بين السير ة القصيرة لفترة معينة أو لموضوع معين كتب الكاتب ( عادل الأسطة ) موضوعاً عن محمود درويش كان معظمه من مقالات ومقابلات موثقة أقيمت مع الشاعر وأنا لشدة تفاجئي ببعض محتواها وهو ما كنت أجهله بعدة أمور تخص درويش ومن أهمها قصيدة ( ريتا ) قررت أن أضع الموضوع هنا في صفحة الأدب .
المقال بعنوان (( بين ريتا وعيوني بندقية )) أضعه بين أيديكم ,أتمنى أن يغني صفحة الأدب ويكشف بعض أمور مجهولة بالنسبة للشاعر الكبير محمود درويش :
يشكل درويش فيما أنجزه بعد (مدريد) حالة استثنائية. ولا أظن أن هناك أديبا فلسطينيا حظي بما حظي به، فقد التفت إلى أشعاره ونثره المعارضون قبل المؤيدين، وأعادوا نشر نتاجاته، على الرغم من أنه ذهب إلى مدريد وأسهم، كما تقول الشائعات، في صياغة كلمة الوفد الفلسطيني
وقد أصدر درويش، منذ مدريد، مجموعتين هما : "أحد عشر كوكبا" (1993) و "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" (1995)، وأجريت معه العديد من المقابلات التي أبدى فيها رأيه فيما يجري وفي الطرف الآخر الذي أكثر من ذكره في أشعاره قبل الخروج وبعد مرحلة السلام، ومن تلك المقابلات المقابلة التي أجراها معه الشاعر اللبناني عباس بيضون والمقابلة التي أجرتها معه (لور أدلير) .
ويستطيع المرء أن يلحظ، من خلال أقوال درويش وأشعاره، خيبته من الحل السلمي المنجز، وقد بدا هذا بوضوح في تلك المقابلة التي أجرتها معه مراسلة جريدة "الحياة اللندنية"، وهو في باريس، وقد أعادت جريدة "الأيام" الصادرة في رام الله نشرها يومي 27 و 28/5/1997. تسأله رولا الزين عن شعوره في رام الله، بعد عودته إليها، فيجيب :
"ما نحياه ملتبس الدلالات، لا هو عودة ولا هو زيارة ولا هو إقامة، وشروط كل هذه الأسماء محاصرة باحتلال ملموس وربما اشد قسوة الآن، الاحتلال تحول من احتلال كامل الأرض إلى نوع من الحصار لأجزاء من الأرض غير مترابطة وغير متصلة بعضها ببعض، أي أن وجودنا الإنساني هناك يشبه وجود كائنات في داخل أقفاص، وبالتالي الإحساس بالاحتلال وبالحصار يتأزم أكثر وأكثر، لذلك من السابق لأوانه تماما الاحتفاء بالعودة أو حتى استخدام هذا التعبير" .
ويجيب الشاعر في الفترة نفسها (لور أدلير) على سؤالها : كيف ترى وضع شعبك
اليوم، وماذا عن العملية السلمية، وهل هناك أمل ؟ قائلا :
"نستطيع القول إن الحرب العربية الإسرائيلية قد انتهت في المدى المنظور. ونحن، الآن، في مرحلة ما بعد الحرب بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، ونحن في مرحلة ما قبل السلام، ونحن في أكثر المناطق الفكرية غموضا. خارجون من حرب، وذاهبون إلى سلام يهرب منا. السلام لم يحل حتى الآن..." .
ويمكن أن نقتبس مقاطع أخرى تحمل الدلالة نفسها. ولأن كلام درويش النثري، غالبا ما يعين على تفسير شعره، فسأعتمد على أشعاره وسأستعين في الوقت نفسه بآرائه النثرية. فالفقرة النثرية الأخيرة ترد في "لماذا تركت الحصان وحيدا ؟" شعرا. يقول درويش في قصيدة "متتاليات لزمن آخر" :
"كل شيء هاديء في ملتقى البحرين
لا تاريخ للأيام منذ اليوم،
لا موتى ولا أحياء. لا هدنة،
لا حرب علينا أو سلام"
وتندرج هذه القصيدة مع ثلاث قصائد أخرى هي : "شهادة من (برتولد بريخت) أمام محكمة عسكرية" و "خلاف، غير لغوي، مع امريء القيس" و "عندما يبتعد"، تحت عنوان واحد هو "أغلقوا المشهد".
