الانفعالات وتأثيرت الأحاسيس والانفعالات علينا
الانفعالات
إن الوظيفة الأساسية للانفعالات هي رفع جاهزية وقدرة الفعل والاستجابة , التي تعتبر مناسبة وفعالة في مواجهة ما يتعرض له الكائن الحي , وهي موجودة فقط لدى الحيوانات الراقية .
فهناك انفعالات أساسية نشترك بها مع الثدييات الراقية و الرأسيات, وهي انفعال الغضب والخوف والحب....., وهي انفعالات أساسية قديمة لدينا.
وقد نشأت لدينا نتيجة حياتنا الاجتماعية انفعالات جديدة وهي خاصة بنا, فهي تكونت نتيجة العلاقات الاجتماعية , و الحضارة والثقافة والعقائد..., وقد نشأت وتطورت أنواع كثيرة من الانفعالات نتيجة لذلك.
والانفعالات دوماً تكون مترافقة مع أحاسيس خاصة بها .
وهناك انفعالات إخبارية مثل الدهشة والتعجب والترقب والضحك, وهناك انفعالات مثل الحب والحنان والصداقة, والزهو, الغيرة, الحسد , والكراهية....., وكل هذه الانفعالات ترافقها أحاسيس معينة خاصة بكل منها.
وأحاسيس الانفعالات لا تنتج عن واردات أجهزة الحواس فقط , فهي تنتج بعد حدوث تفاعلات وعمليات في الدماغ والذاكرة بشكل خاص, بالإضافة إلى عمل وتأثيرات الغدد الصم , فالغضب لا يحدث لدينا إلا بعد معالجة فكرية , والتي تتأثر بالذاكرة وما تم تعلمه, وهناك تأثير متبادل بين الدماغ والغدد الصم, ويمكن المساعدة في إحداث الانفعالات باستعمال تأثيرات كيميائية وفسيولوجية.
أما الضحك والاندهاش وبعض الانفعالات المشابهة فآلية حدوثها تعتمد بشكل أساسي على عمل الدماغ ويكون تأثير مستقبلات الحواس غير أساسي .
والأحاسيس الناتجة عن انفعال رعشة الحب تحدث بمشاركة تأثيرات دماغية مع تأثيرات انفعالية مع تأثيرات المستقبلات الحسية.
وهناك الأحاسيس الناتجة عن انفعالات النصر أو الفوز والنجاح , أو الهزيمة والفشل, وغيرها وهي تشبه في بعض النواحي انفعال الضحك بأنها تعتمد بشكل أساسي على معالجة ما هو مخزن في الذاكرة. فهناك الكثير من الانفعالات المتطورة التي تكونت لدى البشر نتيجة الحضارة والثقافة وهي ليست عامة بين البشر, فهي لا زالت في طور التشكل والتطور والانتشار .
و يبقى الضحك انفعالاً مميزاً وهو ليس آخر الانفعالات التي نشأت لدى الإنسان, وهناك علاقة بين انفعال الضحك والتعجب والمفاجأة والتوقع والتناقض , فالضحك يحدث نتيجة المعالجة الفكرية للحوادث والأفكار والتناقضات..., فالغباء والأخطاء والتناقضات الواضحة أو المستورة قليلاً والمبالغات ... هي من عوامل حدوث الضحك , وإن آلية حدوث الضحك تعتمد على:
1- التناقض أو سير الأحداث بطريقة غريبة وغير متوقعة, أو بشكل عكسي
2- المفاجأة بحدوث غير المتوقع, وحدوث المدهش , أو ظهور الغباء مع ادعاء الذكاء, أو أدعاء القوة بينما هناك الضعف أو العكس.
3- المبالغة, يا له من غبي جداً- يا له من ذكي جداً يا له من ماكر جداً.......
4- تفريغ المشاعر العدائية أو الجنسية ... والمطلوب إخفاؤها أو كبتها .
إن كافة الانفعالات هي نتيجة الدوافع ولها دور و وظيفة فسيولوجية وعصبية ونفسية , وكذلك الضحك , فوظيفته الظاهرة هي الشعور بالغبطة والسعادة, وله دور و وظيفة أعمق من ذلك وهي غير ظاهرة - سوف نتكلم عنها لاحقاً- فانفعال الضحك نشأ أخر الانفعالات لدى الرأسيات الراقية فهو موجود بشكل محدود لدى الشمبانزي والأورانج أوتان .
