وليد الحجار :موسيقانا العربية «عاميّة» هدفها الأول الطرب
لا أنكر أن هذا الحوار استفزني إلى درجة كبيرة, من منطلق أنه يخوض في عمق ثقافتنا عن الموسيقى الشرقية التي نطرب لها على مختلف ميولنا وأذواقنا المعرفية, لكن الأديب والموسيقي السوري وليد الحجار ومن موقعه كمؤلف قدم العديد من الأعمال الموسيقية الكلاسيكية, يفتح نار الأسئلة المحرجة والواقعية في آن معاً, مشيراً إلى أن موسيقانا العربية «عاميّة» هدفها الأول الطرب, في وقت نعيش فيه عصور انحطاط موسيقي, متناولاً تجربة «زياد الرحبّاني» و«أم كلثوم»... وغيرها من القضايا الفنية التي أترك للقارئ متابعتها في هذا الحوار الخاص.
€ من خلال موقعك كأحد أعضاء اللجنة العليا للموسيقى الكلاسيكية في وزارة الثقافة السورية, كيف ترى التجديد الذي تم أخيراً من ناحية النهوض بالواقع الموسيقي؟
يمكنني القول انني واكبت عن بعد مسيرة وزارة الثقافة منذ أوائل الستينيات وحتى اليوم بكل ما مرّ عليها من عديد الوزراء وحشود مديري المؤسسات التابعة لها, ورغم أن معظم هؤلاء كانوا لا يزالون من حملة الشهادات الجامعية, إلا أن أغلبهم كانوا وما زالوا «موظفين إداريين» لم يصلوا إلى وظائفهم هذه لما لهم من ألمعية ثقافية خاصة بل لأسباب أخرى... ففي حال الوظائف الثانوية, تم تعيينهم لملء شواغر الوظائف ليس إلا... وظائف متواضعة الدخل لا يلزمها الاختصاص, درجت العادة على توزيعها على الذين تربطهم علاقات خاصة بالتجمعات الحزبية بكل ميولها وتفرعاتها, كهدايا خاصة تدفع ثمنها الثقافة للأسف.
فعلى سبيل المثال تشرف في فرنسا على جميع فروع الآداب والمسرح والفنون والعمارة والسينما إشرافاً تخصصياً, لكنها تهتم أكثر ما تهتم بالفنون المسرحية وغيرها, كما تهتم بالفنون التشكيلية والمعارض والمتاحف ثم بالموسيقى الكلاسيكية, ولها من دور الأوبرا في باريس وغيرها من المدن ما هو لها, لأنها أدركت منذ زمن بعيد أن هذه الفنون هي واجهة الدولة الإعلامية الحقيقية للعالم, وليست الشعارات والخطابات التي لا ينتبه إليها حتى موظفو الإعلام الذين يشرفون على كتابتها وبثها عبر الأثير.
قل لي بماذا تفاخر «موسكو» وتعرض لرؤساء الدول لدى زيارتهم لها, أليس بـ«بولشوي» وبعروضه الموسيقية المختلفة...؟ وبماذا تفاخر فرنسا أليس بـ«أوبرا غارنييه» وبعروضها, كذلك «لندن» و«نيويورك» ألا تقدمان للعالم «الكوفنت غاردن» و«كارنيغي هول», هل سمعت يوماً بحفل استقبال رسمي أجنبي ألقي فيه بقصيدة شعر...؟!
€ لكن ربما هذا يعود بالدرجة الأولى للأعراف والتقاليد والعادات الثقافية في كل بلد؟
ربما... أما عندنا فالملاحظ أن كلمة «ثقافة» في عرف المثقفين لدينا لا تشمل إلا حقلي الشعر والآداب, ووزارة الثقافة منذ نشأتها وحتى اليوم لم يرأسها وزير واحد لديه اختصاص بشؤون الموسيقى أو الفن أو المسرح, ناهيك في الموسيقى الكلاسيكية التي كان بعض الوزراء يرى فيها «لغة أجنبية» لا حاجة لنا بها...؟! بل يكفينا ما لدينا من «موسيقى شرقية» يظن أننا إذا «دعمناها» فإنها ستجد طريقها إلى العالم «كنّد» للموسيقى الغربية الكلاسيكية, فكيف يتم اختيار الأشخاص المناسبين للوظائف في حقل الفنون, إذا كان القائمون على هذا الاختيار هم من غير ذوي الاختصاص أو من الكارهين لهذه الفنون أو من المعتذرين لوجودها.