وإذا ما أخذنا بأقوال درويش التي وردت في اللقاء الذي أجراه معه عباس بيضون، وفي اللقاء الذي أجرته معه رولا الزين، إذا ما أخذنا بأقواله من أن "لماذا تركت الحصان وحيدا؟ " سيرة ذاتية كتبت شعرا عرفنا أن الجزء الاخير "أغلقوا المشهد" يعكس في أكثره مرحلتي (مدريد) و (أوسلو).
يبدأ الديوان بقصيدة "أرى شبحي قادما من بعيد" التي يطل فيها الشاعر على الماضي. انه يقيم في باريس التي كتب فيها أشعار الديوان، ومنها يراجع ذاته ويسترجع ماضيه الشخصي والإنساني، وتؤرخ أجزاء الديوان الأخرى لتجارب في حياة الشاعر وفي حياة شعبه، ابتداء من هجرة 1948 وترك المكان وانتهاء بالإقرار بالهزيمة. يبدأ القسم الأول
"أيقونات من بلور المكان" بالإتيان على القرية التي أقام فيها أبوه وجده، ويصف ما ألم بسكانها في العام المذكور، ولا يغفل الإتيان على حياتهم في لبنان، وكان درويش يومها طفلا. ويؤرخ في أقسام أخرى تجربته في حيفا، وهذا ما يبدو في قصيدة "من روميات أبي فراس"، وتجربته وهو في باريس، وهذا ما يلحظ في قصيدة "هيلين، ياله من مطر"، وينتهي الديوان بقصائد "أغلقو المشهد"، القصائد التي تعبر إحداها عن خيبة الشاعر مما آلت إليه الأوضاع، حيث وافق بنو وطنه على الشروط التي أمليت عليهم، بعد أن حقق الطرف الآخر الذي أغلق، مع حلفائه، -ولنلاحظ صيغة الفعل "أغلقو"، ولم يستخدم الشاعر "أغلقنا"، - المشهد. ولنأخذ المقطع التالي من قصيدة “خلاف، غير لغوي، مع امريء القيس"، لنلحظ أن السلم الذي أنجز إنما تم أساسا بين طرفين غير متكافئين :
"أغلقوا المشهد
تاركين لنا فسحة للرجوع إلى غيرنا
ناقصين. صعدنا على شاشة السينما
باسمين، كما ينبغي أن نكون على
شاشة السينما، وارتجلنا كلاما أعد
لنا سلفا آسفين على فرصة
الشهداء الأخيرة. ثم انحنينا نسلم
أسماءنا للمشاة على الجانبين. وعدنا
إلى غدنا ناقصين ..."
وتعقد القصيدة على ثنائية "الهم" و "النحن"، ثنائية المنتصر والخاسر، القادر والضعيف، المملي شروطه لأنه قوي والموافق على شروط يدرك أنها لا تلبي أدنى طموحاته. ولئن كان المقطع السابق يصور "النحن"، فان المقطع الذي يليه يوضح ما أصبحت عليه "الهم" مقارنة مع ما أمسى عليه المتكلم ومن ينتمي إليهم :
أغلقوا المشهد
انتصروا
عبروا أمسنا كله،
غفروا
للضحية أخطاءها عندما اعتذرت
عن كلام سيخطر في بالها،
غيروا جرس الوقت
وانتصروا ..."
لقد عادت "النحن"، ومن ضمنها أنا الشاعر إلى غيرها، والى غدها أيضا، ناقصة، فيما غير "الهم" جرس الوقت وانتصروا. ونتذكر هنا كلمة درويش في رثاء إميل حبيبي، نتذكرها لنقول إن "النحن" ليست سوى الفلسطينيين. يقول درويش :
"فانهض معنا يا أبا سلام لنمضي قليلا معك واليك، إلى هناك، إلى حيث تريد أن تنام حارسا دائما لتلفت القلب إلى حيفا. واغفر لنا يا معلمنا ما صنعت بنا وبنفسك. اغفر لنا إننا سنعود بعد قليل إلى أنفسنا ناقصين" .
وتبدو المفارقة في قصيدة "احد عشر كوكبا على آخر المشهد الاندلسي" أوضح ما تكون. يزور الشاعر أسبانيا، للمرة الأولى، يوم عقد مؤتمر السلام العربي الإسرائيلي في (مدريد)، ويستوحي من زيارته تلك قصيدة شعرية جميلة جدا، قصيدة تفيض بمشاعر الحزن والأسى لخروج العرب من الأندلس، وينتهي المقطع الحادي عشر بالسطرين التاليين :
الكمنجات تبكي على العرب الخارجيين من الأندلس
الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس
ويحق لنا أن نسأل : لماذا استوحى الشاعر لحظة خروج العرب من الأندلس لا لحظة دخولهم إليها ؟ والأخيرة هي التي يفخر كثير من العرب والمسلمين بها، فهي تذكرهم بقوتهم ومجدهم وانتصاراتهم. حقا إن درويش قد يختلف في رؤيته عن هؤلاء، وقد لا يرى ما يرون، ولكنه كان معجبا بالآثار العربية هناك. فهل اختياره لحظة الخروج، وهي لحظة هزيمة، بدلا من لحظة الدخول، وهي لحظة انتصار، تعبير عن إيمان عميق لديه بأن (مدريد) تشير إلى خروج الفلسطينيين من فلسطين أكثر مما تدل على دخولهم إليها. وكثيرا ما ربط درويش، في أشعاره ما بين الأندلس وفلسطين.