الضحك, والنكتة والمزاح
من أهم طرق الإضحاك لدينا هي النكتة وآليات النكتة كثيرة منها:
نتهيأ فكرياً ونفسياً لاستقبال شيء ما, ونحن نحاول استقبال هذا الشيء نجد أنه اختفى ليحل محله شيء آخر لا نتوقعه , ولكن في اللحظة التي يتم فيها هذا الإبدال نلحظ شيئاَ, أن البديل يحمل مفاجأة لنا , أي في لحظة الإحباط نجد ما يعوض خسارتنا بما هو أفضل . والنكتة تحرر من الإحباط والكبت والتوتر. فآلية المفاجأة السارة , أو غير السارة أيضاً من آليات النكتة بشرط أن تكون المفاجأة غير السارة لا تحدث لنا بل لعدونا أو غيرنا,
مثال على ذلك: ما يحدث في فلم السباق الكبير للممثل توني كورتيس عندما يقوم مساعده بتخريب بعض السيارات المنافسة لهم في السباق, فيقول له أنظر ماذا يحدث للسيارة رقم 20, فينظر إليها توني فإذا بأحد دواليبها يخرج من مكانه وتنحرف السيارة نحو الغابة وتسقط في بركة ماء, فيفرح كثيراً لأنه تخلص من أحد منافسيه ثم يتابع مساعده يقول أنظر إلى رقم 32 , فينظر توني إليها وهي تسبقه, ولكن ينكسر مقودها ويفقد السائق السيطرة عليها وتندفع لتصطدم بعش للدجاج , وأيضاً يفرح توني, ثم يتابع مساعده فيقول بفخر والآن انظر ماذا يحدث للرقم 5 , هنا يصعق توني ويقول له إنها سيارتنا وينفجر المحرك قبل انتهاء كلامه , في هذه النكتة المفاجأة ليست سارة ومع ذلك فهي مضحكة جداً.
وهناك آلية للنكتة تعتمد على الحمق والغباء الشديد مع ادعاء الذكاء والحنكة , كما في النكتة السابقة, فالمساعد يعتبر نفسه شديد الذكاء لأنه يتخلص من المنافسين لسيده ولكنه تخلص من سيده أيضاً.
وهناك آلية للنكتة تعتمد على معاقبة المغرور أو المتكبر و الواثق من نفسه بتعرضه للفشل المتكرر واستمراره بالغرور, أو تعتمد على المبالغة بالغرور, أو على الخجل الشديد , أو الكذب الكبير,
وهناك آلية للنكتة تعتمد على الإحباط للمتباهي كأن يدعي أحدهم أن لديه شيئاً عظيماً أو عجيباً ويريد أن يتباهى به ويتفاخر, وعندما يطلع الآخرون عليه يجد أن ما لديهم منه أعظم وأعجب ,
أو أن أحدهم يتحاشى بذكاء ومهارة الوقوع في حفرة أو خطاْ , وعندما يفرح وينتشي بنجاحه يسقط في حفرة أو خطأ أكبر من الذي تحاشاه, كأن يهرب من كلب ليقع بين براثن أسد دون أن يدري وهو يظن أنه تحاشى الخطر
الانفعالات تولد أقوى الاستجابات
إن الغضب , والحقد , والإحباط , و الكآبة , والرعب , والقلق ,..... وكافة الانفعالات المؤلمة والمجهدة للجسم وللجهاز العصبي وخاصة دارات القلق والتردد والندم والوسوسة, والتي تعمل باستمرار تستهلك الطاقات العصبية بكميات كبيرة , بالإضافة إلى أنها تؤدي لجعل الجسم والدماغ يفرز الكثير من المواد الكيميائية العصبية والهورمونات التي تجهد العقل والجسم بدون داع في أغلب الأحيان .
إن كل هذا يمكن أن يخفف أو تتم السيطرة عليه, وذلك بقطع أو إيقاف هذه الدارات العاملة , بواسطة الموسيقى والأغاني الجميلة وبواسطة النكتة والمزاح , ويكون تأثيرهم فعالاً وسريعاً في أغلب الأحيان, إلا إذا كانت تلك الدارات قوية جداً فعندها يصعب تقبل الموسيقى أو المزاح والتنكيت.
التأثير المتبادل بين المزاج والتفكير
لقد لوحظ وجود علاقة بين التفكير والتذكر والأحاسيس والانفعالات من جهة والمزاج من جهة أخرى - وأقصد بالمزاج الوضع الكيميائي والكهربائي للدماغ- , فعندما تكون فسيولوجيا الدماغ - وهي تتأثر بحوالي مئة مادة وغالبيتها ينتجه الدماغ أثناء عمله والباقي يصل إليه عن طريق الدم- في وضع معين تؤثر على التفكير والأحاسيس بشكل مختلف عنه فيما لو كانت في وضع أخر . وفلم شارلي شابلن مع السكير الغني مثالاً على ذلك: فالرجل الغني يتعرف على شارلي و يكون صديقه عندما يكون ثملاً, وعندمايصحو لا يتذكره ولا يتعرف عليه.
