{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
"في مواجهة الإرهاب" - طه حسين : رائد العقلانية /الليبرالية العربية
Mr.Glory غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 484
الانضمام: Jul 2005
مشاركة: #1
"في مواجهة الإرهاب" - طه حسين : رائد العقلانية /الليبرالية العربية

طه حسين : رائد العقلانية /الليبرالية العربية

هل " يسترد " الفكر العربي طه حسين : 1 / 8


د. عبد الرزاق عيد





في سنة 1990 عندما بدأنا لفيف من الكتاب العرب نلتف حول المشروع الثقافي الفلسطيني الطليعي "عيبال" وجدنا أنفسنا مدفوعين تلقائيا لكي يكون عنوان مشروعنا التأسيسي لقيم : (العقلانية / الديموقراطية / الحداثة ) إنما هو طه حسين ، فكان الكتاب الدوري الفصلي الأول الصادر تحت عنوان سلسلة "قضايا وشهادات " ، وكانت هيئة التحرير تمثل حالة التنوع العربي (عبد الرحمن منيف ، فيصل دراج ، سعد الله ونوس ، جابر عصفور ) ، إذ تجمع على حاجة المجتمع العربي لهذه الثلاثية : ( عقلانية / ديموقراطية / حداثة ) .

فكتب سعد الله ونوس مقدمة هذا الكتاب معبرا عن أن خيارنا لطه حسين ليس خيارا احتفاليا بمئوية ميلاده ، بل إن الكتاب يأمل أن " يسترد " طه حسين ضوءا أو عونا في هذه الظلمة التي نتخبط فيها " واستخدام فعل " يسترد " ليس إلا اعترافا بأن ثمة انقطاعا قد تم ، وأن ثمة اصرارا على إلغاء مشروع طه حسين ، القطيعة أو الانقطاع الذي يشير لهما سعد الله تتحدد بتاريخ ثورة يوليو ( تموز) 1952 في مصر .

فمنذ هذه اللحظة سيتنزل العقل عن عقلانيته لصالح الأهؤاء ، أهواء الاسلام السياسي الذي سيؤسس له السيد قطب من خلال الغاء حق المجتمع في التشريع لنفسه باسم ( الحاكمية الالهية ) وأهواء الخطاب الشعبوي الشمولي ( القوموي ) التي سيصف فيها الميثاق الديموقراطية " انها الديموقراطية المضللة التي تعتبر ملهاة مهينة " !

وعلى هذا فإن طه حسين وهو يستشعر خطر إطباق مطرقة حاكمية السيد فطب مع سندان الحاكمية الشمولية العسكرية على العقل والحريات والشرعية الدستورية ، فإن العميد سيواجه مطرقة " الدولة الدينية" في التفاتة عقلانية فذة إلى التراث من خلال " ( الفتنة الكبرى ) معريا الماضي من الأثواب الكهنونية للمقدس ليستجلي من وراء غلالته السحرية التاريخ الواقعي ، بوصفه تاريخا بشريا لا يمكن استكناه مغزى صراعاته وفهمها وتأويليها إلا وفق منطق العقل ، ولا يمكن وقف أنهار الدماء التي صنعت فتنة السياسة مجراه إلا بالتوافق البشري العقلاني حول "العقد الاجتماعي " .

وليواجه سندان شعبوية الخطاب الشمولي العسكري بـ " تحرير العقل " إذ كتب تحت هذا العنوان في يناير ( كانون الثاني ) 1953 – الشهر نفسه الذي صدر القرار العسكري بوأد الديموقراطية أي : قرار حل الأحزاب السياسية – وذلك في مجلة الكاتب ، يقول : " فمصر لا تحتاج إلى شيء بمقدار ماتحتاج إلى ان تحرر عقول أبنائها ... والعقل الحر هو الذي لا يقبل أن يفرض السلطان السياسي عليه رأيا من الآراء ومذهبا من المذاهب ... والعقل الحر هو الذي لا يقبل ديكتاتورية مهما يكن غرضها ومهما يكن أسلوبها في الحكم . لن نرضى من الثورة إلا بأن يتسع سلطان العقل حتى يغزو بالمعرفة نفوس المواطنين جميعا ، وبأن تتسع آفاق العقل حتى يتلقى المعرفة من أقطار الأرض جميعا ، وبأن يعظم سلطان العقل حتى لا يخشى رقيبا حين يعلن ما يرى خطأ كان أم صوابا " .