في طبعة ديوان "أحد عشر كوكبا" الصادرة في بيروت يرد، في المقطع السادس، السطر الشعري التالي :
“ان هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار"
ولا أدري ان كانت مفردة السلام هي المفردة الأولى التي استخدمها الشاعر في هذا السطر، فقد حلت، في طبعات الديوان الأخرى، مفردة الرحيل مكانها. والثانية، إذا كان النص يعبر فقط عن لحظة خروج العرب من الأندلس، أكثر دلالة، فالعرب لم يخرجوا من الأندلس من خلال عملية سلام، وأما إذا كان الشاعر يرى في خروج العرب من الأندلس موازيا لخروج الفلسطينيين من فلسطين، من خلال مفاوضات السلام، فقد فضح الشعر صاحبه. ولا ننكر تأثير الزمن الكتابي على الزمن المصوغ شعرا، وهكذا اسقط الشاعر ما يعتمل حقيقة في نفسه.
إذن كيف بدت صورة اليهودي في نصوص درويش الأخيرة ؟
أشير، ابتداء ، إلى أن أكثر من دارس تناول صورة اليهودي في أشعار محمود درويش، ومنهم الدكتور عبد الله الشحام الذي كتب دراسة تحت عنوان "صورة المرأة الإسرائيلية من حيث هي محبوبة: المرأة المجندة في أشعار محمود درويش بعد حرب 1967" ونشرها في مجلة (Bulletin) في عام 1988، ومنها دراسة الدكتور بسام قطوس "علائق الحضور والغياب في "شتاء ريتا الطويل" ، وقد نشرها في مجلة "دراسات للعلوم الإنسانية والاجتماعية، عدد 2، 1996، وألقاها في مؤتمر الأدب الفلسطيني في جامعة بيرزيت، المنعقد في 17-19/5/1997. وثمة دراسة أخرى أنجزها باحث عربي من سكان المناطق المحتلة عام
1948، ولم أطلع عليها. وهناك دراسات أخرى كثيرة تناولت "عابرون في كلام عابر".
وقد يتساءل المرء ان كانت هذه الكتابة ستضيف جديدا إلى ما كتب، وبخاصة ان درويش نفسه يرى ان "لماذا تركت الحصان وحيدا ؟" سيرة ذاتية وشعرية للشاعر، وانه - أي الديوان- إعادة كتابة لتجارب درويش السابقة باسلوب يتشابه تارة مع أسلوبه السابق، ويختلف طورا. وقد يذهب قاريء درويش ودارسه إلى أنه - أي درويش- غالبا ما يعيد كتابة أفكار سابقة بأسلوب جديد، وقد ظهر ذلك غير مرة في نصوصه. وأستطيع شخصيا ان أعطي العديد من الأمثلة على ذلك، وسأكتفي بثلاثة منها.
يقف الشاعر في المقطع الثاني والعشرين من قصيدة "يوميات جرح فلسطيني" (1970) أمام شخصية اليهودي الذي يشغل نفسه بتحليل الحجارة لكي يبحث عن عينيه في ردم الأساطير وليثبت ان الفلسطيني عابر في الدرب لا حرف في سفر الحضارة.
ويتكرر هذا في قصيدة "لصوص ا لمدافن" (1986) فالآخر فيها يلص المدافن لكي لا يترك للمؤرخ شيئا يدل على أنا الشاعر /أنا الفلسطيني، ولا يستطيع اليهودي سوى ان يرتدي قبر الفلسطيني القديم/ الجديد هوية.
ويكتب درويش في مراحله الشعرية الأولى قصيدة "ريتا والبندقية" (1967) ويعود ليكتب قصيدة "شتاء ريتا الطويل .