وقد أظهرت التجارب على الفئران أنها تتعلم الجري بالمتاهة عندما يكون في دماغها مواداً كيميائية معينة وتفشل في الجري عندما تختلف كيمياء دماغها عن وضعها أثناء التعلم, وقد تم جعل فأر يتعلم الجري يساراً عندما يكون دماغه معالجاً بمادة معينة, ويجري يميناً عندما يكون دماغه معالجاً بمادة أخرى.
إن للوضع الفسيولوجي للدماغ علاقة أساسية بآليات المعالجة أو التفكير والتذكر , والاستجابات العصبية والانفعالية , فعمل الدماغ العصبي الكهربائي يتم التحكم به بالمواد الكيميائية والتي يتم إنتاجها أثناء عمله, وكذلك نتيجة تفاعله مع باقي الجسم وخاصةً الغدد الصم.
الذي أريد قوله هو: هناك تأثير قوي وواسع للمزاج على عمل الدماغ سواء كان تفكيراً أو تذكراً أو توليد استجابة -أفعال أو أحاسيس- , وبما أن الفرح أو الحزن أو الغضب أو الخوف أو الضحك وكافة الانفعالات تؤدي إلى إفراز مواد كيميائية تؤثر في عمل الدماغ, فتجعل القياسات والتقييمات والأحكام تناسب أوضاع الانفعالات, فإن هذا يجعل عمل الدماغ يتكيف -أو يتلون - ليناسب تلك الانفعالات والأوضاع , وبالتالي تتغير النتائج وتنحرف بشكل كبير.
وبناء على ذلك يمكننا التحكم بتقييماتنا وأحكامنا واستجاباتنا إذا غيرنا انفعالاتنا من الحزن إلى الفرح أو من الإحباط إلى الضحك , أو من الخوف إلى الشجاعة,......الخ .
والإنسان أثناء تطوره استخدم- طبعاً دون وعي منه- هذه الخصائص بشكل كبير, فأخذ يضحك في أو ضاع خاسرة لكي يحول دون إفراز المواد التي تجعل مزاجه سيئاً , لأن الضحك يؤدي إلى جعل المزاج جيداً , فهو- أي المزاج الجيد واللذة والسعادة- كان ينتج بشكل أساسي عند الفوز والنجاح والنصر, فعندما يضحك الإنسان على خسارته أو فشله - شر البلية ما يضحك - كانت استجابة فعالة في التعامل مع الأوضاع السيئة الخاسرة, فإنه بذلك يحول فشله إلى نصر ولو بشكل كاذب لتلافي النتائج المزاجية السيئة الناتجة عن الفشل أو الخسارة , فالنكات تزدهر في الأوضاع السيئة والصعبة لما تحقق من فاعلية في التعامل مع هذه الأوضاع.
فالمزاح والفكاهة والتنكيت لهم تأثير فسيولوجي هام وفعال في رفع طاقات ومعنويات الفرد وزيادة قدرته على امتصاص تأثير الصدمات والتوترات الانفعالية الشديدة, فالمزاح يجعل تهديدات الذات, من قبل الآخرين ضعيفة التأثير, ويمكن التعامل معها بسهولة لأنها لا تحدث انفعالات قوية تستدعي إستنفاراً كبيراً لقدرات الجسم والجهاز العصبي والتي ليس هناك داع لها وتعيق التصرف, ولأن أغلب هذه التهديدات شكلية, وحتى لو كانت هذه التهديدات جدية, فالتعامل معها بروية وهدوء وعدم انفعال زائد وبمعنويات عالية أفضل وأجدى .
فالمزاح والفكاهة ضروريان بشكل خاص للأفراد شديدي الانفعال , فدور المزاح كبير في خفض التوترات والانفعالات الشديدة , وكلما استخدم الشخص الانفعالي المزاح والفكاهة مبكراً في حياته كان ذلك أفضل له في تحقيق التكيف والتعامل المناسب مع الآخرين , والكثير من الناس انتبهوا لميزات الفكاهة والمزاح واستخدموها وحققوا الكثير من الفوائد.
إن التحول من المرح والسعادة إلى الغضب أو الحزن أو الخوف, أو التحول من المزاج الجيد إلى المزاج السيئ يمكن أن يحدث بسرعة ولكن العكس صعب الحدوث , فنحن لن نستطيع إضحاك إنسان فقد إبنه أو حلت به كارثة كبيرة, ولكن نستطيع جعل إنسان في قمة السعادة يتحول إلى الغضب أو الخوف أو الحزن بوضعه في ما يوجب ذلك.