€ وهل قولك هذا يشمل جميع الفاعليات الفنية؟
إذا تركنا المسرح والرقص... وتناولنا قضية الموسيقى فأنا أتساءل الآن وكنت مراراً أتحدى وأخرى أستصرخ مثقفي شعبنا سائلاً: أما آن الأوان لأن ندرك أننا لسنا وحيدين في هذا العالم الثقافي.
واليوم وقد قرر الجميع الانفتاح على العالم الحضاري, فلم يعد في وسعنا التلاعب على المسميات والألقاب «نطلقها جزافاً» بلغي هذا وبلصق صفة «دكتور» على هذا وذاك, ونرفع من قدر الصديق ونحط من قدر من نشاء وما نشاء, فنرفع من قدر موسيقانا «العاميّة», وننبذ أو ننفي الموسيقى العالمية عن ثقافة شباب أجيالنا القادمة لمجرد أننا اليوم لا نفهمها, لأن ثقافة معظم أبناء شعبنا لم نسمعها ونفهمها منذ الصغر, وفي النهاية نكتفي بالتشدق بعظمة تراث موسيقي لا وجود له حتى بين أيدينا.
لماذا نتعلم اللغات الأجنبية اليوم...؟! أليس من أجل أن نحسن التعامل مع العلوم والاختراعات العالمية... ومتى سوف نفهم أن الموسيقى الكلاسيكية هي شرط من شروط التمازج مع الحضارات والفنون العالمية, وأننا من دونها ستبقى جذور ثقافتنا غارقة في أمّية عصور الانحطاط التي نفاخر بتوارثها منذ أربعة قرون.
€ تبدو قاسياً في نقدك للوضع الموسيقي العربي؟
بالطبع, فإذا كان الإعلام عندنا لا يغذي الطفل منذ نشأته إلا بالموسيقى «العاميّة», فكيف له أن يفهم أو يتفاعل مع الموسيقى الحضارية «الفصحى», وإذا كان لا يرضع مع حليب أمه إلا الأغاني البلّدية أو الخليجية... فكيف له أن يستسيغ طعم موسيقى «بيتهوفن» أو «شوبان»؟
انظر ماذا تعنيه كلمة الموسيقى في العالم وماذا تعنيه في بلادنا العربية, لا شك أن الفارق بين المدلولين شديد البعد وسحيق... فهو في الغرب علم وثقافة وفلسفة, بينما عندنا ليس إلا وسيلة للطرب, فكيف نضع هذه وتلك على كفتي ميزان واحد.
€ لكن لدينا بالمقابل عراقة واختصاص في الموسيقى الشرقية؟
قد يكون الدفّ «للإيقاع» والرباب والناي «للنغم», قد نشأ في صحراء عالمنا, لكن كلمة «موسيقى» إغريقية الأصل نسبة إلى(Muse)إحدى آلهات الإلهام, وما الموسيقى «المدوّنة» إلا صناعة جمالية نشأت عند الإغريق ثم نمت وترعرعت في المعابد والكنائس «الألحان الغريغورية» منذ العصور الوسطى في أوروبا, ثم طور وجود «الجوقة الجماعية» علم التناغم, إلى أن نما دور الآلات وتفرع وكاد ينوب عن دور الغناء, حيث تطور هذا الفن في إيطاليا ثم في ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية حتى صار لأوروبا بمجملها موسيقى «أوركسترالية» بتدرجاتها وتفرعاتها, بدءاً من الموسيقى الدينية والباروك والرومانطيكية والحديثة, وصارت بمجملها تعرف اليوم بالموسيقى الكلاسيكية.