والخطاب الشعبوي – لاعقلاني بالضرورة – هو خطاب لملمة ، خطاب بياني تكمن حجته في بداهة مقولاته ، أي إنه -تعريفا-هو ما برهانه قائم فيه ، بغض النظر عن التماسك النظري الداخلي ، أو وحدة العقل واتساقه والتفكير ونظامه والمنطق وانسجامه .

إذ هو – بسبب فاقته وبؤسه – يلم شتات أراء وأفكار سطحية مبعثرة ومتناثرة بغض النظر عن مصادرها ومرجعيتها وأصولها ، ويلقي بها إلقاء كيفما تيسر ، ويستند في قوة اقناعها وفاعلية رواجها على البلاغة البيانية للعسكر والمخابرات ، ولذا لن نستغرب في عرمرم الاندفاعة : (الشعبوية / الثورية الفلاحية ) أن يرمى العقل الليبرالي الراديكالي المشبع بأرقى تقاليد قيم التنوير والنهضة والحداثة بأنه اقطاعي ، كما سيفعل أحد مثقفي الثورة وهو د. عبد الحي دياب الذي سيصدر كتابا تحت عنوان " الاقطاع الفكري وأثاره " إذ لا يتردد في إعلان هذه ( الحقيقة ) يقول: " واعترافا بالحقيقة نقول أن للدكتور طه حسين الفضل كل الفضل في وجود الاقطاع الفكري في الجامعة فهو منشئه ومبديه وحارسه وراعيه ... "
[*]

ولا أدل على أن هذا الدكتور ( الثوري اليوليوي ) يستخدم مصطلح " الاقطاع " في سياق الهجاء السياسي والإدانة والإقصاء ، وإلا لو أنه يدرك الدلالة العلمية للاصطلاحات ، لكان عليه أن يفهم أن مشروع طه حسين الليبرالي التنويري على درجة من الراديكالية في دك بنية الاقطاع ما يجعله مشروعا ثقافيا ليس متجاوزا للاقطاع فحسب بل و يتجاوز حتى أرقى آفاق (البورجوازية)المصرية وليس اقطاعييها ، لكن ثقافة التسطيح والعموميات الغوغائية المعبرة عن ضيق أفق حثالات المدن ورعاع الريف التي تنفث على المحلقين طيرانهم الحر نحو الأعلى ، وذلك لأنهم-الرعاع- لا يزالون ملتصقين بطين العالم السفلي .

حتى لتغدو ( ثورويتهم ) ظلامية ورجعية أمام المشروع التنويري لطه حسين ، هذا المنظور التسطيحي الغوغائي الشعارائي يصوغ لنفسه تصورات عن " النضال " يستعيرها من عوالم ما توارثه من قيم الثقافة التقليدية التي تتفاءل بالسكون ووتقلقها الحركة وتمجد الثابت وتسفه المتحول ، ولذا فإن دكتور ( الثورة ) ينعى على طه حسين ( عدم ثبات الرأي ) ، فهو من حيث " السياسة لم يثبت على رأي ولم يمكث في حزب بل كان يعتنق الحزب الحاكم دائما ... ومن حيث الأدب لم نقف له على مبدأ نقدي ... بل إنه ليتميز بأن يقول الرأي اليوم ليرجح عنه في الغد .... فهو ليس له رأي " ثابت في أية مشكلة معاصرة في الأدب والنقد ..." [†]

