كتب علي حسين باكير من
مجلة العصر الالكترونية في 22-6-2005
عادت الانفجارات من جديد إلى لبنان وسقط نتيجة التفجير الأخير الذي وقع أمس، 21 حزيران 25، الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي. وقد حدث ذلك في غمرة الانتهاء من الانتخابات النيابية اللبنانية، والتي يمكن تسميتها بالانتخابات التعيينيّة، لأن الجميع كان يعرف من هي القوى التي ستصل إلى المجلس حتى قبل خوض الانتخابات.
* المتاجرة بدماء الأموات:
لقد حصل تطور كبير منذ مقتل رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري قبل حوالي الثلاث أشهر في السياسة اللبنانية وإن لم يغيّر السياسيون اللبنانيون "النفاق" السياسي الذي يطبعهم، حيث يعيش اللبناني اليوم حالة من الاشمئزاز نتيجة هذه التصرفات، و عليه أن يتبع زعيمه عند كل "كوع" يدخل فيه أو موقف يتخلى عنه. ولا أعرف إن أصبح من الممكن الحديث عن معارضة في أجواء اختلط فيها الحابل بالنابل، ولم يعد أحد يعرف من المعارض ومن الموالي، ومن الموالي للمعارض ومن المعارض للموالي.
ويمكن أن نقول إن طبقة المعارضين الجدد التي ظهرت فجأة بعد مقتل الحريري، أصبحت تهوى المتاجرة بدماء الأموات، فكان من الطبيعي أن تكون حادثة مقتل الصحفي جورج حاوي محطة مثمرة لهم أيضا، فبعد أن ترجموا استغلال موت الحريري بطاقة انتخابية اكتسحت موجتها الجميع، بما في ذلك البيوت السياسية اللبنانية العريقة مثل الحص وسلام وفارس وكرامي وغيرهم، تنادوا إلى عدم خوض الانتخابات تحت شعار "من سيترشح ضدنا فهو مشارك في مقتل الحريري"!!. والآن جاء دور ورقة "حاوي"، ولم ينس هؤلاء أيضا أن يرموا باتهاماتهم كل حسب هواه. فأتباع جنبلاط شنّوا هجوما على رئيس الجمهورية متهمين إياه بالتورط، فيما تولى أتباع قرنة شهوان الهجوم على سوريا كالعادة متهمين إياها بقتل حاوي، فيما ذهب جزء ثالث إلى اتّهام جهات خارجية وهكذا كل حسب مزاجه دون دليل أو برهان كما اعتادوا تجييش الناس كالقطيع، طبعا دون أن ينسى لهؤلاء المطالبة بلجنة تحقيق أيضا، ولا أعرف إن كانوا سيشركون اللجنة الدولية!!.
والغريب هذه المرة أنهم لم يوجّهوا أصابع الاتهام إلى قادة الأجهزة الأمنية كما فعلوا سابقا بالماضي، وذلك ببساطة لأنهم استنفذوا غرضهم من الهجوم عليهم وأقالوهم جميعا بعد مجيء حكومة ميقاتي، كما أنهم لم يطالبوا وزير الداخلية والوزراء الحاليين بكشف الحقيقة كما صدّعوا رؤوسنا في مقتل الحريري، وهذا يبرز الانتقائية في توجيه التهم، وكل يحدد ما يريد.
* المندوب السامي يعود إلى لبنان:
لقد أدى اغتيال الحريري إلى تدويل لبنان كما يحلو للبعض أن يسمي ذلك، مع العلم أن الحقيقة تقول إن التدويل يعني استبدال النفوذ السوري بنفوذ أمريكي وفرنسي في لبنان، وهذا ما حصل الآن.
ويخطئ من يعتقد أن هؤلاء الذين تظاهروا أخرجوا سوريا من لبنان، فسوريا دخلت بقرار أمريكي وخرجت كذلك بنفس الطريقة، وعلى الرغم من ذلك فأمريكا باعت حتى حلفاءها المسيحيين (ولو مؤقتا) عندما ضغطت لإجراء الانتخابات وفق قانون 2 الذي أضر كثيرا بالمسيحيين. وللتعويض عن هذه الخسارة، راح المندوب السامي الأمريكي "فليمينت" من مقره في "عوكر" يدير شؤون البلد محاولا التعويض عن خسارة المسيحيين بتزكية بعض المرشحين وفرض آخرين على هذه اللائحة أو تلك، ومطالبا فلان بالتنحي وآخر بعدم التدخل بالشؤون الانتخابية، متنقلا بين بيوت زعماء الطوائف لإعطاء الأوامر والتعليمات مغلفا إياها بمنطق النصائح والمشاورات، إلى أن عاد أخيرا إلى نفس العمل عقب مقتل الصحفي "سمير قصير" ليقدم الملاحظات كسيد لبنان الجديد متسائلا في المؤتمر الصحفي: "لماذا لم يتم القبض على مشتبهين حتى الآن؟"، مستغربا لماذا لم يسجن أحد؟ متفضلا بمزيد من التفاصيل متكرما علينا بتحليله الخارق من أن قصير كان يكتب كثيرا ضد سوريا، وأن الجهة التي اغتالت قصير فعلت ذلك لأنّه كان يكتب ضدها، وبالتالي فإن الجهة التي اغتالته معروفة كما قال!!، مشيرا بذلك إلى سوريا.
وعاد الآن عند مقتل حاوي إلى نفس النغمة للتحريض ضد سوريا، إذ سارعت سفارة الولايات المتحدةالأميركية في بيروت إلى توجيه أصابع الاتهام إلى سوريا في جريمة اغتيال الأمينالعام الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي، وأصدرت بيانا جاء فيه: "مقتل الشخصية السياسية اللبنانية السيد جورج حاوي، الذي تم اغتياله بواسطة متفجرةاليوم في بيروت، هو في نظرنا كما الهجوم الذي قتل الصحافي في جريدةالنهار سمير قصير، لم يكن عشوائيا غير متعمد". وتابع البيان بلهجة تحريضية: "لقد كان السيد حاوي ضد الوجود السوري في لبنان، وكما الآلاف مناللبنانيين من أمثاله، ضم صوته إلى أصوات المطالبين بإنهاء التأثير السوري علىالسياسة في لبنان. لقد قتل السيد حاوي بواسطة قوى لا تؤمن بقيمة حياة الإنسان".
فإذا كانت سوريا الفاعلة، فلماذا لم تقتله عندما كانت طيلة الوقت هنا بجيشها ومخابراتها ونفوذها؟!! ولماذا انتظرت حتى تنسحب لتفعل ذلك؟ ولماذا يتم قتل صحفي يحمل الجنسية الفرنسية أولا، ثم أمين عام الحزب الشيوعي ثانيا؟ أليس من أجل التدويل أيضا؟ وخير دليل على هذا أن البيت الأبيض طالب مجلس الأمن مباشرة بتوسيع صلاحية لجنة التحقيق بمقتل الحريري لتشمل سمير قصير أيضا؟! هل هذا محض صدفة؟ والآن لا نعلم بماذا سيطالبون!!
* لبنان إلى أين؟
إن الأجواء في لبنان لا تشي بخير أبدا، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وهناك انقسامات حادّة في بيته الاجتماعية والطائفية حتى قبل الخوض في القضايا المصيرية التي ستأتي لاحقا بعد أن تمّ تشكيل البرلمان الجديد، ومنها مصير رئيس الجمهورية، ومصير حزب الله وسلاحه ومصير الفلسطينيين ومخيماتهم وقضايا أساسية أخرى مصيرية، فإذا كان الحال هكذا اليوم، فكيف سيكون غدا؟ البلد اليوم في حالة هرج ومرج، وما عاد أحد يعرف من مع من ومن ضد من، وقد أصبح واضحا أن من يمكن أن نسمّيهم "المعارضون الجدد" (وهم الآن سيشكلون السلطة عمليا)، الذين كانوا طوال عملهم السياسي خلال الـ13 سنة الماضية من الموالاة، يريدون إقصاء الجميع سياسيا واجتماعيا بمن فيهم المعارضون الأصيليون، كما في حالة عون مثلا الذي أصبح يتهم اليوم أنه مع رموز السلطة، لا لشيء إلا لأنه وغيره يأبون المتاجرة بدماء الموتى، ولا يعرفون على ما يبدو كيف يدار النفاق السياسي، وللأسف فإن أمثاله لا مكان لهم في السياسة اللبنانية وسيفشلون، فإما أن يسايروا التيار وإما أن يجرفهم، هذه هي المعادلة التي فرضها المعارضون الجدد.
ويبدو أن الولايات المتحدة تعتمد سياسة خلط الأوراق في لبنان، وذلك من خلال استهداف شخصيات كان لها خلاف مع سوريا أو شيء من هذا القبيل،
خاصة أن الساحة اللبنانية تعج بالجواسيس والمخابرات الأجنبية وحتى الإسرائيلية، لا سيما أن عملاء إسرائيل الذين تمّ محاكمتهم بعد الانسحاب الإسرائيلي كانت مدّة محكوميتهم قصيرة، وغالبا لم تتجاوز السنة أو السنتين، لكن يبدو أنه لا وجود إلا لسوريا كما تريد أمريكا، وخير دليل على ذلك أن الولايات المتّحدة عمدت قبل مدّة إلى القول إن لديها معلومات عن لائحة اغتيالات سورية!!!