ويكتب درويش قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" (1967) ولا تختلف صورة الجندي في قصيدة "عندما يبتعد" (1995) عن الأولى كثيرا . (لماذا تركت الحصان وحيدا ؟
فهل اختلفت نظرة درويش، في ظل مرحلة السلام، عن نظرته إلى الآخر في مرحلة الحرب أو في فترة الانتفاضة ؟
لعل ما يستحق ان يلتفت الآن إليه هو النظر إلى أراء درويش النثرية فيما يخص صورة الآخر في أشعاره، وهي أراء لم تكن بمثل هذا الوضوح من قبل، اذ يشير فيها إلى الأشخاص الذين كتب عنهم، وهو بذلك يمكن الناقد من التوصل إلى نتائج يطمئن إليها، وبخاصة انه سيدرس النص الشعري بما يضيئه من خارجه، معتمدا على كلام صريح لصاحب النص الشعري، وهذا ما لم يتوفر للدارسين السابقين الذين درسوا نصوص الشاعر الشعرية معتمدين عليها وحدها، في فترة لم تكن فيها أقوال الشاعر متوفرة كما هي عليها الآن.
يذكر درويش في المقابلة التي أجراها معه بيضون انه كان صديقا ليهود كثر، وانه كتب قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" عن احد أفضل أصدقائه منهم، وكان هذا جارا له، وقد جاءه بعد حرب حزيران ليقول له انه قرر ان يترك البلاد نهائيا.
ويرى ان مواقف أهل الفتيات اليهوديات من إقامة ابنتهم علاقة مع عربي تختلف "باختلاف مصادرهم وتربيتهم الإيديولوجية" ويضيف: "أحببت مرة فتاة لأب بولندي وأم روسية. قبلتني الأم ورفضني الأب. لم يكن الرفض لمجرد كوني عربيا. ذلك الحين لم اشعر كثيرا بالعنصرية والكره الغريزي. لكن حرب 1967 غيرت الأمور. دخلت الحرب بين الجسدين بالمعنى المجازي، وأيقظت حساسية بين الطرفين لم تكن واعية من قبل . تصور ان صديقتك جندية تعتقل بنات شعبك في نابلس مثلا، أو حتى في القدس. ذلك لن يثقل فقط على القلب. ولكن على الوعي أيضاً. حرب 67 خلفت قطيعة عاطفية في علاقات الشبان العرب والفتيات اليهوديات" .
ويكرر الشاعر في ربيع 1997 الكلام نفسه، ويستطرد في الحديث عن اليهود الذين عرفهم. يذكر السجان الإسرائيلي الذي سجنه قبل عام 1967، وقد ورد ذكره في قصيدة "من روميات أبي فراس" (1995)، ويذكر ريتا والجندي الذي كتب عنه قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" (1967). ويجيب (لور أدلير) التي تطمح في معرفة المزيد عن (ريتا) بأن (ريتا) "تركيب لغوي لأكثر من تجربة" و "أنه لا يعرف امرأة بهذا الاسم لأنه اسم فني ولكنه ليس خاليا من ملامح إنسانية محددة" وعندما تلح (لور) في السؤال لمعرفة إذا ما كانت قصته مع (ريتا) وقعت بالفعل ، يجيب درويش :
"إذا كان يريحك ان اعترف بأن هذه المرأة موجودة، فهي موجودة أو كانت موجودة. تلك كانت قصة حقيقية محفورة عميقا في جسدي... في الغرفة كنا متحررين من الأسماء، ومن الهويات القومية ومن الفوارق، ولكن تحت الشرفة هناك حرب بين الشعبين"
ويوضح رأيه في اليهود فيقول :
"اليهود بينهم السيء وبينهم الجيد، وهم ليسوا ملائكة كما يريدون ان يقولوا عن أنفسهم، وليسوا شياطين. وهذا ما يشير إلى أنهم شعب طبيعي، ومن حسناتهم أنهم ليسوا فقط شياطين أو ملائكة، وهم مجموعة من الشياطين والملائكة".
وهنا يمكن الإجابة عن السؤال الذي أثير من قبل. يكتب درويش في قصيدته "ريتا والبندقية" ما يلي :
"بين ريتا وعيوني بندقية
والذي يعرف ريتا، ينحني
ويصلي
لإله في العيون العسلية "
وتنتهي القصيدة دائرية الشكل بالسطر الذي ابتدأت به" بين ريتا وعيوني بندقية" . ويفترض ان تكون البندقية في مرحلة السلام، لو كان السلام حقيقيا، قد سقطت ، فهل نزعت من أرض الواقع وهل نزعت من القصيدة أيضاً؟ في باريس ، بعد مرحلة (مدريد) يكتب درويش "شتاء ريتا الطويل" ويرد فيها :
"البحر خلف الباب، والصحراء خلف البحر، قبلني على
شفتي - قالت. قلت : يا ريتا ، أأرحل من جديد
ما دام لي عنب وذاكرة، وتتركني الفصول
بين الإشارة والعبارة هاجسا ؟
ماذا تقول ؟
لا شيء يا ريتا ، أقلد فارسا في أغنية
عن لعنة الحب المحاصر بالمرايا ..