إن ذروة المفارقة المأساوية التي يعبر عنها هذا ( الخطاب الثوروي ) أنه ينعى على طه حسين (اقطاعيته ) ، في حين أن النواة الابستمية لهذا (الخطاب الثوروي) هو الدعوة إلى الثبات بوصفه معيارا عقليا يحاكم فكر طه حسين وفق قانونياته ، أي أن الثبات الذي يدعو إليه دياب تعريفا : هو المعادل المعرفي لرؤية العالم من منظور سكونية العالم الأرضي في المجتمع الزراعي (الاقطاعي) بوصفه محكوما برعاية عيون السماء التي تحكم الكون ( كون ماقبل كوبر نيكوس ).إذن فمنظور من هو المنظور الاقطاعي ؟

بل إن المفارقة الموجعة أن تلحق بطه حسين صفة ( الاقطاع ) وهو صاحب شعار عمره الثقافي فكرا وممارسة " التعليم كالماء والهواء للشعب " الذي بشربه في كتابه التأسيسي لمجتمع مدني حديث " مستقبل الثقافة في مصر " تحت الدعوة إلى مجانية التعليم ، ومسؤولية الدولة ، والتلاحم العضوي بين الديموقراطية ومجانية التعليم " .

وظل يزود عن موقفه هذا حتى غدا هذا الشعار فكرا وممارسة في كل البلاد العربية قبل أن يغادر عالمنا .

إن المستوى الآخر لمنظور أهواء الخطاب الشعبوي الذي سيضيع طه حسين ، والذي حرضنا في منتصف التسعينات لاستعادته ( استرداده ) ، هو منظور الخطاب ( الاشتراكي / الشيوعي الرسمي ) ، متمثلا بأبرز تعبيراته في حقل نظرية الأدب ، وهو كتاب في ( الثقافة المصرية ) الصادر عام 1955 ، لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس .

كان كتاب " في الثقافة المصرية " يؤسس منظوره في نقد العميد إلى استعلاء مضمر ينطلق من قناعة أن منظومة طه حسين الليبرالية هي منظومة متجاوزة من منظور التاريخية الماركسية ، وبالتالي فهي دون ( الاشتراكية ) ، بغض النظر عن السياق التاريخي في درجة حضور الليبرالية أو الاشتراكية في النسيج السياسي والثقافي المصري أو العربي ، فيكفيك أن تكون ( اشتراكيا ) أو تعلن شعار الاشتراكية لتكون أكثر ( تقدمية وثورية ) من الآخرين !

وعلى هذا فإن الشابين ( العالم – أنيس ) في حينها هجموا على الشيخ العميد ، وهما معتمرا الصدر بـ " الإيمان " بأن قضيتهم أكثر عدالة ، وأن منهجهم ( الماركسي ) يفترض تاريخيا أنه أكثر تقدما من المنهج الليبرالي ، بل هو ينقده ويفنده وسينتصر – حتميا – عليه ، فمن باب أولى أن تمثل منهجية كتابهم علو كعب على منهجية طه حسين ، وذلك عندما اختزلت منهجيتهم هذه كتاب العميد الراهني في وظيفته المعرفية التربوية والإجرائية حتى اليوم وهو كتاب " مستقبل الثقافة في مصر " إلى مجرد " سطور غامضة" [‡] في حين لا يزال الواقع الثقافي العربي اليوم دون مطمح طه حسين في كتابه المذكور.

