كما ساهم أيضاً، من خلال ترسيخ عولمة الرأسمالية المالية وسلطتها على الدول، في دفع الأنظمة الليبرالية الجديدة غير المنتظمة ورأسمالية الكازينو التي أنتجت الأزمة المالية في العام 2008. ومثل الأزمات السابقة، جلبت هذه الأخيرة التعاسة للمواطنين العاديين، بينما تمكّن عددٌ قليلٌ من الهرب بثرواتٍ مذهلة.
لقد أصبحت نتائج التجاوزات على الهيمنة الأميركية واضحة. فقد تمّ تبذير أموال الولايات المتحدة في العراق، وبدّدت أمريكا هناك "قوّتها الليّنة". ويتعرّض النموذج الاقتصادي الأميركي الليبرالي الجديد الآن للخطر بسبب الأزمة المالية. وقد تراجعت نسبة القبول بالولايات المتحدة كسلطةٍ مهيمنةٍ إيجابية لها الحق في الريادة بسبب تصديرها لمشاكلها الاقتصادية والأمنية، وإيقاعها الكثير من التكاليف على عاتق الآخرين. هكذا بدلاًً من تقديم المصالح العامة، تقدّم الولايات المتحدة الخسائر العامة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة سانت أندروز، سكوتلاندا؛ من مؤلّفاته: The Iraq War: Causes And Consequences, Lynne Rienner Pub, 2006 ; State and the Political Economy of Reform in Syria, Riener Pub, 2008.
[1] Charles Tilly, Coercion, Capital and European States, 990-1992, Blackwell, 1992 Gregory Gause, "Regional Influences on Experiments in Political Liberalization in the Arab World," in Brynen, Korany and Noble (eds.), Political Liberalization and Democratization in the Arab World: Theoretical Perspectives, (Lynn Rienner, 1995)
[2] Gregory Gause, "Regional Influences on Experiments in Political Liberalization in the Arab World," in Brynen, Korany and Noble (eds.), Political Liberalization and Democratization in the Arab World: Theoretical Perspectives, (Lynn Rienner, 1995)
[3] Michael Barnett, Confronting the Costs of War: Military power, State and Society in Egypt and Israel, Princeton University Press, 1992.
[4] Thierry Gongora, “War Making and state power in the contemporary Middle East,” International Journal of Middle East Studies, 29, 3, August 1997, 323-40.
[5] Paul Kennedy, The Rise and Fall of the Great Powers, Random House, 1987.
[6] Simon Bromley, Oil and American Hegemony, Polity Press, 1991; David Spiro, The Hidden Hand of American Hegemony, Petrodollar Recycling and International Markets, Cornell University Press, 1999
[7] Raymond Hinnebusch, “The US Invasion of Iraq: explanations and implications,” Critique: Critical Middle Eastern Studies, 16,3, 2007, 209-28
هذا المقال هو نصّ محاضرة قدّمها ريمون هينّبوش في ندوة في المعهد الدنماركي في دمشق تحت عنوان: "ملكيّة الاقتصادات العربيّة؛ التداعيات السياسيّة والاجتماعيّة، وكيف تصوّر في وسائل الإعلام الأوروبيّة"، 11-12 تشرين الثاني/نوفبر 2008.
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-23-2008, 03:22 PM بواسطة ابن سوريا.)
|