شارانسكي بوش
ونموذج غزة
جوزف سماحة
أكدت نتائج الدورة الثانية للانتخابات البلدية في غزة مؤشرات الدورة الأولى في الضفة: <<حماس>> تتقدم. أكثر من ذلك إنها تتجه نحو إنهاء الانفراد القيادي الفتحاوي لصالح ثنائية وذلك للمرة الأولى منذ عقود.
يحصل ذلك في ظل انتخابات تشهد إقبالاً كثيفاً ولا يشكّك أحد في نزاهتها. ولكن الأهم هو أنه يحصل بعد سنوات انتفاضة قيل فيها إن الفلسطينيين أنهكوا، وأنهم باتوا يريدون خلاصاً بأي ثمن.
لقد قامت إسرائيل بما اعتبرته علاجاً: قمع منظم ودموي وإعادة احتلال، اغتيالات لقيادات وكوادر، إلخ... دفعت الوضع في الأرض الفلسطينية نحو اختناق اقتصادي واجتماعي، فرض عزلة دولية على السلطة، إدراج منظمات المقاومة على لوائح الإرهاب الأميركية والأوروبية، محاولة تجفيف الينابيع المالية، تدمير أو إفقار هيئات الإغاثة وشبكات الأمان، إلخ... ومع ذلك تقدمت <<حماس>>.
قيل للفلسطينيين إن ما تعانون منه ناجم عن استدراج الراديكاليين إسرائيل إلى الرد فكان أن أكثر المناطق تضرراً انحازت إلى <<حماس>>. ولعل المهم في الدورة الثانية أنها حصلت بعد انتخاب محمود عباس، والترحيب العربي والدولي به، وعودة الاهتمام (؟) الأميركي، واشتداد الضغوط للإيهام بأن الأفق بات مفتوحاً.
تقدمت <<حماس>> في ظل وجود حزب حاكم (أو بسبب ذلك واحتجاجاً على الممارسات السلطوية). لا بل تقدمت في ظل استمرار المزاج الفتحاوي المقاوم بالسلاح والرافض للاحتلال والداعي إلى القتال ضده. ربما كان التقدم سيكون أكبر لو أن <<فتح>> كانت مختصرة إلى التيار <<العقلاني>> الداعي إلى وقف <<عسكرة الانتفاضة>>.
ليس معروفاً كفاية كيف ستستقر النتائج النهائية للانتخابات البلدية، وما إذا كان ممكناً ترجمتها، سياسياً، في انتخابات المجلس التشريعي. ولكن، في المقابل، لن تكون مقنعة أي محاولة للتعامي عن معنى ما حصل ويحصل.
لا ضرورة، في هذا المجال، لإبداء رأي في سياسات <<حماس>> أو <<فتح>> أو في خيارات السلطة أو في توزع القوى السياسية الفلسطينية وبرامجها. يمكن الاكتفاء بملاحظة الأمر الواقع: إن الديموقراطية في فلسطين ليست كابحاً للقوى الجذرية في عدائها لإسرائيل والولايات المتحدة. إن المواطن الفلسطيني لا يقرأ <<لائحة المنظمات الإرهابية>> ويقترع. يدلي بصوته لمن يعتبره أهلاً ولمن يراه أكثر تصميماً على مواجهة الاحتلال.
هذه الملاحظة الأخيرة مهمة لأنها تندرج في سياق السجال الذي افتتحه الزعم الديموقراطي الأميركي. فالرئيس جورج بوش يعتبر أنه اهتدى إلى وسيلة محاربة التطرف والإرهاب: نشر الديموقراطية. إلا أن هذا الشعار كان يتحوّل إلى زعم عند احتكامه بالحالة الفلسطينية بدليل أن الموقف الأميركي الإسرائيلي من ياسر عرفات لم يأخذ بالاعتبار أنه رئيس منتخب وأنه يتمتع بشعبية استثنائية. وحتى عندما استقبل أبو مازن بحرارة فلقد كان واضحاً أن تمسكه بمطالب الحد الأدنى الفلسطينية سيعيد تقديم التبشير الديموقراطي بصفته ادعاء يقصد أهدافاً أخرى.