بل إن منهجه الذي أقام الحياة الثقافية في مصر ولم يقعدها منذ ثلاثين سنة هي تاريخ صدور كتاب " في الشعر الجاهلي" 1926 التي تفصله عن كتاب العالم وأنيس " في الثقافة المصرية " الصادر 1955 سيغدو منهج العميد –بالنسبة للشابين الماركسيين- قاصرا في فهم " هذه العلاقة بين صورة الأدب ومادته ، بالإضافة " إلى مايتميز به أدبهم –أي طه حسين ورعيله- من جمود ، وانفصال عن حركة الحياة ، وإلى ما رسبوه في وجداننا القومي من قواعد نقدية فجة لا تفضي بالإبداع الغني إلا إلى أزقة مقفلة ...." [§]

هذه المثالب التي يتقصاها كتاب " في الثقافة المصرية " في فكر ومنهج طه حسين ، إنما تعكس مدى شدة الانحيازات السياسية والايديولوجية المسبقة ، حيث منهجية كتاب ( العالم – أنيس ) تتوسل المادية التاريخية ( الماركسية ) بنموذجها المدرسي ( المسفيت ) التي لا تتقبل أية رؤية للتاريخ مادامت لا تخضع لشروطها ( الحزبية : حزبية الفلسفة ) ، وعلى هذا سيغدو طه حسين مكتشف قارة التاريخ في الفكر العربي الحديث عاجزا عن إدراك العلاقة بين الأدب ومادته ، بسبب جمودة وانفصاله عن حركة الحياة ، وهو الذي في أطروحة الدكتوراه " تجديد ذكرى أبي العلاء ) سنة 1912 وقبل رحيله إلى أوربا ، يحدد منهجيته بوصفها منظورا : يرى الحادثة التاريخية بالتناظر مع القصيدة الشعرية والتوازي مع الخطبة والرسالة ، أي ( الخطاب الأدبي عموما ) تحضر هذه العناصر كلها كعناصر متساوية في نظام الخطاب مثلها مثل الحوادث التاريخية بمثابتها : "نسيجا من العلل الاجتماعية والكونية يخضع للبحث والتحليل خضوع المادة لعمل الكيمياء" ، إذن إن كل أثر مادي أو معنوي أو ظاهرة اجتماعية أو كونية ينبغي أن ترد إلى أصولها وتعاد إلى مصادرها ... " [**]

هذا المنظور التاريخاني المبكر الذي يومئ إلى صلة واضحة بمنهج (تين) ، سيكون شاغل حسه وعقله التاريخي ، عند رحلته إلى أوربا ، وذلك عندما سيقوم باماطة اللثام العربي والاسلامي عن مكتشف قارة التاريخ الأول ابن خلدون ، وذلك من خلال رسالته " فلسفة ابن خلدون الاجتماعية " التي أراد من خلالها – رغم أن ايفاده إلى فرنسا لم يكن للبحث الفكري السوسيولوجي – أن يعرف " بمفكر لا يعرفه جيدا سوى المستشرقيين .... " [††]

إن مراجع تاريخانية طه حسين قد نلتمسها لدى أوجست كونت – دور كهايم – ديكارت – ليفي برول .... إلخ وليس لدى المادية التاريخية المدرسية الماركسية ، ولهذا فقد كان عليه أن يؤثم من قبل الماركسيين ، كما كان قد أثمته مدرسة يوليو ، و كما كان قد اثمه من قبل الأزهر ، رغم أن التاريخانية ولدت ونمت وتطورت قبل الماركسية ، إذ أن الفكر التاريخي هو أكبر ثورة ذهنية عرفها العقل الانساني حسب ليوبولدفون رانكه .

وعلى هذا فإن الخطاب الفلسطيني الذي طالما راهن على الخطاب ( العروبوي – القوموي – السلاحوي ) في ( قومية المعركة ) مع ( الكيان الصهيوني ) منذ ثورة يوليو حتى (أم المعارك) ، سيعلن على انقاض هذه الخرائب (القوموية) ، بلسان أحد مفكرية ( فيصل دراج ) في الكتاب ذاته تحت عنوان : " الشيخ التقليدي والمثقف الحديث " إن الأفكار تكشف عن حدودها في حقل الممارسة ، لا في حقل التأويل وفض النصوص والتدليل الفكراني ..... وعلى هذا : " لا يمكن السؤال في كيفية تجاوز طه حسين ، بل في تجاوز الفكر الذي ظن أنه تجاوز طه حسين ، لأن دعوة التجاوز الأولى تخطئ في وعي التاريخ الذي انتج طه ، وتأمر بممارسة مجردة مغتربة عن التاريخ بينما تجلت أهمية طه حسين في صياغة العلاقة الصحيحة بين المفهوم النظري واللحظة التاريخية . لا يمكن تجاوز فكر طه حسين ، إلا بعد قبوله والتعرف عليه والاعتراف به . " [‡‡]