فعندما يحدث الغضب أو الخوف أو الحزن تنتج وتفرز المواد الهرمونية والعصبية التي تنتج المزاج المرافق له, وهذه المواد لاتزول بسرعة لذلك تبقى تأثيراتها فترة من الزمن , وهذا الزمن يختلف من شخص إلى آخر, وكلما كان طول هذا الزمن مناسباً للأوضاع كان أفضل للتكيف معها.
فالاستنفار لمواجهة الأوضاع الخطرة أو الصعبة يجب أن يكون سريعاً, أما فك أو إلغاء هذا الاستنفار فليس هناك ضرورة للإسراع به.
قرع أحاسيس الانفعالات
إن أحاسيس الانفعالات لا تحدث بسهولة, فيجب حدوث الانفعال المطلوب أولاً لكي يحدث الإحساس المصاحب للانفعال , ولإحداث الانفعال يجب التحضير والتمهيد له جسمياً ونفسياً وعصبياً , فإحساس الضحك مثال على نوع منها, وانفعال الضحك ليس من النوع الصعب جداً إحداثه, بعكس رعشة الحب التي ليس من السهل إحداثها فيجب التحضير الجسمي والنفسي لها , ومن أحاسيس الانفعالات الأحاسيس الناتجة عن الأعمال الأدبية والسينمائية , وعن الخطابة وغيرها, فهي تحتاج إلى تهيئة المتلقين لها, وامتلاكهم لخصائص نفسية وفكرية مناسبة لكي يتسنى إحداث الانفعالات المطلوبة لديهم , وأغلب أحاسيس الانفعالات إن لم يكن كلها, سواء كانت أحاسيس انفعال الغضب أو الحقد أو الخوف أو الحزن أو اليأس والإحباط..... أو كانت أحاسيس انفعالات الفرح أو النصر والفوز أو الشجاعة أو السمو ..... , لا يمكن إحداثها أو التحكم بها بسهولة وبساطة, فلا بد من التحضير والتمهيد لها نفسياً وفكرياً.
وهذا يجعل الفنون التي تسعى لإحداث أحاسيس الانفعالات مثل الخطابة والأدب والسينما والموسيقى , ليس من السهل إحداثها وقرعها لدى المتلقين, فهي تحتاج إلى إمكانيات وخبرة من الذين يريدون جعل الآخرين يتأثرون بها ويتذوقونها , فإحداث أحاسيس الانفعالات أصعب بكثير من إحداث كافة أنواع الأحاسيس العادية .
تأثير الأحاسيس الجديدة على بقايا الحسية السابقة .
هناك مثل يقول : " طعمي الفم بتستحي العين " , فالمؤثرات السعيدة أو اللذيذة تضعف بقايا المؤثرات المؤلمة أو المزعجة السابقة ، وكذلك المؤثرات المؤلمة تضعف بقايا المؤثرات السعيدة السابقة .
إن الأحاسيس القوية يبقى تأثيرها لفترات متفاوتة حسب طبيعة وصفات كل شخص فتزول عند البعض بعد فترة قصيرة وعند آخرين بعد فترات متوسطة وعند البعض الآخربعد فترات طويلة , والمؤثرات الحسية الانفعالية القوية تبقى على الأغلب تتردد - تطن - في الجهاز العصبي لفترات طويلة , ويمكن أن نؤثر عليها بإحداث أحاسيس قوية جديدة ، وكلنا لاحظنا تأثير الأحاسيس المزعجة أو المؤلمة على حالة من الإحساسات السعيدة السابقة لها ، أو العكس تأثير أحاسيس سعيدة ولذيذة قوية على بقايا أحاسيس مؤلمة أو حزينة ، والمهم في هذه الظاهرة هو أن تكون الطنينات الحسية الجديدة قوية و أقوى من الطنينات المراد إلغاؤها أو إضعافها فعملية الكف تصبح أسهل وأسرع , وكل الطنينات الحسية الجديدة تؤثر على السابقة بدرجات متفاوتة .
إن هذه الظاهرة يستخدمها كافة الناس بفاعلية في علاقاتهم الاجتماعية والتجارية والسياسية .... وهي تحقق الكثير ، فبعضهم يستطيع أن يجعل الرجل المتفجر غضباً يهدأ ويقبل بما كان من المستحيل قبوله , ونحن نشاهد زوجين في قمة الغضب والحقد والكراهية وفي اليوم التالي نجدهم على أتم وئام ووفاق ومحبة , وقد كان ندماء الملوك متخصصين في ذلك, وكذلك كان البعض يستغل هذه الظاهرة عندما يقابل الملوك والأمراء فيمتدحهم أو يضحكهم أو يفرحهم ... ويحصل على المكافأة المجزية.