فكيف نقارن اذاً آلاف المؤلفات الكلاسيكية الصناعة والهدف, ببضعة مئات الألحان الشرقية الفردية الهزيلة التي بين أيدينا, وهل تصح مقارنة مصانع الغرب ومفاعلاته الذرية بورشات الحدادة التي تملأ أرضنا, أليس من فارق في النوع بين هذه وتلك؟!
€ لكنك لم تجب على سؤالي بعد... أليس للشرق موسيقى وتاريخ فني مماثل؟
بالتأكيد... لكن كلمة موسيقى في بلادنا العربية لا تعني إلا «اللحن المنفرد وحيد الصوت»... وإذا كان لها من تاريخ فهو تاريخ تطور اللحن أو النغم والإيقاع بكامل مقامات وأوزان هذا وذاك, أما الموسيقى الكلاسيكية فإن اللحن فيها على أهميته, إنما يشغل دوراً موازياً أو جانبياً إذا ما قيس بما ترتكز عليه تلك الموسيقى من علوم التناغم والتقالب والتوزيع الأوركسترالي المتطور, وللعلم فقط أقول ان معنى «النغم الواحد» أو الجملة الموسيقية ذاتها ينقلب رأساً على عقب إذا ما تبدل نظام التناغم الذي ترتكز عليه.
موسيقى عصور الانحطاط
€ أليس في وسع الموسيقى الشرقية تبني هذه العلوم التناغمية التناظرية كي ترتقي بما لديها من إرث موسيقي إلى ما هو عليه من مستوى حضاري في الغرب؟
الإنسان العربي بطبيعته الصحراوية الفردية ومنذ أن عرف صوت الناي والعود والرباب وحتى اليوم, لا يفهم, بل لا يستسيغ إلا اللحن المنفرد أي (MELODIE)أكان ذلك بسبب صعوبة دخول ربع درجة الصوت والمقامات في عالم التناغم الجماعي, أم بسبب ميل فطري لدى الشرقي إلى اللحن المنفرد بعالمه المتصوف, وللأمانة يجب أن نذكر أن كلمة موسيقى في عالمنا العربي النامي, لا تنفصل عن كلمة أغنية وطرب وغناء, غالبيته الساحقة ركيكة قميئة البناء النفسي الذي ترتكز عليه من لحن وكلام, يرافق المطرب فيه جوقة «عاميّة» متوسطة الدراسة في المقدرة على العزف, لا أهمية لعدد أفرادها, حيث يزيد أو ينقص بحسب مقدرة المطرب المالية على جمع العازفين, ذلك لأنهم في جملتهم إنما يرافقون لحن وغناء المطرب, ويعزفون اللحن نفسه أكانوا خمسة أم عشرة أم عشرون... فيما عدا ألحان «ترلم... ترلم... ترلم» كشطحات يتفردون في عزفها بين جملة موسيقية وأخرى, لذلك أقول ان هذه موسيقى عصر الانحطاط الذي نعيشه وهذا هو ما يطرب لسماعه أبناء شعبنا العربي وما تصّر وسائل الإعلام العربية على بثه يوماً بعد يوم.
€ وهل تنطبق هذه الصورة المحزنة التي رسمتها على جميع الأغاني العربية؟
تنطبق على غالبيتها الساحقة... لكنني أفضل الخوض في هذه اللجج الثقافية الفنية للباحثين في علوم «الطقطوقة» و«الفلاسفة» في آفاق «المونولوج» وهم كثر في بلادنا والحمد لله... هؤلاء «المتطفلون» على الموسيقى الكلاسيكية الذين لا يفرقون بين العروض والشعر, تراهم يفاخرون بالمقامات الثمانية والعشرين التي هي دراسة علمية صامتة للإمام محمد شهاب الدين, وكأنها هي الموسيقى الصداحة وكأن الأوزان هي الموسيقى... تسألهم عن المؤلفات الموسيقية فيتلعثمون, تماماً عندما يحدثونك عن أنابيب الألوان الزيتية وكأنها هي لوحات «رفائيل» و«دافنشي».
