مرحباً
قديماً، حينما ترجم الفلاسفة العرب الفلسفة اليونانية والارسطوية بوجه الخصوص، اختاروا ترجمة كلمة ميتافيزيق metaphysics الى الهيات وكلمة physics الى طبيعيات. وهكذا نجد في سلسلة ابن سينا الفلسفية كتابين بعنوان: الشفاء: الالهيات، والشفاء: الطبيعيات. الفلسفة الالهية لاتختص بمبحث وجود الاله وصفاته وانما تختص ببحث الوجود واحوال الموجود وارسطو اعتبرها الفلسفة العليا، اما الطبيعيات فموضوعها الاجسام وحركة الاجسام وارسطو كان عنده نظريات في الحركة والجاذبية وكنه الاجسام وغيرها. وارسطو اعتبرها الفلسفة الدنيا. بينما الرياضيات تعتبر الفلسفة الوسطى.
ما اقصده من هذه المقدمة هو توضيح العنوان، ففلسفة الهية لاتعني فلسفة وجود الاله او اللاهوت وما شابه. وانما تعني البحث في الوجود سواءا كنت تؤمن او لاتؤمن بوجود اله فانت تسمة فيلسوف الهي ما دمت تبحث في الوجود. طبعا، ربما نعتبر هذه الترجمة اشكالية ومضللة ولكن على هذا دأب الفلاسفة الشرقيين وليس ينفع ان نقف بوجه الخطأ الشائع.
لماذا نبحث في معنى العدم؟
طيب، ما اهمية هذا الموضوع؟ لماذا نبحث فيه؟ حسناً، اهمية البحث هي - كما يقول الفلاسفة - استطرادية. يعني لما نتعرف على معنى صفة العدم فاننا نطردها عن الموجود. فمن يريد ان يخوض في بحث الموجود ويتحدث بثقة عن الموجود وغير الموجود فلابد ان تكون عنده احاطة بمعنى الصفة التي يحاول ان يثبتها او ينفيها عن موضوع ما. لابد ان يكون عندك مقياس تقيس به المدعى وترى بحسبه على المدعى موجود او معدوم.
ماهو العدم!
لو سألك شخص ما: ماهو الاحمر؟ فماذا سيكون جوابك؟، انك ستستنكر مثل هذه السؤال الخاطئ لان الاحمر صفة وليست شيء ما، ليست ذات حتى نسأل عن ماهيتها. الاحمر صفة تلحق بالاشياء فنقول وردة حمراء، قماش احمر، حائط احمر. ونحن نسأل كثيراً عن ماهيات الاشياء فنقول: ماهي الوردة، ماهو الانسان، ماهي الذرة ...الخ. لكنك لاتسأل عن ماهية الصفة، والعدم صفة، فمن يسأل: ماهو العدم هو كمن يسأل ماهو الاحمر. وفي احيان اخرى فاننا قد نسأل عما ليس له ذات بلفظ ماهو اذا كنا نقصد السؤال عن المفهوم. مثلاً: ماهي السعادة؟ ماهي العدالة؟ ماهي الحرية. فالسعادة والحرية والعدالة ليست اشياء، ليس هناك شيء ملموس او له ابعاد او موجود في مكان ما من العالم اسمه سعادة. وانت لاتخبر بانك صادفت الحرية مرمية على الطريق الا اذا كنت شاعراً تتحدث بالمجاز. حينما نقول ماهي السعادة، فاننا نسأل عن مفهوم السعادة.
فاذن السؤال: ماهو العدم، هو سؤال خاطئ، ومن يسأل اسئلة خاطئة فانه بالاغلب سيحصل على اجابات خاطئة، وقديما قال الفلاسفة: السؤال الصحيح هو نصف الوصول الى الحقيقة.
العدم لايخبر عنه
لما نلحق صفة العدم بالشيء فاننا نريد ان نخبر عن زوال ذلك الشيء، وحينما نلحقها بصفة فاننا نقصد انتفاء تلك الصفة، فنقول: عدم الغنى، عدم الصحة، عدم الضوء، وهكذا. في كل هذه الامثلة اخبرنا عن زوال شيء مخصوص هو ما اضفنا صفة العدم اليه وقصدنا انعدامه. هذا نسميه عدم مضاف، او عدم مقيد، لان ما انعدم هنا مقيد بخصوص ما اخبر عنه. وليس اي شيء اخر. نحن ندرك بالفطرة معنى زوال شيء. نحن ندرك معنى الا يكون عندك نقود، ندرك معنى ان تزول صحتك...فمعنى مفردة العدم بديهي بالنسبة لنا حينما نقصد الاخبار عن زوال شيء ما.
لكن ماذا اذا اردنا ان نخبر عن زوال كل شيء؟ ماذا اذا اردنا ان نتحدث عن زوال كل شيء، او لنقل عن العدم بالف ولام التعريف، او العدم المطلق. اذا كان العدم المطلق هو زوال كل شيء فاننا بهذا نكون قد اخبرنا عن العدم المطلق، لاننا قلنا ان العدم المطلق هو كذا وكذا، وهذا اخبار. واذا كنا قد اخبرنا عن العدم فهذا يعني انه موضوع، اي انه شيء، واذا كان شيئاً فكيف يكون واصفا لزوال كل شيء؟ هذا تنافي.
فالعدم المطلق لايخبر عنه، حتى هذه الجملة خطأ...لايمكن ان يقع العدم في موقع الاخبار لانه سيؤول شيئاً بينما هو لاشيء. نعم نحن نخبر عن مفهومه احياناً، لانه ليس من المحال توهم المحال.
تجد الكثيرين يتحدثون عن العدم، العدم هو كذا، والعدم هو كذلك، وكلنا نستطيع ان نفعل ذلك، انت وانا نستطيع احياناً ان نتخيل العدم وان كان بصورة غائمة ومعتمة، وهذا، كما قلت سابقاً، لان عقل الانسان ليس عاجزاً عن تخيل المحال. تستطيع ان تتخيل بعقلك اكبر المتناقضات فهذا ليس مستحيلاً. وعلى هذا تستطيع ان تتخيل العدم.
الان، العدم بطلان محض، انه نقيض الوجود. العدم غير موجود. من يقول العدم موجود فهو يجمع المتناقضين. لان العدم نقيض الوجود فلما تحمله على الوجود تكون قد اضفت له نقيضه، (تذكر ان الاخبار او الحمل هو نوع من التوحيد، مثلاً: الانسان حيوان ناطق هي عملية توحيد بين ماهية الانسان والحيوانية الناطقية فكأنما نريد ان نقول: الانسان = حيوان ناطق)، فحمل صفة وجودية على العدم معناها جمع المتناقضين وهو ممتنع.
البعض يتخيل ان العدم موجود خلف الكون. فهو يتخيل ان الكون مثل كرة لها ابعاد معينة، وخلف الكون هذا يقع شيء اسمه العدم ! وليت شعري اذا كان العدم موجوداً فلماذا هو عدم اذن؟ من جديد: العدم هو البطلان المحض. لاحظ من جديد انني اخبر عما لايجوز الاخبار عنه. وما هذا الا لانني احاول ان اتحدث عن مفهوم العدم فلا سبيل اخر لايصال الفكرة الى المقابل سوى ان تخبر عما لايخبر عنه.
المصدر:
مفاهيم في الفلسفة الالهية: العدم