الحريري وتل أبيب : تفجيران بصاعق واحد
المحامى سليمان الحكيم
من قتل الرئيس رفيق الحريري؟ سؤال سيترتب على الإجابة عنه سقوط أنظمة وغياب وجوه وتغيير في الخريطة السياسية وربما الجغرافية لبلاد الشام , وفى عمليات الاغتيال الكبرى التي يتولّد عنها منعطفات تاريخية , ليس من السهل تحديد أسماء الجناة بل ولعلّه ليس مهما بدرجة تحديد من يقف وراءهم , ففي مثل تلك العمليات تتخذ قوة إقليمية القرار وتخطط له جهة أمنية تابعة وتنفذه واجهة مرتبطة بها بشكل أو آخر, والمهم في عمليات الاغتيال الكبرى هو القرائن السياسية والأمنية التي تتجمّع لترسم سهما ذا لون فاقع يشير بما لا يقبل الاجتهاد إلى الجهة التي اتخذت القرار
ونظرة متمعنة إلى بلاد الشام ترينا أن سوريا جاء عليها حين من الدهر وفى زمن الرئيس حافظ الأسد كانت تمسك بيد من حديد بمعظم الأوراق الإقليمية لتوازن بها سياسيا القوة الإسرائيلية في مفاوضات مفترضة بعد أن ثبت استحالة تحقيقها للتوازن العسكري في معركة غيرواردة في التفكير السوري أصلا , غير أن تلك الأوراق راحت تتسرب من اليد السورية واحدة اثر أخرى فالأردن مرق من الصف مستبقا الآخرين وأقام صلحا كاملا مع إسرائيل ولبنان استعاد أراضيه حسب الخرائط الدولية وبتأكيد من الأمم المتحدة وفقدت دعاويه ضد إسرائيل حجتها القانونية – من وجهة النظر الدولية على الأقل – والثورة الفلسطنيية انحسرت إلى سلطة تجهد للحفاظ على الفتات المتبقي خالعة وجهها العربي لتعود فلسطينية القلب والوجه معا , وهذه قصة أخرى .
لم يبق لسوريا في حقيقة الأمر إلا اللعب بورقة النظام الرسمي اللبناني ومعه حزب الله وبعض الدكاكين الصغيرة التابعة لأجهزتها, وورقة التواجد الاعلامى والسياسي للفصائل الفلسطينية في كل من لبنان وسوريا, ثم استجدّت الورقة العراقية , ومع ذلك فان الوزن السوري مقارنة بما كان عليه قد ضعف إلى مالا يقاس وقد انعكس ضعفه في رفض إسرائيل ممثلة برئيس وزرائها شارون التفاوض وفق مبدأ الأرض مقابل السلام وإنما وفق مبدأ السلام مقابل الأمن, أي تمدّ سوريا يدها بالسلام الكامل لتردّ إسرائيل بضمان أمن سوريا ! يضاف فوق ذلك كله الحراك السياسي والاجتماعي داخل سوريا ذاتها, فالنظام يعيد إنتاج نفسه وتحنّط برموز تعيد إلى الذاكرة القيادات السوفييتية التي كانت تأبى مغادرة مواقع السلطة إلا إلى القبر بفعل الشيخوخة.
في صراعها الاقليمى عمدت سوريا إلى دعم كل من تصّدى للاحتلال الأميركى للعراق والنظام السياسي الجديد فيه, قوميون وإسلاميون وهابيون وإيرانيون, وفلول نظام صدّام وحتى عصابات الإجرام الجنائي, كما عمدت إلى تحدّى الشرعية الدستورية اللبنانية وأجبرت المؤسسة التشريعية اللبنانية على تمديد حكم الرئيس أميل لحّود ثلاث سنوات مع أن بدائل عدة له متوفرون ولا يقلون عنه طاعة, وكانت قضية التمديد بداية بروز الخلاف بين النظام السوري والرئيس الحريري إلى العلن, فقد استدعى الرجل إلى دمشق وحاول عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري والمكلّف بالملف اللبناني منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود إقناعه بالضرورات السورية التي تدعو إلى التمديد الرئاسي , ولما فشل خدام في مهمته إزاء إصرار الحريري على الشرعية الدستورية تولّى مهمة ( الإقناع ) اللواء رستم غزالة قائد القوات السورية والمندوب السامي في لبنان, وكانت طريقة( الإقناع) مهينة وجارحة بحجم أهمية الحريري كرئيس كتلة نيابية كبيرة تملك في حال تحالفها مع النواب المسيحيين أن تحبط المسعى السوري للتمديد, وبعد أن رضخ الرجل للأمر الواقع , وصله إيعاز سوري أن يقدّم استقالة حكومته, وبربط تاريخ الاستقالة مع تواريخ نشوء التحالفات المستجدة بين قوى سياسية لبنانية كانت متنافرة يتبيّن أن الرجل أتخذ قراره بالرد بلطمة تطيح بالوجود السوري في لبنان , فموعد الانتخابات النيابية اللبنانية سيحلّ في أيار المقبل ,و التحالفات المستجدة تتيح غالبية قادرة على حجب الثقة عن حكومة عمر كرامي بسهولة , وفرض حكومة جديدة برئاسة الحريري كان يبدو في متناول اليد, وليس من المتصوّر أن يستطيع الرئيس اللبناني مقاومة إجماع وطني لبناني رسمي وشعبي مطالب عبر منابر محلية وإقليمية ودولية بجلاء سوريا بكل أشكال تواجدها من لبنان , وكان واضحا أيضا أن الحريري هو المحور المركزي الذي تدور حوله حركة المعارضة اللبنانية, فهو يقودها بحمولات من نفوذ مالي هائل , ودعم سعودي وغربي لا شك فيهما, وتجربة سياسية تصبّ محصلتها النهائية في صالحه, وكذلك تم اختزال صورة الصراع المقبل بين طرفين : شخص الحريري من جهة وكل أشكال التواجد السوري في لبنان من جهة أخرى , ولعلّ مجلس الأمن القومي السوري الذي ناقش هذا الوضع الطارىء وغير المتوقع قد استعاد درس اغتيال الزعيم كمال جنبلاط , فعلى اثر اغتياله تمكنت سوريا من إسكات المعارضة الوطنية اللبنانية لاحتلالها لبنان ومن ثم تدجينها بل واكتسابها إلى صفها في مرحلة لاحقة.
