لسان الرئيس الأميركي ..
لنكولن الأفصح وكلينتون وواشنطن يكتبان خطبهما... ونزاع بين بوش وكاتب خطبه على «عبارة»

واشنطن: محمد علي صالح
«انه ينتمي الى الجناح المحافظ في الحزب الجمهوري، وهو من المسيحيين المحافظين، ويفضل العبارات الروحية ، والاحداث التاريخية التي تركز على العقيدة ، إضافة الى الاشارات غير المباشرة الى التراتيل الدينية».
هذا هو ما كتبته جريدة «توليدو بليد» بولاية اوهايو العام الماضي، ولكن ليس عن الرئيس الاميركي جورج بوش، ولكن عن مارك غيرسون كاتب خطب بوش، والذي كتب خطاب تنصيبه في الاسبوع الماضي. وغيرسون، الذي يقول البعض انه اكثر تدينا من الرئيس نفسه ، كتب ايضا خطاب بوش الذي ألقاه في السنة الماضية امام فطور صلاة سنوي للاميركيين من اصل لاتيني ، وقال فيه «نحن على ثقة بأن يد الله تقود هذه الامة. نحن لا نحتكر رعاية الله، لكننا نؤمن بأنه معنا. هذه ظلت الحقيقة ، والتي تأكدت بعد هجوم 11 سبتمبر».
ولا ينكر احد على بوش نزعته الدينية ، وقدرته على مخاطبة الاميركيين بعبارات دينية لأن الاستفتاءات اثبتت انهم من اكثر الشعوب الغربية تدينا. لكن ربطه للدين بالسياسة، وخاصة حرب الارهاب واحتلال افغانستان واحتلال العراق، هو الذي يثير قلق حلفاء واشنطن في العالم ، المراقبين والسياسيين الليبراليين في واشنطن. ويزيد القلق ان النزعة الدينية لغيرسون تجد طريقها لايجاد مبررات دينية لاعمال سياسية تثير نقاشا وجدلا كبيرين حتى داخل اميركا ذاتها. فهو قال لمجلة «جيسس بولتكز» او «سياسات المسيح» الاميركية ان «كل مجتمع يحتاج الى قيم تعلو فوق النظريات السياسية ليقف عليها، والمسيحية ليست مثل هذه النظريات السياسية لأنها تعلو عليها».
* النزاع على «محور الشر»
* غيرسون وظيفته الرسمية هي «مساعد الرئيس ومدير خطبه»، وهو ربما سيبقى مع بوش حتى نهاية الولاية الثانية. لكنه ليس كاتب خطب بوش الوحيد، اذ سبقه ديفيد فروم الذي كتب جزءا كبيرا من خطب بوش خلال ولايته الاولى. وفروم يهودي غير انه لم يكن اقل من غيرسون في الاشارة الى العبارات الدينية من الانجيل، ولكن بطريقة غير مباشرة. وكتب فروم خطاب بوش امام الكونغرس بعد هجوم 11 سبتمبر (ايلول) 2001 ، والذي ورد فيه وصف «محور الشر» ذي المدلول الديني، والذي اصبح من شعارات سياسة بوش الخارجية ، واحد التقييمات السياسية التي تتكرر اكثر من غيرها في خطب الرئيس وكبار مساعديه. غير ان «محور الشر» التي صنعت سمعة فروم الممتازة ككاتب لخطب الرئيس ادت الى انهاء مستقبله في البيت الابيض واضطرته الى الاستقالة ، وذلك بعد ان نشرت صحف اميركية خطابا كتبته زوجة فروم الى صديقة لها تفتخر فيه بأن زوجها هو صاحب تعبير «محور الشر». ونشرت الصحف الاميركية ان بوش بعد ان قرأ خطاب الزوجة ، غضب لأن الزوجة نسبت الى زوجها ما كان يجب ان ينسب اليه. وقال فروم ، في محاولة يائسة للدفاع عن نفسه وعن زوجته ، ان «ما كتبت لم يكن هاما لولا ان الرئيس هو الذي ألقاه».
* شركات لكتاب الخطب
* وسجل فروم ، الكاتب المحترف ، رقما قياسيا في سرعة كتابة كتاب عن سنواته مع بوش وهو«رجل اليمين: سجل سنوات البيت الابيض». الذي كتبه في اشهر بعد استقالته. كما كتب كتابا ثانيا مع ريتشارد بيرل احد قادة المحافظين الجدد ، والذي دعا الى ضرب العراق منذ عشرة سنوات تقريبا. وليس غريبا ان عنوان الكتاب الثاني هو «نهاية الشر: كيف ننتصر في حرب الارهاب؟»، وكأن كلمة «شر» اصبحت رفيقة فروم.
وملخص الكتاب هو ان لا بد من القوة العسكرية للقضاء على اعداء اميركا الذين هم «اشرار» بالضرورة لانهم يختلفون في قيمهم عن اميركا، والاختلاف في القيم هذا يهدد الامن القومي الاميركي. وتتسع قائمة «الاشرار» لتشمل الصين ، وكوبا ، وايران ، وبعض البلدان الاسلامية ، والنظم القومية في اميركا اللاتينية التي تعارض فتح اسواقها، وتلتزم ببرامج لحماية الصناعات الوطنية. لكن فروم لم يكن اول كاتب خطب رئاسية يشتهر ويثري من وظيفته. ففي الشارع الخامس عشر في واشنطن، وعلى مسافة قريبة من البيت الابيض ، توجد «شركة كتاب البيت الابيض» التي تتعاقد مع وزارات وشركات لكتابة خطب الوزراء والمديرين. ويفتخر هؤلاء بأن «الكلمة اقوى من الصورة لأنها تفسر افكارا وافعالا معقدة، ولأنها تعطي السياسي قوة اضافية ، وايضا رجل الاعمال».
* دمر هذا الحائط
