تتسم مرويات وأراء الشيخ مصطفى عبد الرازق خلال رحلته إلى اوروبا وفرنسا خاصة بسمتين بارزتين أولاهما كتابة تفيض ظرفا وثانيتهما تحرر في الفكر وطريقة النظر إلى الامور عند رجل الدين الذي تتلمذ على يد الامام محمد عبده. ويطل عبد الرازق هنا في صورة انسان مستنير ومثقف مطلع ذي عقل منفتح على كثير مما يسمى الآن أسس الحداثة. وقد تكون هذه المذكرات أبرز اثر من نوعه لاديب ورجل دين مصري بعد أكثر من 80 سنة على رحلة الشيخ رفعت رفاعة الطهطاوي الباريسية التي استمرت خمس سنوات من 1826 إلى سنة 1831.
الكتاب الذي جاء ضمن سلسلة أدب الرحلات وتحت أسم "ارتياد الافاق" صدر في حوالى 100 صفحة كبيرة القطع عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ومركزها الرئيسي بيروت. وقد تؤخذ على الكتاب كثرة الاخطاء الطباعية. حمل الكتاب عنوانا مفصلا هو "مذكرات مسافر - رحلة شيخ الازهر إلى أوروبا 1909 - 1914 الشيخ مصطفى عبد الرازق". وقد حرر المذكرات وقدم لها أشرف ابو اليزيد. وفي نهاية الكتاب ادرج ملحق حمل عنوانا هو "مصطفى عبد الرازق كما عرفته" كتبه الدكتور طه حسين.
قال أبو اليزيد في مقدمة الكتاب إن الصدفة قادته إلى قراءة أوراق هذه الرحلة "وهي صفحات منسية رغم أن مسطرها من الاعلام النادرين في تاريخ النهضة المعاصرة... وفي أوراق الرحلة من شذرات التنوير ما يجعلها أكثر معاصرة مما يكتبه دعاة التنوير اليوم وفيها من الدعوة للحوار مع الاخر وفهمه ما يكاد يكون صدى لما يحدث الآن."
وأضاف أن أول مقالة قراها لعبد الرازق عثر عليها في مجلة مجلتي التي أصدرها قبل نحو سبعبن عاما أحمد الصاوي محمد وفيها يروي الشيخ رحلته بالسفينة إلى مارسيليا وزيارته لكنيستها الشهيرة نوتردام دو لا جارد ودعوته إلى التأمل في جمال الدين أي دين.
وبدأ أبو اليزيد التنقيب عن باقي فصول رحلة الشيخ فعثر على قسم منها في جريدة السياسة التي كان الصاوي قد نقل مقالة الشيخ عنها. ثم عثر على مصدر ثالث للرحلة في كتاب "من آثار مصطفى عبد الرازق صفحات من سفر الحياة ومذكرات مسافر ومذكرات مقيم وآثار أخرى في الادب والاصلاح" قام بجمعه شقيقه علي عبد الرازق وصدر عن دار المعارف بالقاهرة مع مقدمة للدكتور طه حسين هي التي الحقت بالكتاب الحالي.
وخلال وجود الشيخ في فرنسا التي قصدها مرتين "تعلم الفرنسية وحضر في باريس دروس الاستاذ دركهايم في الاجتماع ودروسا في الاداب وتاريخها وفي سنة 1911 تحول إلى مدينة ليون ليشتغل مع الاستاذ لامبير في دراسة أصول الشريعة الاسلامية وحضر في جامعة ليون دروسا للاستاذ جوبلو في تاريخ الفلسفة ودروسا في تاريخ الادب الفرنسي وتولى تدريس اللغة العربية في جامعة ليون."
وقد تبوأ عبد الرازق في مصر مراكز عالية إذ تولى وزارة الاوقاف لسنوات وشغل منصب شيخ الازهر كما قام بتدريس الفلسفة في جامعة فؤاد الاول. وشارك في ترجمة كتابين إلى الفرنسية احدهما رسالة التوحيد لاستاذه الامام محمد عبده. وشملت رحلة الشيخ مدنا منها مرسيليا وباريس وليون وجرينوبل ولندن.