للتعليق على هذا الموضوع



--------------------------------------------------------------------------------


[*] - الاقطاع الفكري وآثاره – عبد الحي دياب – دار الشعب – بلا تاريخ – ويرجح أنه صدر عام 1963 .

[†] - المرجع السابق .

[‡] - في الثقافة المصرية

[§] - المصدر السابق

[**] - تجديد ذكرى غبي العلاء ص 19 – 20 .

[††] - فلسفة ابن خلدون الاجتماعية – المجلد الثامن – دار الكتاب اللبناني – ص 167 .

[‡‡] - كتاب طه حسين – قضايا وشهادات – ص 63 – 64 .
11-25-2005, 12:43 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Mr.Glory غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 484
الانضمام: Jul 2005
مشاركة: #2
"في مواجهة الإرهاب" - طه حسين : رائد العقلانية /الليبرالية العربية
طه حسين: رائد العقلانية/الليبرالية العربية

العميد: و" استرداد" الليبرالية : (2 من 8)

د. عبد الرزاق عيد







في عام 1973 أصدر عبد الله العروي كتابه : "العرب والفكر التاريخي " ، فكان أول صوت احتجاجي على تغرب العرب عن التاريخ من خلال تقصيه وسبره لمنطوق الايديولوجيا العربية المعاصرة التي راحت تتبدى في صيغة أن الشكل الأساسي المطروح أمام الفكر العربي هو الآتي: كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب مكتسبات الليبرالية قبل ( وبدون ) أن يعيش المرحلة الليبرالية ؟
[*] الأمر الذي يتيح القول : إن إخفاق استيعاب المكتسبات الليبرالية هو سبب تعثر المسيرة العربية ... وذلك لأن الفكر العربي لم يستوعب مكاسب العقل الحديث من موضوعية وعقلانية وفعالية وانسية إلخ ..... لكن هذا الاستيعاب مهما تأخر ، سيبقى في جدول أعمال الفكر العربي ، وكلما تشابكت الأوضاع وضعفت فعالية المجتمع العربي ككل ...

والعروي في استقرائه هذا يستند إلى لوكاش في تعليله لنشوء " الفكر النازي في المانيا" ، حيث يركز لوكاش استشهاداته على أن عدم وجود مرحلة ليبرالية في حياة الأمة الألمانية يسبب اخفاق ثورة 1848 – كوّن أرضية انحراف الألمان عن التراث الأوربي العقلاني والأنسي ( أو الانساني ) ، كما أن التروتكسية في انتقادتها للبيروقراطية الروسية والاستبداد الحزبي والفردي كانت تعزو ذلك إلى انعدام تقاليد سياسية ليبرالية في روسيا .[†]

هذه الأطروحة ستشكل نواة الترسيمة النظرية للمشروع الفكري الذي دشنه ياسين الحافظ في السبعينات – كما هو معروف – وقد عبر عن مديونيته لعبد الله العروي بهذه الأطروحة ، لكن ثمة قطيعه مع الميراث الليبرالي العربي منذ تلك اللحظة (الصيحة) في السبعينات التي أرادت أن تنبه – وبوعي مبكر – إلى مأزق المشروع التحرري الوطني العربي بشقيه القومي واليساري ، اللذين التقيا على وأد الديموقراطية منذ ثورة 14 تموز العراقية 1958 ، من خلال الصراع بين الناصرية والشيوعية ، حيث السحل والسحل المضاد ، إذ يغيب التسامح وتدان التعددية وتغدو الحقيقة ملكا لايديولوجيا المصالح ويصبح السجن المكان الوحيد للخصم .