عني ؟
وعن حلمين فوق وسادة يتقاطعان ويهربان ، فواحد
يستل سكينا، وآخر يودع الناي الوصايا
لا أدرك المعنى، تقول
ولا أنا ...."
وتنتهي القصيدة ببكاء ريتا التي تمضي إلى المجهول حافية، فيما يدرك الشاعر الرحيل. ويظل الحلمان متقاطعين فيما يحمل احدهما السكين.
وقد يقول درويش انه كتب القصيدة عن تجربة عاشها في الستينيات، تجربة انتهت فعلا بالرحيل وعدم استمرار اللقاء. وهنا نثير السؤال: أليس هناك تأثير للزمن الكتابي؟ وإذا كان الزمن الكتابي لهذه القصيدة هو زمن السلام، فهل سيؤدي السلام أيضاً إلى الرحيل. وليس هناك من شك في ان درويش الذي يدعو إلى السلام والحوار يدرك جيدا ان ما أنجز حتى الآن لا يلبي طموحات الشعب الفلسطيني.
حقا ان هذه القصيدة تختلف اختلافا كليا عن قصيدة "عابرون في كلام عابر" التي أنجزت في مرحلة الانتفاضة، حيث يحق لنا ان نشير إلى ان فترة مدريد وما بعدها تركت أثراً على الخطاب الشعري عند درويش، ومع ذلك فنهاية "شتاء ريتا" نهاية تعبر عن خيبة.
وإذا ما وقفنا أمام قصائد "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" (1995) وتتبعنا صورة الآخر فيه، فهل نعثر على تغير؟
كما ذكرت، ابتداء، فالديوان سيرة ذاتية وشعرية للشاعر، وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى ذلك أن صورة الآخر فيه لا تختلف كثيرا عن تلك التي بدت في القصائد المذكورة وأخرى غيرها مثل قصيدة "كتابة على ضوء بندقية".
تطالع القاريء لديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا ؟ " صورة الجندي السجان، والفتاة التي أحبها الشاعر، والجندي الطيب الذي يقرأ أشعار (كيتس)؛ الجندي الذي لا يحب الذين يدافع عنهم، ولا يكره الذين يعاديهم، انه الجندي نفسه الذي يحلم بالزنابق البيضاء. وكان الديوان سيكون أكثر انسجاما مع سيرة درويش الشعرية، لو أدرج هذا قصيدة "عندما يبتعد" قبل قصيدة "شهادة من برتولد بريخت أمام محكمة عسكرية. وإذا كانت" عندما يبتعد" الوجه الآخر ل "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" و "شهادة من برتولد بريخت" الوجه القريب لقصيدة "كتابة على ضوء بندقية"، تماما مثلما ان قصيدة "من روميات أبي فراس" قريبة من قصيدتي "إلى أمي" و"ريتا والبندقية"، فان قصيدة "خلال ، غير لغوي، مع امريء القيس " هي الأقرب لقصيدة "عابرون في كلام عابر".
وإذا كان درويش يرى ان "أنا الشاعر مكونة من عدة ذوات، وقد تروي قصة جماعية"، وانه حين كان يروي بعض جوانب طفولته، لم يكن يروي حكاية خاصة، وانه لم يكن يروي بعض جوانب طفولته، (انظر الكرمل، 1997، ص 219)، فان ما يهمنا ، هنا، هو الكتابة عن الأنا الجمعية والآخر الجمعي، وهذا ما يتحقق في قصيدة "خلاف، غير لغوي، مع امريء القيس"، وتبقى هذه القصيدة ... القصيدة المعبرة حقا عن الأنا الجمعية والآخر الجمعي، فالخلاف بين درويش والجندي ليس خلافا شخصيا البتة، تماما كما انه ليس خلافا شخصيا بين فرد وفرد، فما بين درويش و (ريتا) ليس حالة فردية. انه حالة تتكرر، فكم من عربي أعجب بيهودية وأحبها، وتكمن المشكلة في الصراع الذي جرى على أرض فلسطين، أو على تعبير درويش، خارج الغرفة وتحت الشرفة. ولم يحقق (أوسلو) للفلسطينيين حدا أدنى من العدالة، وهكذا شعرت الانا الجمعية التي نطق الشاعر باسمها بأنها لم تجد نجمة للشمال ولا خيمة للجنوب، ولم تتعرف على صوتها أبداً.