(f)(f)
عن جريدة النهار البيروتية حطفت هذا المقال لحيويته ..
http://www.annaharonline.com/htd/KADAYA051219-2.HTM
المسلمون في الاتحاد الروسي: الاندماج والانسلاخ
السيد هاني فحص
هناك اوضاع اشكالية انتجتها ظروف طبيعية بين الشعوب، اهمها واشدها تعقيدا اشكاليات العلائق بين الشعوب التي تتعدد في فضائها الجغرافي الاتنيات، فتعيش حياتها مستقطبة في اتجاهين مختلفين، الاندماج او الانسلاخ... وكلاهما يكون مكلفا. وإن كان الانسلاخ اشد كلفة من الاندماج.
ولا يكون الاندماج مكلفا بشكل قاس الا اذا غابت الديموقراطية من وعي الطرف الغالب وسلوكه والذي هو دائما مهيأ للغلبة بلحاظ تفوقه العددي وظروف اخرى. ولكن التجارب تثبت ان التوتر الذي يصل الى حد الانفجار لدى الطرف المغلوب ويؤدي به الى الانسلاخ التام مقابل الدمج القسري او الالغائي في الماضي، لا تترتب عليه نتائج ايجابية عميقة لدى الطرف المنسلخ طلبا للحرية والنهوض. ومع توالي السنوات والعقود وازدياد الاعباء واستمرار النقص في جرعات الحرية والديموقراطية والتنمية، تذهب الذاكرة في اتجاه الماضي على كثير من البعد الذي يؤدي الى الشك في جدوى الانسلاخ او اليقين بعدم جدواه...
من هنا يتساءل كثيرون بعد مشاهدة حال الهند الصاعدة نحو العصر، وحال الباكستان المتراجعة بسرعة فائقة، يتساءلون عن جدوى تأسيس الدولة الباكستانية. ولو بقي المسلمون يشكلون تنويعا اكثريا في المشهد الهندي، اما كان ذلك اضمن لهم وللهند من التجزئة والفقر؟ علما بأن الاقلية المسلمة المتبقية في الهند هي اكثر حيوية بشروطها الهندية من المجتمع الوحيد الجانب في باكستان، التي اسست بتأسيس دولتها الانفصالية، لمسار انفصالي اثمر دولة بنغلادش التي لم تسدها العدالة والديموقراطية والنهضة والتقدم بعد انسلاخها، بل ازدادت كل سلبياتها واعاقاتها.
هذا الكلام نقوله لنقول للشعوب ذات الاشكاليات التعددية المعقدة أن حل الاشكالية الحقيقية حلا عصبيا يؤدي الى اشكالية اشد تعقيدا تتجاوز التفاصيل الى بنية الاجتماع والدولة، وتؤدي في النهاية الى تظهير الفوارق التي كان يخفيها الاصطفاف في مواجهة الآخر، فيظهر آخرون في الكيان المنفصل، ويبدأ النزاع من جديد في اتجاه تجزئة جديدة.
ولنفترض هنا ان الشعوب الاسلامية التي تشكل جزءا من الوطن الاتحادي الروسي، قد تمكنت من الانفصال او تشكيل كيانها، فمن يضمن لنا ان لا تكون دفعة الانفصال سائرة الى نهايات اخرى؟ اي ان يشرع البلغار والكباردين والشيشان والشركس والداغستان وغيرهم، في استحداث نزاعات قومية عابرة للجغرافيا الواحدة وللاسلام الجامع، نحو كيانات هي جزئيات الجزء، لن تلبث ان تجد لها اسبابا موجبة للانقسام على ذاتها والاستمرار في التفتيت والتفتت.
ان روسيا او الاتحاد الروسي الخارج من الشمولية التي زينت لأهلها ان يستخدموا القوة في حبس ارادة الشعوب الروسية عن التعبير عن ذاتها من ضمن الكيان الجامع، روسيا الخارجة من مركزيتها الشديدة، الى فضاء ديموقراطي، من دون ان تخسر مؤهلاتها في النمو والتقدم، وان تعثر ذلك بعد التغيير، فان شرط الحرية المتحقق سيتيح له ازدهاراً لاحقا، روسيا هذه، لا يجوز تحميلها اعباء الماضي الذي انقطعت عنه، كما لا يجوز لها ان تتحمله بكل ذكرياته القاسية، حتى تلك التي تأتي مما قبل الشيوعية، اي من ايام القيصرية التي يحن الروس الى ايجابياتها من دون ان يستطيعوا منع غيرهم من تذكر سلبياتها حيالهم، خاصة ان ذكرى شامل الداغستاني وحركته ونهايته، تحتاج الى جهد كبير من اجل قطيعة سياسية غير خيانية معها.
اني هنا مستعد للمغامرة بالقول ان الافكار المسلمة التي ضمت الى الاتحاد السوفياتي قسرا وبالعنف المباشر وغير المباشر بعد ثورة اكتوبر ودولة السوفيات، خسرت كثيرا كما خسرت شعوب جورجيا واوكرانيا وارمينيا والبلطيق. ومن قال ان روسيا لم تخسر؟ ولكنها ايضا ربحت، حتى الستار الحديد السيء الذكر، كان له ايجابيات رفعت روسيا الى مقام الدولة العظمى الثانية، وانعكس ذلك ايجابا مع كثير من المظالم والبشاعات، على شعوب شمال القوقاز وآسيا الوسطى.
ولو ان هذه المناطق بقيت خارج التجربة المرة، لبقيت خارج التاريخ، ولما كان بامكانها ان تحقق استقلالها النسبي لتعالج اعصاب الديكتاتورية وفسادها وافسادها في العهد البائد.