لقد تنبهت تاريخية العروي والحافظ منذ السبعينات إلى واقع التردي باتجاه الاستبداد بسبب الافتقار التدريجي إلى ميرات التنوير النهضوي الليبرالي ، ليعقب هذه الصيحة التاريخانية - مع أواخر السبعينات وفي حقبة الثمانيات- نوع من الاستغراق في ( التراثانية المحدثة) حيث النزوح الجماعي للعقل العربي ( من التاريخ باتجاه التراث ) ، وحيث كل تيارات الحداثة العربية (الابستمولوجيا – الفينومينولوجيا ، البنيوية ، الماركسية ) تستشعر لحظة غياب واغتراب وتضييع للـ(هوية) فراحت تتبارى برثاء الخصوصية والأصالة المفقودة ، والخوف من تلاشي الذات الثقافية ، وضياع الأنا الحضارية للأمة العربية أمام رياح الغرب ، فأتت حرب الخليج الثانية ، الحرب الأمريكية لفرض انسحاب العراق من الكويت ، لتظهر مدى مأزقية المشروع القوموي الشعبوي ، ومدى تردي خطابه (التقنوي) اللفظي ، الشعاري ، الذي يراهن على التسلح السلاح الغربي كسلعة وليس التعويل على الفكر الغربي الذي انتج هذه السلعة ، فصار لدينا عسكر ولم يصر لدينا جيوش ، وصار لدينا طائرات دون أن يكون لدينا طيران ، وأصبح لدينا مصانع ولكن لم تصبح لدينا صناعة ...."[‡]

كما تكشف مدى ذاتية ورومانسية ورغبوية هذا الخطاب وتنفجه وادعاءاته الكاذبة ، إذ يتبدى عن عن مدى عمق الهزيمة الكامنة في نسيجه المتهالك ، إذ لم يستطع أن يتأسس هذا الخطاب معرفيا على التراث الحضاري والفكري للحداثة الفكرية الكونية ، لهذا أتت الصيحة الثانية في بداية التسعينات احتجاجا على تحديث سلطان الايديولوجيا التقليدية من خلال تحول أهداف النهضة العربية باتجاه العكوف والانكفاء على (التراث) بعد الصيحة الأولى في السبعينات ، وكانت هذه الصيحة من خلال استرداد طه حسين بوصفه رائدا للعقلانية العربية كما عبر عن ذلك كتابنا المشترك الذي توقفنا وسنتوقف عنده ، بل وكرائد لليبرالية العربية كما يستحضره كتاب د.شاكر النابلسي (الليبراليون الجدد جدل فكري ) الصادر في هذه السنة 2005 ذكراه ، من خلال اهداء الكتاب إلى "ذكرى رائد الليبرالية العربية : طه حسين " .

يتأسس مفهوم طه حسين للعلاقة بـ (الآخر) ، ليس وفق علاقة مثنوية (فسطاطية) بين داخل (مؤمثل) وخارج (مؤبلس) ، حيث الداخل يشكل الهوية بينما الخارج يمثل الاستلاب ، الداخل يعني الوطنية ، والخارج يعني الاستعمار ، كما آلت إليه منظومة الايديولوجيا القومية عندما استعاضت عن مصطلح (التأخر) النهضوي بمصطلح (التخلف) التنموي ، إذ تبدت –عملية الاستعاضة- تظاهرات فوات حضورنا في الزمان التي تتلاءم مع حضورنا في المكان ، وكأنها تظاهرات تقف عند حدود التخلف عن الركب ، وليس تأخرا حضاريا وتاريخيا عن انتاج زماننا المطابق لمكاننا المناسب المتوضع في قلب العالم الحديث .