تأثر الأحاسيس والانفعالات بالتوقع والآمال والترقب
إن التوقع والترقب يؤثر على الأحاسيس , فالتوقعات التي تحدث قبل رحلة أو قبل موعد جميل أو قبل ربح أو فوز, أو قبل عقاب قادم أو قبل موقف سيئ قادم ...الخ يكون لها تأثيراتها الخاصة بها ، ويكون لها تأثيراً كبيراً أيضاً على الأحاسيس النهائية عند تحقق أو عدم تحقق التوقعات و الترقبات المعتمدة.
هذه التوقعات يمكن أن تخفض أو ترفع أو تغير الأحاسيس النهائية التي سوف تحصل ، فعندما نقول لك بأننا سنقدم لك حلوى فأنت ستتوقع الحلاوة وأشياء معينة ، فإذا كانت تلك الحلوى مالحة أو مختلفة فإنك سوف تفاجأ وتكون أحاسيسك مختلفة ومتأثرة سلباَ أو إيجاباً بالتوقع الذي اتخذته, والذي يذهب إلى فيلم قيل عنه بأنه عاطفي أو يتوقع بأن يكون عاطفياً , ثم يجده فيلماً هزلياً أو بوليسياً فسوف يكون تأثيره مختلفاً .
فالأهداف والتوقعات والآمال لها تأثير كبير وهام جداً على الأحاسيس , وبالتالي على تذوق الوجبات, والنكتة بشكل خاص تعتمد على التوقع والترقب واستخدامهما في إحداث المفاجأة أو التناقض الذي يحدث انفعال الدهشة والضحك , وكذلك يكون للمفاجأة تأثيراً كبيراً على أغلب الأحاسيس و على الأفكار والمعارف أيضاً, فهي تضخم الأحاسيس ويمكن أت تغيرها، فالمعارف المقدمة عن طريق المفاجأة أوالتناقض بالتوقعات يكون تأثيرها كبيراً ، وبالتالي يكون حفظها سهلاً ، فمثلاً إذا قلت لك بأن هذه فكرة جيدة ومناسبة في وضع معين ، ثم وجدت أثناء تعاملك معها أنها فعلاً جيدة جداً وأفضل مما توقعت ، عندها سوف يتضخم تأثير هذه الفكرة لديك وسوف تعطيها أهمية أو قيمة أكبر مما تستحق . وكذلك الفكرة المعتبرة بأنها سيئة أو غير مناسبة ، وبعد تطبيقها وظهورها بأنها سيئة فعلاً سوف يتضخم تأثيرها السيئ أكثر مما تستحق , وهذا يشبه وضع المتهم الذي كان يشك كثيراً به ويثبت أنه هو المذنب ، عندها يتضخم الغضب عليه وينظر إليه على أنه مذنب أكثر من الواقع .
لذلك يكون تأثير البرهان القبلي - مهما كانت النتيجة- قوياً ومهماً , فالبرهان الديني أو الفكري أو السياسي أو العلمي يقوي ويضخم الأحاسيس النهائية الناتجة .
وهذا ما نلاحظه أيضاً في تأثير الأدوية والعلاجات فيمكن للماء العادي إذا قدم للمريض على أنه دواء أن يشفيه من مرضه نتيجة التوقع والترقب , أو مع المعارف والأفكار التي ظهرت فائدتها في أوضاع ومجالات معينة ، فيضخم مفعولها وتستخدم في أوضاع ومجالات أخرى مختلفة , فالتوقع له تأثيرات على الأحاسيس والانفعالات نتيجة بناء التوقعات والتي هي بمثابة معاني .
" ففي تجربة على أربعة أشخاص , أعطوا جميعاً مادة منشطة ومفرحة " نوع من المخدارات" وقيل لإثنين أنها مادة منشطة , ولم يقال للآخرين شيئأ . وكانت النتيجة أن الذين عرفا أنها مخدر وتوقعا النشاط والفرح حدث لهما فعلاً النشاط والفرح , أما الآخرين فقد شعرا بالطاقة الزائدة, والقلق الانجعاز لأنهما لم يكونا يتوقعا شيئاً " من برنامج تلفزيوني عن الدماغ -
وكذلك فإذا ظهر ضرر بعض المواد أو المعلومات أو الأفكار في مجال معين فسوف يضخم هذا وينظر لها على أنها ضارة في أغلب المجالات والأوضاع , فتركيز الانتباه على إحساس أو فكرة معينة متوقعة يعطيها أفضلية .