يورد ابو اليزيد ما كتبه الشيخ عن سفره إلى لندن حيث قال ساخرا "ولما قضينا من باريس كل حاجة ومسح بالاركان من هو ماسح قال رفيقي نذهب إلى لندرة في طيارة..يغفر الله لك يارفيقي وهل يناسب وصف العالمية (شهادة العالمية الازهرية)أن نرقى بطيارة إلى الافق الاعلى فنزاحم الملائكة بالمناكب عند أبواب السماء أو نتشبه بالجن في استراق السمع.. قال فالامر هين نستفتي في المسالة شيخ الجامع الازهر أو مفتي مصر وننتظر الجواب. يغفر الله لك مرة أخرى ان شيخ الازهر ومفتي مصر واخوانهما لم يردوا تحية الاسلام في ادارة المعاهد الدينية وقالوا لمن ألقى إليهم السلام لست مؤمنا. فهل تطمع في الرد على استفتاء يرسل إلى حضرات أصحاب الفضيلة من باريس."
نجد في وصف الشيخ لحفل راقص على متن السفينة فضلا عن تفهم روح العصر عينا فنية حية وشاعرية. وقال "إن لم تكن رقصت السفينة فقد رقصت فوقها قدود هيفاء ترسل حركاتها الرشيقة مسايرة للانغام الموسيقية. تنساب تلك الاقدام اللطيفة هفافة متراوحة الخطا مسرعة مبطئة فيرتج بعض الجسم ارتجاجا خفيفا وتميس الأعالي كصدور العوالي ثم يحمى الوطيس وتتعالى نبرات الموسيقى نغما سريعا متواصلا فكأنما تلك الاسراب طيور وكأنما تلك الوجوه الشفافة شعلة من نار ونور وكأن بدورا تعانقها بدور وكأن الارض والسموات تمور."
ونتبين مدى انفتاح عقل الشيخ من خلال حوار عن الرقص يبين في ما يبين قدرته على تفهم الرأي الآخر وتقبله بل نستشف رأيه الحر من خلال النقاش. يقول إن بعضهم يرى أن الرقص على ما فيه من رشاقة وجمال ليس "حاجة من حاجات المدنية ولا كمالا من كمالاتها ولست أتمنى لقومي أن يقتبسوا هذه العادة... فان مدنيتنا المرجوة إذا امتازت بمسحة من الاحتشام كان ذلك أفضل."
ورد عليه آخر بقوله "الرقص ليس حاجة من حاجات المدنية ولا هو رفه من زوائدها ولكن الرقص من حاجات الجماعة البشرية في جميع أدوار حياتها. ولسنا نعرف قوما من البشر لا يرقصون... وقد جاءت أديان لا يناسب تقاليدها هذا النوع من اللهو الفطري فالتمست الغرائز البشرية لها منفذا من جانب الدين نفسه..وليست حلقات الذكر بطبقاتها وبدفها ونايها وحفلات الزار بدقاتها وبطبلها وغنائها إلا تحلة للرقص عند الرجال والنساء في بلاد الاسلام."
وحذر عبد الرازق من محاولات منع الرقص كما كانت قد جرت محاولات لمنع حفلات الذكر والزار في الماضي باعتبارها بدعا. وقال "وكنتم تحاولون أن تمنعوا هذا الرقص الفرنجي من أن يصل إلينا فانتم تسدون المنافذ على ما في الطبائع. رويدكم أننا ناس من البشر." ويتناول بعين مؤيدة حينا وساخرة وناقدة أحيانا عادات وتصرفات عديدة شاهدها في فرنسا منها "المشية الجديدة" عند النساء والناتجة عن ارتداء المشد. ويتحدث عن عطل أصاب السيارة التي كانت تقلهم من باريس وعن تشاؤم الناس من الكهنة وينقل قول سيدة لصديقات لها أن النزهة اقترنت بسؤ الطالع ثم يصف تساؤلها معهن بسخرية وهن ينظرن في وجوه الرجال عما إذا كان ثمة قسيس في رفقتهم دون ان يدروا.
وقال الشيخ ساخرا "هناك تذكرت قول شاعر الأزهر (الشيخ والقسيس قسيسان.. وان تشأ فقل هما شيخان). وتصببت عرقا وأخذت الوي وجهي واحرف ملامحه واصد عن تلك النظرات اللاعبة مخافة ان يصبح لعبها جدا." وفي زيارة كنيسة مارسيليا يقول "رأيت في نواحي هذه الكنيسة الصعبة المرتقى في جوف ظلامها المؤنس الرهيب عبادا يخرون للأذقان سجدا في خشوع وايمان متوجهين إلى ربهم بقلوب تدفعها صدمات الحياة إلى التماس العزاء في كنف رحمته... أليس الدين جميلا في اخلاصه ويقينه وجميلا في ما يمسح من الأم البشرية بيمينه. إنما يشوه الدين اولئك الذين يريدونه كيدا وتضليلا وقيدا للعقول والقلوب."


elaph