* ومفتاح بقاء خطاب رئاسي اكثر من آخر في ذاكرة التاريخ يعود الى عدد متداخل من العناصر، غير ان ابرزها هو ابتكار عبارة رنانة ذكية معبرة لديها امكانيات الخلود. ومن بين العبارات الشهيرة في الخطب الرئاسية التي احدثت صدى سياسيا واعلاميا كبيرا مثل «محور الشر»، عبارة «هذا العدوان لن ينجح» التي وردت في خطاب بوش الاب في اشارة الى غزو العراق للكويت سنة 1990 . وعبارة بيتر روبنسون «يا غورباتشوف، دمر هذا الحائط» التي وردت في خطاب الرئيس رونالد ريغان (1980- 1988) امام حائط برلين سنة 1987، والتي احتلت مكانة بارزة في تاريخ العبارات الرئاسية التي تستقرئ المستقبل، فخلال عامين كان حائط برلين يسقط ، وكان غورباتشوف قائدا للبروسترويكا والجلاسنوست او الاصلاح والمكاشفة. وقد سافر روبنسون صاحب عبارة «يا غورباتشوف، دمر هذا الحائط» الى برلين الغربية قبل شهر من كتابة الخطاب. وزار الحائط ، وسأل الالمان عن رأيهم فيه. وتعشى مع عائلة قالت ان نصفها في برلين الشرقية ، وان الحائط لا بد ان ينهار يوما ما. أعجبت فكرة «حتمية انهيار الحائط» روبنسون، ورأى ان ينسب الدور التاريخي الى رئيسه ، وعاد الى مكتبه في البيت الابيض، ووضع العبارة في الخطاب وكالعادة وزعت نسخ من المسودة على المستشارين وبقية الكتاب. اعجبت العبارة ريغان، ولكن سبعة من الذين وزعت عليهم المسودة قالوا ان العبارة اقوى مما يجب، واقترح بعضهم عبارة «يوما ما سينهار هذا الحائط» لكن روبنسون وقف مع ريغان مؤيدا العبارة بقوة. ومن الذين عارضوا العبارة ساعتها جورج شولتز، وزير الخارجية انذاك، وكتب الى جانب العبارة في مسودة الخطاب «اخشى ان تفسد هذه العبارة العلاقة الطيبة التي بدأت بين الرئيسين»، يقصد ريغان وغورباتشوف لكن حائط برلين انهار بعد سنتين من الخطاب.
وكتابة كل خطاب تبدأ بأن يشرح مستشارو الرئيس موضوع الخطاب له ، ثم يكتب الرئيس مسودة يرسلها الى كتاب الخطب. بعد ذلك يعمل كتاب الخطب الى المسودة ، ثم توزع المسودة مجددا على الرئيس ومستشاريه حتى يتم الاتفاق على صيغة نهائية ، ثم يلقي الرئيس الصيغة النهائية امام الكتاب والمستشارين للتوفيق بين الكتابة والخطابة. وعندما يشعر الجميع بالرضاء يكون الخطاب جاهزا. ومثلما قال ايان ماكدونالد الخبير في مركز «اميركان انتربرايز» في واشنطن، فان «كاتب خطاب الرئيس يعيد كتابة ما يكتب الرئيس. حتى اذا لم يكن الرئيس قادرا على الكتابة». ولم يقل ماكدونالد انه يقصد بوش ، لكن فروم قال في الكتاب الذي كتبه بعد ان استقال من البيت الابيض ان «بوش الابن ليس فصيحا، لكنه يعترف بذلك، عكس بوش الاب».
* لنكولن الأفصح
* لكن ليس لكل الرؤساء كتاب خطب، فهناك رؤساء مفوهين ولهم رؤية ويحبون كتابة خطبهم بنفسهم. ومن هؤلاء الرئيس جورج واشنطن، اول رئيس اميركي والذي كان يكتب خطبه بنفسه. فقد كتب خطابي تنصيبه بخط يده. ومثله الرئيس السابق بيل كلينتون (1992 ـ 2000) الذي كان يفضل كتابه خطبه اعتمادا على فصاحة وقدرات عقلية وثقافة عميقة اكتسبها خلال دراسته في ارقى الجامعات الاميركية بالرغم من انه نشأ في أسرة متواضعة الحال. ولان خطب الرئيس تعكس شخصيته مثلما تعكس ربطة عنقه او بدلته، فهناك خطب قصيرة تعكس الحسم والايجاز والتلخيص، وهناك خطب طويلة تعكس القدرة على مناقشة التفاصيل، والاقناع بالحجج المتعارضة. وأقصر خطاب تنصيب تكون من 135 كلمة فقط كتبه الرئيس جورج واشنطن (1789 ـ 1797) خلال تنصيبه الاول، اما اطول خطاب تنصيب فكتبه الرئيس وليام هاريسون (1841) بخط يده ايضا وتكون من 8445 كلمة ، وألقاه في ساعتين تقريبا بينما كانت العاصمة واشنطن غارقة من موجة جليد باردة . لكن هاريسون هو ايضا صاحب اقصر فترة رئاسة اذ قضى شهرا واحد في البيت الابيض، ومات بعد تنصيبه بأربعة اسابيع متأثرا بالتهاب رئوي اصيب به خلال إلقائه خطابه الطويل وسط العاصفة. وكتب الرئيس ابراهام لنكولن (1861 ـ 1865) خطابي تنصيبه بخط يده ايضا، ويعتبر الثاني (698 كلمة) افصح الخطب الرئاسية، وهو الذي تفاءل فيه بأن الحرب الاهلية لن تقدر على تقسيم الولايات المتحدة الى دولتين. ولم يتم تعيين كاتب رسمي لخطب الرئيس الا في سنة 1921 عندما اختير جدسون وليفر لكتابة خطب الرئيس وارن هاردنج (1921 ـ 1923).
* عبارة تاريخية
* ومن الكتاب الذين اشتهروا بعد ان خرجوا من البيت الابيض ، ثيودور سورنسون، كاتب خطاب تنصيب الرئيس جون كنيدي (1960 ـ 1963) الذي وردت فيه العبارة التاريخية المشهورة «لا تسأل ماذا يقدم لك وطنك. لكن اسال ماذا تقدم انت لوطنك». وبعد اغتيال كنيدي كتب سورنسون كتبا اصبحت مراجع معتمدة في كتابة الخطب.
ومن كتاب الخطب البارزين ايضا هناك وليام سافير، كاتب الرأي في جريدة «نيويورك تايمز» حتى الشهر الماضي، الذي كتب خطب الرئيس ريتشادر نيكسون (1968 ـ 1974). والكاتب جاك فالنتي، مدير اتحاد شركات السينما الاميركية، الذي كتب خطب الرئيس ليندون جونسون (1963 ـ 1968). وباتريك بيوكانان، رئيس تحرير مجلة «اميركان كونسيرفاتفز» الذي ترشح مرة لرئاسة الجمهورية ، والذي كتب خطب الرئيس نيكسون ايضا. ايضا هناك جيمس فالو، الصحافي المعروف في مجلة «اتلانتيك» الشهرية، الذي كتب خطب الرئيس جيرالدين فورد (1974 ـ 1977). وربما يتفق اغلب كتاب الخطب على التقليل من ادوارهم بالمقارنة مع ادوار رؤسائهم. غير ان توماس دووي ، كاتب خطب الرئيس هاري ترومان (1945 ـ 1953) مختلف، فقد قال «الذي يكتب خطاب الرئيس يحكم اميركا». دووي قال ذلك عندما نافس ترومان في انتخابات الرئاسة سنة 1948، متهما اياه بالجهل وبأن كاتب خطبه اقوى منه. لكن دووي خسر في الانتخابات، وفاز ترومان.