فتركيز الانتباه على توقع حدوث أحساس معين يوسع ويضخم من قوى وتأثير هذا الإحساس , فالذي يدخل ساحة الوعي والشعور يأخذ أفضلية في المعالجة والاهتمام به, وبما أن الترقب والتوقع يحدث أحاسيس فإن هذا يعطيها قوة وأفضلية للاهتمام بها ومعالجتها , وهذا يجعل نتائج التوقع والترقب تتضخم تأثيراتها وأهميتها ، فالفشل أو النجاح المتوقع يكون تأثيره خاصاً ومختلفاً عنه في حالة عدم توقعه ، ويمكن أن يحدث عكس المتوقع وهنا تحدث المفاجأة , فالمفاجأة تحدث عند عدم حدوث المتوقع أو حدوث عكسه ، وتكون تأثيراتها قوية .
إن التعزيز في الإشراط هو التعامل مع الطنين الحسي المتوقع ، فهناك انتباه وشعور متوقع للإحساس الذي سوف يحصل ، وهذا هو مولد الإشراط ، وهذا يظهر تأثير الوعي والشعور في التعلم .
إن التوقع والترقب هو تحضير أو اشراط ، ويمكن أن يعزز أو يكف أو يعدل الاستجابات .
التوقع والسببية
والتوقع هو أساس التنبؤ الذي هو أساس المعارف ، وهو الذي ينتج السببية ، فالسببية هي تحديد وتعيين واختصار واختزال للتوقعات ، فهي تعتمد على اختزال المؤثرات وتحديد وتعيين الاستجابات , فالمؤثرات أو الأسباب تختزل بمؤثر أو بسبب واحد ، فهي تختزل الأسباب وترتكز على سبب أساسي واحد نتيجة آليات الترقب والتوقع , فأهم آلية في التفكير هي التوقع وما ينتج عنه من آليات داعمة ومصححة.
والتوقع هو الذي يفرض ويحدد مجال ومنحى سير التفكير أو المعالجة،لأنه يعين ويحدد الاستجابات والأهداف ، فبعد أن يتم تحديد البدايات والمنطلقات نتيجة تحديد المؤثرات التي تم استقبالها, تتشكل التوقعات والتنبؤات التي تحدد الاستجابات المستقبلية ، وبالتالي تتحدد الأهداف والغايات بناء عليها .
ويجب أن لا ننسى أن التوقع في أساسه إشراط تم بناؤه .
تأثير الدوافع والأحاسيس والانفعالات على الأحكام العقلية
إن العقل البشري عندما يعمل ويقوم ببناء تمثلاته وأحكامه سواء للماضي أو للحاضر أو للمستقبل لا يراعي فقط المنطق والسببية وباقي آليات عمله ، بل يراعي أيضاً تأثيرات حواسه وانفعالاته ورغباته وقيمه ، لذلك عندما ينشئ تمثلا ته أو أحكامه بالاعتماد على المعلومات التي لديه يدخل أيضاً عليها - أو تدخل عليها - أيضاً تأثيرات أحاسيسه وانفعالاته ورغباته وقيمه ، فتنحرف هذه الأحكام لتلائم غاياته وأحاسيسه وقيمه ، وهو كثيراً ما يستغل المعلومات غير الدقيقة لكي يدخل تأثيرات رغباته وأحاسيسه المتفقة معها ويتحاشى المعارف الدقيقة والتي لا تتفق مع غاياته ودوافعه مثال على ذلك : بناؤه للأساطير والقصص عن الماضي بما يناسب المعلومات التي لديه , وبعد أن يضيف عليها رغباته وأحاسيسه ، ويخرج مثالاً أو صورة للماضي تحقق بالدرجة الأولى رغباته ودوافعه ، ويعتبر هذه الصورة هي المرجع الذي يعتمد عليه في تصرفاته ، وهو يقوم دوماً بتعديل لهذه الصورة أو المثال ليستوعب كل ما يصادفه من وقائع وأحداث تجري له ، فهو إما أن يعدل قليلاً من مثاله أو صورته ، أو يكيف الأحداث ويربطها مع بعضها بما يوافق مثاله الذي يعتمده ، وغالباً ما يقوم بالتحوير والتعديل لتفسير الأحداث وليس تعديل مثاله الذي يكون بمثابة مرجع أساسي له .
ونحن نشاهد مثالاً آخر على تأثير الأحاسيس والدوافع الذاتية على المعلومات والمعارف عند ملاحظة تصوراتنا لأحداث وأمور تحدث لشخص نحبه أو نكرهه أو نغار منه... ، فإننا نجد أن أغلب السيناريوهات التي نضعها لمستقبل هذا الشخص بغض النظر عن المعلومات المتوفرة لدينا عنه وعن أوضاعه أنها سوف تخضع في المحصلة إلى رغباتنا وإحساساتنا تجاهه ، فإن كنا نبغضه نرى أن نتيجة هذه السيناريوهات على الأغلب هي الضرر له ، وإذا كنا نحبه نجد أنها,النجاح والسعادة ، وإذا كنا نغار منه نجد أنها الفشل والخسارة , ولكن وبعد أن تجري الأحداث وتحدث الوقائع نجد أن أحكامنا وتوقعاتنا – آمالنا- كانت على الأغلب غير دقيقة ، فقد نجد أن عدونا الذي نكرهه نجح وفاز ، والذي نحبه ونرغب بنجاحه فشل ، والذي كنا نغار منه نجح وتقدم .