€ على هذا الأساس ماذا تسمي الموسيقى التي نستمع إليها في عالمنا العربي ونطرب لسماعها كل الطرب؟
هي أغان «عاميّة» لا أكثر ولا أقل, ترتكز على موسيقى عاميّة (popu laire)نسبة لما يرادف هذه الكلمة لدى عامة الناس من تواضع في قيمتها الفنية وركاكة في اللغة المتداولة بل وفي التفكير.
€ ولماذا تتجنب تسميتها بالموسيقى الشعبية؟
بالتأكيد ليست موسيقى شعبية... فالأغنية الشعبية مثل «الميجانا» و«العتابا» وغيرها وما يليهما من ألحان قديمة متوارثة, هي إرث وليست «تراثاً» قد يكون رقيق البنية, إلا أنه عميق الصلة بروح الشعب, والعقدة هنا هي أن «الاشتراكية السوفياتية» كانت قد أضفت على كلمتي: شعبي وفولكلوري, قيمة «اجتماعية سياسية» عززت من مكانتها وقد طورت وأوجدت في بلادها في هذا المضمار فرقاً غنائية راقصة على مستوى ممتاز من الدراسة الفنية الأكاديمية, فما أن انتقلت هذه الصيغة الفكرية إلى صيغة الشعب والشعبي... حتى راح الركيك والمتواضع في الفن أو الغناء يختبئان وراء ستار «الشعبية والفولكلور», فإذا ما نعتهم أحدنا بما يستحقونه من ركاكة هوجم على أنه برجوازي مقلد للغرب.
بين زياد الرحباني وأم كلثوم
€ يخطر ببالي أن أسألك... هل تشابه الموسيقى الغربية العامّية المغناة موسيقانا العربية؟
من حيث التصنيف العلمي من المرتبة نفسها بغض النظر عن تواضع الصوت وضعف المقدرة الموسيقية للعازفين في الأغنية العربية, وهذا يذكرني بمحاولة «زياد الرحبّاني» في شدّ الأغنية العامّية درجات إلى الأعلى, حيث استخدم ألحان «عاصي» الشرقية أو المستشرقة... فأدرج في مرافقة «فيروز» مقدرته المتميزة في العزف وعلم التوزيع, ولكن للأسف ماذا كانت النتيجة لدى الناس...؟! حيث فضل معظمهم توزيع «عاصي الرحبّاني» المتواضع على توزيع «زياد» المحكم الدراسة.
€ وماذا تقول في أم كلثوم وموسيقاها ومن يشابهها في الغناء؟
ليس هناك من يشابه «أم كلثوم», هناك أصوات تتشبه بصوتها وبنوع أدائها, أما «أم كلثوم» فهي صرح أفلت من حضارة الأندلس الماضية, صوت وعلم فطري ومقدرة لا مثيل لها في التجويد والغناء, وبنظري أن أدائها هو الفن الوحيد الذي يحق له أن يصدح في أرجاء «قصر الحمراء» في غرناطة, وأنا هنا لا أتحدث عن ألحان أغانيها ولا عن كلماتها التي قد تسحر البعض, لأن هذه الألحان والكلمات لولا صوت «أم كلثوم» لبان ضعفها ولعادت إلى تواضعها «العامي» التي تنطلق منه جميع الأغاني العربية.
دعني أسأل أخيراً... أليس من المؤسف ألا تكون «أم كلثوم» قد تركت لنا ذكرى من غنائها الرائع في «قصر الحمراء», بدل ما تركته من حفلها الشهير في قاعة «الأولمبيا» في باريس, ثم أليس من المؤسف أنه لم يتوافر لهذا الأداء من يكتب له من موسيقى أوركسترالية ترافقه في شطحاته الفنية؟!
الكفاح العربي
|