ثم اننا، وقد كنا نراقب الحراك الداخلي للمسلمين في ظل الدولة الشيوعية، وننتظر ان ينفجر المكبوت الى ان انفجر في روسيا متناغما مع ما يحيط بها، لم يكن ممكنا ان تكون النخب العسكرية التي مارست دورها القمعي للاسلام والمسلمين في الماضي الشيوعي، مؤهلة لأن تقود حالة اسلمة سياسية وثقافية بهذه السرعة وبشكل عميق يحتاج الى زمن طويل واستقرار حقيقي وكفاءة وتاريخ نظيف.
وفي تقديرنا ان هناك عوامل خارجية وجهت جمهوريات الحكم الذاتي الاسلامية في الاتحاد الروسي هذه الوجهة ودفعتها الى العنف العشوائي والتطرف كرد سطحي ومتسرع على الماضي. هنا نفترض ان حق الاخفاق في مقاتلة السوفيات قد تحول على ايدي العناصر الخارجية الى تدمير جديد لأفغانستان، ودفعها بالضرورات المفتعلة الى طلب الامان في حضن اجنبي بعيد عن واقعها ولا يبني علاقاته بالآخرين الا باملاء من انظمة مصالحة اولا واخيرا. ما يعني دائما ان المنقذ يحتاج لاحقا الى من ينقذك منه.
وعليه، فمن ينقذ هذه الاثنيات الاقلوية الاسلامية من مستقبلها اذا ما انفصلت وحكمت بالتطرف الديني بدل التطرف الشيوعي؟ علما بأن التطرف الديني يبقى مفتوحا باستمرار على المزيد من التطرف وعلى تحويل الواحد الى متعدد. واذا ما انقسم الواحد فان اجزاءه يصعب جمعها ثانية اكثر من صعوبة جمع المتعدد اذا ما انفصلت اطرافه.
تقديري انه لن ينقذ هذه الشعوب من مصيرها الصعب اذا ما استمر التصرف في استقطابها واستمر الرد عليه على الطريقة الحاضرة، الى انجرار الدولة المركزية وانصارها الى الرد على العنف بالعنف، من دون حركة واسعة تضع المسألة في عهدة اهل الاعتدال والرؤية من المسلمين في الداخل والخارج، وتعطي اهتماما اكثر للتنمية المحلية تعويضا عن الماضي واستعدادا للمستقبل الذي ترقى فيه المركزية الى مستوى الضرورة للامركزية باعتبارها ضرورة تنموية وادارية واجتماعية وسياسية.
لن ينقذها اذن انتقالها او نقلها القسري من علاقة اشكالية مع المركز الروسي، الذي يجب ان يقرأ الواقع، اللوحة واعماقها ومؤشراتها قراءة متفهمة وغير عصبية او ثأرية. واكرر: لن ينقذها انتقالها الى علاقة اشد اشكالية واحتمالا للخراب والاستحواذ عليها، مع اطراف دولية معروفة، على تقدير الانفصال والتجزئة، بما يعني ذلك من تكريس التخلف وادامة الحصار وتفجير الاثنيات الفرعية لتأسيس حالة متنقلة من العنف العشوائي الدائم.
ينقذها ان تنقي ذاكرتها من الجروح والدمامل والاشواك، ومن آثار الفواجع، وتتطلع الى المستقبل عازفة على تحويل الاسلام، ومن اجل حفظ المسلمين، الى مصدر من مصادر الحيوية لديها ولدى الاتحاد الروسي عموما، وقد كان ذلك ممكنا دائما ومنذ بداية انتشار الاسلام في تلك الاصقاع، وقامت شواهد كثيرة على جماله وغناه الثقافي والحضاري. ويمكن استحضار هذه الشواهد بشكل علمي ومن دون مبالغة او نفاق، وتطويرها بما تقتضي مستجدات العصر من معارف وتحديات ومخاطر واسئلة لا يجوز ان تبقى اسيرة العقل الشمولي او ما تبقى منه في العقل الروسي، ولا اسيرة العقل التطرفي الميليشيوي، الذي يقطع مع الماضي الشيوعي في مكان ويتصل به في مكان آخر، ويبسط الاسئلة مرة اخرى بعد التجربة الشيوعية في بعدها الايديولوجي المغلق، يبسطها باستعادة الضيق الايديولوجي والقاء تبعته زورا على الاسلام.
الاسلام الذي نشك في ان صورته الظاهرة في الشيشان، قد تم انتاجها داخليا وبالشروط الذاتية والموضوعية المحلية، ومن دون ضغط من عوامل خارجية او اجنبية تنتمي الى المساحة المشتركة بين مصالح دول عظمى ومراهنات مدمرة لأزمة سياسية عكرة... ان التطرف والعنف تبسيط قاتل، التبسيط لا يجيب جوابا حقيقيا على اي سؤال حقيقي.
ان هناك تحديات يفضي فهمها الى الاندماج والمشاركة، وبالاندماج الخالي من الاوهام يحفظ الوجود وينتقل التحدي منه الى تحدي الحضور والفاعلية اما الانسلاخ فهو تحدٍ سهل، ولكن المشكلة في التحديات السهلة هي ما يعقبها من تحديات صعبة او يستحيل الرد عليها.
ودمتم
الليبرالي
(f)(f)
بحث
قائمة الأعضاء
التقويم
وثائق المساعدة
/
المسلمون في الاتحاد الروسي: الاندماج والانسلاخ