تقول النظرية <<البوشية>> (أي التي تبناها بوش بعد أن صاغها رهط <<المحافظين الجدد>>) إن طغيان الأنظمة، والاستبداد، والفساد هي أسباب التطرف والإرهاب. لا أسباب أخرى لذلك. أي لا أسباب لها علاقة بالسياسة الخارجية الأميركية وبواقع
الاحتلال الإسرائيلي. ولذا فإن علاج الإرهاب يكون بانصراف الفلسطينيين (والعرب) إلى إصلاح أوضاعهم والكف عن التصرف كضحايا ولوم الآخرين. والاستنتاج السياسي من ذلك هو أن الجلاء، والاستقلال، وحق تقرير المصير ليست حلولاً. الفلسطينيون هم سبب الإرهاب الفلسطيني فلا مبرر، بالتالي، للوم إسرائيل وأرييل شارون وبناء الجدار وتوسّع الاستيطان ورفض التسوية.
إلا أن السخرية تأخذ أبعادها كلها مع اعتراف بوش بالدور الذي لعبه ناتان شارانسكي في إلهامه. ويتأكد ذلك من اكتشاف أن اثنين مِن مَن ساعده في كتابة خطابه الأخير هما تشارلز كراوتهامر وبيل كريستول (من عتاة <<المحافظين الجدد>> وعادا لامتداح الخطاب الذي شاركا في وضعه) المعروفان بأنهما من أشد الأنصار الأميركيين ل<<ليكود>>. مصدر السخرية أن نتائج الانتخابات البلدية الفرعية في غزة تقول إن الفلسطينيين إنما يحتجون على السياسات التي يدعمها شارانسكي، وأنهم يستفيدون من الديموقراطية للتعبير عن تأييد واسع ل<<حماس>> لأنها، في رأي قطاع واسع منهم، قوة إصلاحية داخلياً وجذرية وطنياً.
لقد قيل، ولكن لا بأس من التكرار، بأن الزعم الديموقراطي يحمل تناقضات.
يقول بوش إن إنهاء الاستبداد يحقق مصالح أميركا وحلفائها على المدى الطويل.
لكن المشكلة في هذا الكلام الإنكار الكامل للخصوصية العربية التي تؤكد أن الديموقراطية تفيد، بالدرجة الأولى، القوى المعترضة على السياستين الأميركية والإسرائيلية وتعيد تصنيفهما بصفتهما مصدر المشاكل والاضطراب، وتحسم في أن خيار الأكثرية مقاومتهما. لقد أدرك حلفاء أميركا العرب هذه الحقيقة. وهذا هو بالضبط ما يقولونه لسادة المركز الإمبراطوري. ولن يتأخر هؤلاء الحلفاء في استخدام <<نموذج غزة>> من أجل الدفاع عن نظريتهم القائلة بأن حماية التبعية لواشنطن والالتحاق المهين بها لا يستقيمان إلا مع قدر من مصادرة الحريات ومنع الشعوب من التعبير عن نفسها.
إذا أراد بوش وشارون منع القوى الجذرية الفلسطينية من التقدم فأمامهما خياران: إما قطع الطريق على المسار الديموقراطي وإما إرغام الاحتلال على دفع الثمن. لا مجال للسياسة الراهنة القائمة على دوام الاحتلال والتوسع وعلى تشجيع الديموقراطية. فهذه الأخيرة سلاح بيد المقاومين. ويفترض ببوش مراجعة <<نظريته>> أو دفع ثمن ذلك، الاضطرار إلى الاعتراف بأنها لا تساوي ثمن الورق الذي كُتبت عليه.
http://www.assafir.com/iso/today/front/142.html