فالإنئسار للأجنبي حسب طه حسين- لا يتأتى من التهديد الخارجي فحسب بل ومن الداخل ، فيقول : " فالشعب ليس معرضا للخطر الذي يأتيه من خارج حيث يغير عليه الأجنبي الطامع فحسب ، ولكنه معرض للخطر الذي يأتيه من داخل حين يفتك الجهل بأخلاقه ومرافقه ، ويجعله عبدا للأجنبي المتفوق عليه في العلم " . [§]

هكذا أسس العقل النهضوي التنويري لمفهوم العلاقة بالآخر ، ليس عبر ثنائية التناقض بين الخارج والداخل ، فهذا المفهوم لايتجاوز حدود مفهوم الوطينة الطبييعة ، الجغرافية (الملكية العقارية) ، إذ حتى للحيونات مقاطعات ، مساحات ، وحدود ، وهي بغرائزها الطبيعية تتبادل الاعتراف بـ (الأوطان) على ضوء ميزان القوى ، فكل الحيونات تهاب الاقتراب من تخوم مقاطعة النمور (أوطانها) ، فالجغرافيا بين الشرق والغرب كانت بالنسبة -لطه حسين- هي جغرافيا الروح لا جغرافيا الطبيعة ، وعلى هذا فإن المميز لعالم الإنسان هو العقل ، وقد استوى الانسان انسانا بمزية ملكات العقل والفهم والعلم ، ولهذا فتقسيمات عوالم البشر ، وميزان قوى صراعها ونفوذها ، يجب أن تستند إلى هذه المرجعية ( العقلية وليس الطبيعة الغريزية ) فالعدوان الخارجي إذن ، عدوان داخلي ، والعبودية نحو الآخر ليست في المحصلة سوى عبودية الذات في ذاتها ، وذلك عندما لا تملك ذاتها العاقلة ، العارفة ، العالمة ، عندها ستخضع لعبودية الآخر(المتفوق علميا) ، من خلال عبودية الأنا التي فتك الجهل بأخلاقها ومراففها .

وعلى هذا فإن " الحرية والاستقلال ليسا غاية تقصد إليها الشعوب وتسعى إليها الأمم ، وإنما هما وسيلة إلى أغراض أرقى منهما وأبقى وأشمل فائدة وأعم نفعا "

لقد ساق طه حسين أفكاره هذه سنة 1938 في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " بعد 1936 تاريخ المعاهدة المصرية الانكليزية التي انهت الاحتلال رسميا ، وعام 1937 التي وقعت فيها اتفاقية منترو التي ألغت " الامتيازات " [**] .

وعلى هذا فقد كانت أوربا بالنسبة لطه حسين ، ليست مكانا مغايرا للذات وهي برسم الآخر ، بل هي المنجز الحضاري الكوني للجميع ، حيث ينبغي تجاوز حدود الجهل والتأخر باتجاه فضاءات العلم والتقدم ، فالحدود إذن ليست جغرافية ، بل هي حدود فكرية ، تضع حد التعريف والتمييز بين الجهل والعلم ، التأخر والتقدم ، الاستبداد والحرية ، ومنطلقه في ذلك فلسفة التاريخ والمجتمع التي استمدها من ابن خلدون ومن مفكرين فرنسيين (كونت رينان ، دوركهايم، أنا طول فرانس) وعماد هذه الفلسفة " إن الحضارة هي غاية البشرية " وعلى هذا كانت أوربا تمثل لطه حسين حضارة العالم الحديث ، وأنه من الوهم الآثم والشنيع ... تصور أنا خلقنا من طينة غير طينة الأوربي ... ومنحنا عقولا غير العقول الأوربية ... ولذلك ينبغي أن تكون لدينا الثقة بالنفس والعقل لأن " نسير سيرة الأوربين ونسلك طريقهم ولنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة ... خيرها وشرها ، حلوها ومرها "[††]

وعلى هذا فقد كان الغرب لطه حسين – حسب البرت حوراني – هو الغرب الليبرالي الديموقراطي الصناعي ، الذي ينبغي امتلاك تفوقه لدفع شر هذا التفوق الذي تبدى في الظاهرة الاستعمارية .