ونحن نلاحظ تأثر أحكامنا وتصوراتنا بانفعالاتنا ورغباتنا بشكل واضح عندما نكره شخصاً معيناً، فتتكون أحكامنا وتصوراتنا من خلال هذا الكره ، وعندما نعود ونتصالح معه تعود وتتغير أحكامنا بما يناسب ذلك ، مع أن الشخص نفسه وأغلب الأوضاع ما زالت متشابهة ، فالأحكام العقلية مهما كانت تسعى لتكون محايدة وموضوعية فإنها تتأثر بالأحاسيس والدوافع والرغبات التي تكون مرافقة لها
إضفاء الدوافع والأحاسيس والانفعالات والقيم البشرية على البنيات والمفاهيم الفكرية
إن غالبية الكتاب والمفكرين يعاملون البنيات الفكرية الشيئية - الهويات - على أنها كائنات حية لها أهداف وغايات وعندها خير وشر وتخطئ وتصيب ......الخ, وهذا ناتج عن التطور اللغوي والاجتماعي والنفسي والعصبي المرتكز إلى الأسس البيولوجية والفزيولوجية والغرائز وباقي الآليات الحيوية .
فالتواصل بين البشر في هذه الأوضاع اللغوية والاجتماعية والنفسية والغريزية والحيوية فرض ذلك ، وجعل التعامل مع المفاهيم التي تصف وتمثل الأشياء- الأسماء أو الهويات- كأنها كائنات حية , فتوصيل المفاهيم والمعاني والأفكار يكون أسهل وأسرع وأفضل عندما تحمل مضامين الأحاسيس والمفاهيم والمعاني البشرية .
لننظر إلى ما يكتبه أغلب المفكرين فنشاهد أمثلة واضحة على ذلك- تحميل البنيات الفكرية الاسمية الخصائص الفكرية والنفسية والمعاني البشرية - أمثلة : فشل العلم في تحقيق كذا - نجحت المدرسة كذا في تحقيق كذا – تفوق العلم على الأدب - تشارك الأدب مع الفن في إنجاز كذا وكذا ......وهناك الكثير, الكثير.
المعرفة مقابل الإحساس والشعور أو العلم مقابل الفن
صحيح أن الإحساس والشعور والوعي هم الأساس والمرجع النهائي بالنسبة لكل منا, ولكن تظل المعرفة والتنبؤ- وهي أيضاً حالة من الشعور والوعي- هي الوسيلة الأساسية للتحكم الأفضل , فالمعرفة تظهر لنا الوجود وكافة مناحيه اللا متناهية وتظهر أن هذا الوجود هو أصل وجودنا وأننا جزء بسيط منه وتظهر تأثيرات هذا الوجود على أحاسيسنا ووعينا , والآن إذا أردنا تقييم المعرفة و الشعور, أو العلم والفن, أي مقياس نختار ونعتمد؟
أنعتمد التقييم الحسي الذاتي ؟ أم التقييم المعرفي الوجودي - أو الموضوعي- العام؟
هل نعتمد الممتع أم المفيد للقياس والتقييم ,أي هل نعتمد أفضلية الشعور وأنه الأساس , أم نعتمد المعرفة العامة ؟
هل نعتبر الخير هو اللذيذ والممتع والجميل والشر هو المؤلم والمزعج والقبيح,أم نعتبر أن الخير هو المعرفة العامة الدقيقة والتي توضح المفيد والضار وتوضح الممتع والمؤلم, والشر هو المعرفة غير الدقيقة أو الخاطئة؟
هل المطلوب الممتع أم المفيد, أم الاثنان معاً؟
إننا في الواقع نجد أن الخيار ليس في يدنا, فنحن مبرمجون - وراثياً فزيولوجياً وتربوياً واجتماعيا - شئنا أم أبينا, نحن نستطيع أحياناً خرق ومخالفة هذه البرمجة, ولكن على الأغلب سوف نتعرض لقوى وممانعات تجبرنا على الالتزام بما برمجنا عليه.
ونحن نسعى للممتع والمفيد معاً ولكن بعضنا يعطي للممتع أو الممتع في الحاضر الأفضلية, وبعضنا الآخر يعطي للمفيد وللممتع في المستقبل الأفضلية وهو يحول الواجب إلى مفيد والمفيد إلى ممتع ويجعل قيامه بالواجب هو المفيد وبالتالي هو ممتع , فقيامه بالواجب أو المفروض يولد لديه السعادة والإمتاع "عميل منيح وكب بالبحر- ولا يصح إلا الصحيح" فهو يتجاوز طلب اللذة والسعادة السريعة والعادية ليصل إلى المستويات العليا من السعادة والمتعة والمرتبطة مع الواجب والمفيد له ولمجتمعه - وهذا الذي تعتمده كافة الأديان والحكومات والدول- .
إذاً يجب اعتماد المفيد والأفضل العام حتى وإن لم يؤد إلى الممتع, وذلك بالاعتماد على المعارف الدقيقة العامة والشاملة ما أمكن ذلك.
الفردية والجماعة والأحاسيس والانفعالات
إن الفردية أو الذاتية أو الأنانية تأخذ أهم خصائصها اعتماداً على الأحاسيس والانفعالات , وكذلك الأحاسيس والانفعالات تساهم في تكوين وتوحيد الجماعات وتكوين بنيات اجتماعية متماسكة , إن الشعور المشترك والمتشابه - الأحاسيس المتشابهة - بين مجموعة معينة صغيرة أو كبيرة يساهم في ترابط هذه المجموعة , والهدف الآن هو توسيع مجالات الأحاسيس المتشابهة لتشمل أغلب سكان هذا الكوكب وهذا ما يحصل نتيجة اتساع الاتصال والتواصل .
لقد قامت الأديان والمعتقدات والعادات والتقاليد بتوحيد الأحاسيس والانفعالات للأفراد الذين ينتمون إليها عن طريق توحيد الأفكار و القيم والأهداف، ولكن كانت الأديان متعددة مختلفة نتيجة تباعد المسافات وضعف الاتصالات, وكانت المراجع والقيم التي تبنى عليها الكثير من الأحاسيس مختلفة ومتنوعة وغير متوافقة بين هذه الأديان والمعتقدات, وكان يظهر تأثير هذا التناقض والاختلاف بالمراجع والقيم عندما يتم الاتصال والاحتكاك والتأثير المتبادل فيما بينها فعندها تظهر التناقضات وتحدث الصراعات ، وكانت هذه الصراعات تضعف وتزول مع الزمن نتيجة التواصل والاحتكاك وبالتالي تعديل هذه الأحاسيس لكي تتوافق وتتوازن مع بعضها.
ونحن نلاحظ مثالاً على ذلك عندما نزور بلاداً مختلفة أو مجتمعات مختلفة عنا في عاداتها وتقاليدها إن كان في الطعام أو اللباس أو السكن أو بالمعاملات والقيم والأخلاق أو بالموسيقى والفنون .., فسوف نستغرب الكثير من هذه الأحاسيس لاختلافها عن أحاسيسنا ، وسوف نتقبل بعضها ونرفض بعضها, ونستسيغ بعضها وننفر من بعضها , ولكن أيضاً سوف نجد بعض الأحاسيس الأساسية متشابهة مع أحاسيسنا فهذه الأحاسيس الأساسية ذات جذور عميقة في الطبيعة البشرية ، فالانفعالات والأحاسيس الأساسية مثل الحب , والكراهية , والأمومة , والصداقة , والكثير غيرها, تبقى متماثلة متشابهة وهذا ما يجعل إمكانية توحيدها و انسجامها مع بعضها بين كافة البشر غير صعب .
وفي النهاية نذكٌر بقصة الأمير الفارسي الذي طلب من علمائه كتابة تاريخ بني الإنسان, فأتوه بعد عشرين سنة بقافلة من الجمال محملة بخمسمائة كتاب , ثم اختصروهم إلى بضعة عشرات من الكتب , وفي النهاية اختصروا كل ذلك إلى ثلاث كلمات هي :
" ولدوا و عانوا وماتوا "
أي لخصوا أساس حياتنا بالأحاسيس فقط وهذا هو الواقع, فالأحاسيس والانفعالات التي يعيشها كل منا هي وحدها فقط الخاصة به , فهي مرجعه النهائي لكل شيء لأنها وعيه و ذاته و روحه .
وأغلب هذه الأحاسيس- أو هذا الوعي- تم تكرار قرعه في ملايين الأدمغة .
و بعض هذا الوعي هو المعارف الدقيقة والتي سوف تنشئ الكائنات أو البنيات الفكرية التي سوف تتجاوزنا إلى مرحلة جديدة لا نعرف ماهي ؟؟؟
من كتاب اللعبة والصفقة والوجبة
|