ليس واضحا حتى الآن من هو بالضبط الذي اتخذ قرار الاغتيال في سوريا, ذلك أن ردة الفعل الرسمية السورية كانت غريبة , فنائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام حرص على التأكيد لحظة دخوله بيت الحريري لتعزية أسرته , أنه قدم بصفته الشخصية كصديق للرئيس المغدور, وما لم يقله خدام أنه في بيت الحريري أيضا بصفته شريك مالي أيضا فقد ارتبط نجله جمال بعلاقات مشاركة مالية وعقارية مع مؤسسة الحريري, والرئيس السوري التزم صمت المريب الذي يكاد يقول خذوني,بل وعمد بتوقيت غبي إلى طرد مدير المخابرات بحجة بلوغه سن التقاعد, والشاهد أن ردة الفعل الرسمية السورية كانت باردة بما لا ينسجم وتاريخ صانع اتفاق الطائف الذي شرّع الاحتلال السوري !
أقام الرئيس حافظ الأسد نظامه وفق توازن – يضبط هو إيقاعه – بين مراكز قوى متعددة وهائلة, مسلّحة ومشكّلة من عديد بشرى كبير, , وكل مركز منها يعتبر سلطة قائمة بحد ذاتها مرجعها رئيس الدولة شخصيا والذي كان بدهائه المشهور يحكم تناقضاتها ويسيطر على صراعاتها فيما بينها, وقد اختص كل منها بمجال أمنى , والى جانب ميزانية هائلة كانت تحت تصرّفه فقد قامت علاقات غريبة بين قادة تلك الأجهزة وبين الأطراف السياسية التي تدخل ضمن اختصاصها, فعلى سبيل المثال كانت مخابرات سلاح الجو التي يرأسها اللواء على الخولى مكلّفة إلى جانب ملفات أخرى بالعلاقة مع تنظيم صبري البنّا – أبو نضال – المنشق عن حركة فتح , فقد فتح الخولى الساحة اللبنانية وبالذات مخيمات اللجوء الفلسطيني وسهل البقاع لجماعة أبو نضال وفق خطة عليا وقرار مركزي يقضيان بإضعاف حركة فتح , ولكن بالترافق مع تنفيذ التعليمات العليا كان للطرفين خططا موازية تدرّ عليهما أرباحا مالية ضخمة, فمن تجارة بالسلاح وتهريبه, إلى تهريب التبغ, إلى سرقة السيارات من لبنان وتهريبها لكبار الضباط في سورياّ! وعلى سبيل المثال أيضا كان اللواء محمد ناصيف مدير المخابرات العسكرية مكلفا بملف حركة فتح , وكان الرجل اقل نشاطا من زميله الخولى إذ اكتفى بتسليم دوري لمعلومات دائرته إلى قيادة فتح واستلام مظروف كبير يتناسب وموقعه
والحاصل أن الحكم المباشر في سوريا تقوده دزينة من ذلك النمط من الأجهزة الأمنية, واحد منها مسئول مباشرة عن اغتيال الرئيس الحريري, وفى ظني أنه هو ذلك الجهاز الذي يتولى ملف حركة الجهاد الاسلامى الفلسطينية, ذلك أن تداعيات اغتيال الحريري خرجت عن السيطرة وكانت أكبر مما توقع المخططون, وبدأت الأزمة تندفع بالقصور الذاتي إلى حيث لا يترك مجالا للشك أن الجلاء السوري عن لبنان بات تحصيل حاصل, وأن صدور قرار وشيك عن مجلس الأمن الدولي يعيد إلى الأذهان قراراته المتعلقة بالانسحاب العراقي من الكويت عام 1990, وبات حيّز المناورة أمام النظام السوري ضيّقا للغاية خاصة بثقل التواجد العسكري الأميركى على الحدود الشرقية لسوريا, وأمام هذا الأفق المظلم المسدود عمد ذلك الجهاز إلى حركة يائسة تستهدف خلط الأوراق وجر المنطقة إلى منعطف بعيد عما يحدث في لبنان فكانت محاولة تفجير المنطقة الفلسطينية بعملية انتحارية في تل أبيب, والمفارقة أنه برغم الطابع البطولي للعملية فقد تنصلت منها جميع الفصائل التي كانت تتسابق لانتحال أية عملية أدنى مستوى وأقلّ دويا, ومن الواضح أن هذه العملية لم تحقق أهدافها , وبات على النظام السوري أن يرضخ لكل الاستحقاقات داخليا وإقليميا, ولعل تسليم سبعاوى التكريتى الأخ غير الشقيق لصدام حسين إلى السلطات في العراق بعد مكوثه ما يقارب السنتين في ضواحي دمشق , يعتبر القسط الأول مما يتعين على النظام السوري دفعه, وتدافع التصريحات السورية المؤكدة عدم وجود شروط سورية للانسحاب من لبنان قسط ثان, ولاشك أنه سيستمر في تسديد الأقساط إلى أن يثبت أنه استفاد من درس رأس الذئب الطائر.