تأسيسا على هذا الفهم لعلاقة الداخل بالخارج ، كان العميد سباقا لإلتقاط المسألة الأساس في ظرف الاستعمار الجديد حيث لا حاجة للجيوش والأساطيل ، بل لقوة السلعة والرساميل ، ومن هنا ليس ثمة ملاذ من العبودية والتبعية إلا لأولئك لدين أخذوا بـ " الأسباب الحقيقة للاستقلال " " فيقدم اليابان مثالا على من استوعب درس الاستقلال والسيادة ، بعد الهزيمة المروعة التي عاشتها ، فتمثلت هذه الهزيمة ردا حضاريا : تنمويا ، تقنيا ، سياسيا (ديموقراطيا) وثقافيا في تمثل المنجز الحضاري الكوني الذي تنخرط فيه ذات الأمة بكل خصائصها التاريخية ، دون خوف على عذراوية الهوية و بكارة الأصالة والخصوصية ، فلا أصالة ولا هوية مع الانكفاء البائس على ذات عازفة ، مقرورة ، متكهفة خائفة من تيارات هواء العالم واستحقاقته التاريخية .

ليؤسس منظوره التنويري النهضوي هذا ليس على الفكر الغربي (كونت ومنتسكيو) فحسب ، بل على ابن خلدون الذي سبق مونتسكيو إلى اكتشاف " مبدأ الجبر التاريخي " حسب العميد في كتابه ( فلسفة ابن خلدون الاجتماعية[‡‡]) واستناده إلى قانون ابن خلدون حول ( التشابه والتباين ) حيث التباين المتصل بخصوصية المجتمعات البشرية والشعوب من حيث الأسباب الطبيعية والجغرافيا والاقتصادية والسياسية )، لا يتناقض مع قانون التشابه إذ جوهر هذا القانون هو الوحدة العقلية للجنس البشري [§§] ، وعلى أساس هذا القانون سيكتشف العميد النزعة الإنسية عند ابن خلدون ، وعلى هذا الأساس أيضا ستتكشف هذه النزعة الإنسية في منظور ورؤية طه حسين للمجتمع والانسان والأدب والثقافة .
--------------------------------------------


[*] - عبد الله العروي – العرب والفكر التاريخي –ص 45

[†] - عبد الله العروي – العرب والفكر التاريخي – المركز الثقافي العربي ط3 – 1992 – ص45-46

[‡] - الهزيمة والايديولوجيا المهزومة – ص217

[§]- مستقبل الثقافة في مصر ص 128

-[**] ألبرت حوراني – الفكر العربي في عصر النهضة - ص332

[††] - مستقبل الثقافة ص 41 -42 -45 عن البرت حوراني- ص335

[‡‡] - فلسفة ابن خلدون الاجتماعية – سبق ذكره – ص44.

[§§] - المصدر السابق – ص46
12-02-2005, 07:46 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  عوامل مساعدة لانتشار الإرهاب فارس اللواء 1 484 07-05-2014, 03:09 PM
آخر رد: Rfik_kamel
  الحل الثالث : الليبرالية الاجتماعية الجواهري 0 570 09-10-2013, 02:45 PM
آخر رد: الجواهري
  إعلان السابع من مايو “يوم الليبرالية” الأول في السعودية .. بسام الخوري 1 849 05-08-2012, 02:32 AM
آخر رد: بسام الخوري
  دور العقلانية الإسلامية في إعادة صياغة الوعي الثوري فارس اللواء 3 1,148 03-02-2012, 09:09 PM
آخر رد: فارس اللواء
  عن العقلانية .. الــورّاق 0 734 12-22-2011, 04:57 PM
آخر رد: الــورّاق

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS