يتـَّضِحُ لي أنَّ المدوِّن يختار الكتابة كمنقذ مُـخلـِّص ، غير أنَّ هذا الاختيار قائم على مفارقة مذهلة ، ذلك أنَّ الكتابة عذابٌ و ضـَنـًى . و الشروع فيها دخول في سفر العذابات و الوجع . فتتوالد في النصوص الومضات المخبِرَة عن ذلك الضنى العاتي و الوجع المـُمِضّ ، فتبدو الكتابة كما لو أنَّها نوع من العَصْف فالرُّؤيَا التي يحوِّلها المُدوِّنُ إلى كلام ، تأخذه من ذاته كالزَّلزلة .
فإذا كانت الكتابة مُرِيحَة صارت لغوًا ، غير أنَّ التدوين رسالة و ما أرقى الرِّسالة عن اللـَّغو . و أعتقد أنَّه من العبث و الحمق أن نلغـُو بيننا و بين أنفسنا في زمن الرَّدَاءة و السطحيَّة فما بالك باللغو في الفضاء التدويني على الملأ . إنْ لم يكن التدوين دافِعًا و لا نافِعًا و لا مُستفِزًّا و لا مُلهـِمًا فهو الخـُسْرُ بعينه.
هذا نهجنا في مقاربة النصوص إلى حدِّ الآن ، نحاصِرُ الومضات و نستقرِئها ، فتتحوَّل بعد طول التملـِّي إلى مَسَارِبَ تقود إلى ما تكتـَّمَ مُقفـَلا على نفسه ، و ما تحَجَّبَ مُتمَنِّعًا لا يمنحُ ذاته . ألا يعني الاستمرار في طقس الكتابة أنَّ العذاب المتولـِّد عنها يتحوَّل ، حين يبلغ حدًّا ما ، إلى لذة تفسِّر الإصرار على المضيِّ إلى المنتهَى ؟ لقد تبيَّنَ أنَّ لحظة الكتابة هي تلك اللحظة الهائلة التي يرتادُ المؤلـِّف فيها زمن النصّ و يفلت من عقال الزمن التعاقبيِّ ، و يكتشف ما وراء الظاهر من أبعاد تتلاقفه و تجعله ماثِلا في مهبِّها . و حين يمثل في حَضرَة النصّ يكون قد شرع في التقاط ما يسمِّيه أبو القاسم الشابِّي " نبض الكون" أو " روح الكائنات المُستتِر " فيستشعر اللذة العارمة التي تفسِّر إصراره على مواصلة الكتابة و قيامه في الآن نفسه على ثنائيَّة غاية في الرَّوعة هي: لذة الكتابة/رُعب الكتابة .