فضائح بوش الكبرى كانت عندما يضطر الى القاء كلمة ارتجالية من عقله مباشرة، فمعظم السامعين يضحكون عليه. البارحة اخبرني أحدهم أنه اصيب بالاشمئزاز الشديد عندما وجد بوش نفسه وسط خطب من الصحفيين، و كلما سأله احدهم عن شيء، أجاب بوش قائلا، "نحن نعمل كل جهدنا لانجاح الانتخابات في العراق"، بالرغم من ان بعض الاسئلة لم يكن لها علاقة بالعراق، و قد كرر نفس العبارة عدة مرات بصورة مزعجة جدا.

كلينتون بشهادة كل من اعرفهم من معاصريه هو افصح الرؤساء الامريكيين في العقود الحديثة، و قد كانت خطبه عشوائية و من تأليفه هو و تمكن من خلالها من كسب شعبية كبيرة.

خلال المناظرة التي جرت بين بوش و كيري، كرر بوش عبارة "it's hard work" عشرات المرات، و أحيانا مرتين في الجملة الواحدة بشكل لفت النظر، حتى أصبحت هذه العبارة اليوم جزءا من المزاح اليومي في اميركا، فكلما انتقد احدهم الاخر، اجابه بلهجة بوش، "it's hard work".

سياق العبارة أنه كلما انتقد كيري سياسة بوش الداخلية او الخارجية او المالية، وجد بوش نفسه في مأزق و برر سياساته بالقول أن ما يقوم به كرئيس هو "عمل صعب"، و كرر ذلك مرة تلو المرة تلو الاخرى بشكل مثير للسخرية.