سمير جعجع في دمشق... لمَ لا!
طباعة أرسل لصديق
نصري الصايغ: السفير
18/ 03/ 2010
لا مفر منها، ان كنت تحبها أم تكرهها.
لا مفر منها، فإما تكون معها فتكسب، أو تكون ضدها فتخسر.. انها ضريبة الجغرافيا لمن يكرهها، ونعمة الاحتضان لمن يحبها.
للأسف، لم يتعلم زعماء لبنان، الألفباء السياسية في العلاقة مع دمشق.. لم يصلوا بعد إلى المقدمة الطبيعية للعلاقات بين البلدين. لم يقتنعوا بأن ما تصنعه الجغرافيا، أحيانا، أقوى مما تصنعه الإرادات، دمشق حاضرة في لبنان، من زمان، ولم تغب عنه مرة منذ ما قبل الاستقلال.. لم يفهموا ان حضور دمشق في لبنان طبيعي جداً، وإن ما هو طبيعي، يكون أصيلا ودائما.. لم يعرف زعماء لبنان كذلك، مقام بيروت في دمشق وأهميتها الحيوية للدولة والنظام معاً.
مؤسف، أن يكرر زعماء لبنان، الأخطاء نفسها.. مؤسف أن يدفعوا أثمانا باهظة من كيسهم ومن كيس أتباعهم.. مؤسف أن يكرر وليد جنبلاط هذه الأخطاء، وهو الموصوف «بالذكاء»، و«صاحب الانتينات» و«قارئ الآتي».. مؤسف أنه أخطأ البوصلة، وكاد يدفع هذه المرة ثمنا باهظا: الطلاق بالثلاث من قبل دمشق، لولا جهود السيد حسن نصر الله.
أما وقد اهتدى وليد جنبلاط،
بعد تلقيه «النور الذي قذفه السابع من أيار في الصدر»، وعاد إلى عاصمة لبنان الثانية، فان اللوحة اللبنانية تكون قد اكتملت عناصرها وألوانها، باستثناء الدكتور سمير جعجع، المستمر حتى اللحظة، في التغريد خارج السرب الدمشقي.
فدمشق اليوم، بعد خمس سنوات عجاف، تحتضن المقاومة و«حزب الله»، تحالف نبيه بري و«أمل»، تفتح ذراعيها لسعد الحريري و«المستقبل»، مفتونة بالجنرال ميشال عون وتياره... فهل تستكمل حلقة «الأعدقاء» جميعاً، في وضع طبيعي، تستريح فيه سوريا ويرتاح فيه لبنان؟
لا شيء مستبعدا.. وقد يصل جعجع إلى دمشق، إذا...
بعض التاريخ يفيد:
أولا: نجح اللبنانيون، وهم في غالبيتهم من المسيحيين، في انتزاع كيان لبنان، بعد هزيمة ميسلون ودخول جمال باشا الفرنساوي، الجنرال غورو إلى دمشق.. لقد ولد لبنان الكبير بعد أيام من سقوط دمشق.
ثانيا: نجح «اللبنانيون» الأصليون، (الذين لُقّبوا بأهل الانعزال)، في الحصول على تفويض بالاستقلال، بعدما نكبت دمشق بالقمع والتسلط والمذابح والاعتقالات. ويوم ناءت «الكتلة الوطنية» في سوريا، بحمل لواء «الوحدة والاستقلال»، (أي وحدة سوريا ولبنان سابقة ولازمة للاستقلال)، قررت التخلي عن الأقضية الأربعة وطرابلس.. وقد أبلغت «الكتلة الوطنية» ذلك، للبطريرك الماروني.
يتغير لبنان، عندما تتغير دمشق.. أو، باللغة السياسية المعبرة عن تاريخ لبنان وسوريا: يتلبنن لبنان أكثر، أي يستقل في الانعزال، عندما تُهزم دمشق.
وعليه، وباستثناء هذين الحدثين، فشل لبنان في التغير والتبدل، ضد إرادة دمشق. والأدلة كثيرة:
÷ حاول كميل شمعون، ملك الرؤساء في لبنان، باستفراده بالقرار والسلطة، أن يأخذ لبنان إلى حلف ايزنهاور ولمحاربة عبد الناصر. هزم شمعون، برغم استحضاره الأسطول السادس الأميركي، فامتنع عليه التجديد، وعاش في عزلة سياسية تامة، وكاد يُعتقل عندما انقلب القوميون على عهد فؤاد شهاب.
÷ بعد شمعون، أصبح عبد الحميد غالب، ممثل الناصرية في لبنان، الحاضن الشرعي للتيارات القومية والعربية في لبنان.
÷ حاول كمال جنبلاط، بقيادته مشروع الحركة الوطنية، ان يحدث تغييرا سياسياً، وأفشلته دمشق، ودفع دمه ثمناً لهذا الخلاف، الذي ترك وطأته على وليد جنبلاط... فقرر أخيراً أن يسامح وينسى.
÷ حاولت «الجبهة اللبنانية» بقيادة بشير الجميل، أخذ لبنان ضد سوريا بالكامل، عبر الاستعانة باسرائيل، وكاد لو نجح، ان يغير وجه المنطقة. لكنه فشل. قُتل ودُفن معه مشروع أسرلة لبنان، في وجه سورنته.
÷ حاول أمين الجميل أن يدفع باتجاه عقد اتفاق السابع عشر من أيار، من دون اطلاع سوريا، المأزومة آنذاك والمهزومة في لبنان، فانتهى به الطواف إلى سلوك طريق دمشق احدى عشرة مرة... بلا نتيجة.
÷حاول الجنرال عون، «تحرير» لبنان من سوريا، فتحالفت سوريا مع الجميع، بمن فيهم جعجع، وأطاحت بعون، فأمضى في المنفى زهاء عقد ونصف العقد.
÷ حاول وليد جنبلاط، الاستعانة بعرفات بعد خروجه من بيروت وطرابلس، فخسر... وكانت آخر المحاولات مع «تجمع الرابع عشر من آذار»، وانتهى المطاف بهم، إلى بقاء تاريخ الرابع عشر من آذار، كجزء من رزنامة، وليس كحيثية في السياسة.
÷ وكان جعجع قد حاول أن يخرج عن الاجماع الدمشقي، بعد اتفاق الطائف، فدخل السجن، ولم يخرج إلا بعد خروج السوريين من لبنان، بعد اغتيال الحريري.
هل هذه الأحداث تشكل عبرة وأمثولة لجعجع؟
لا شيء يمنع جعجع من اجراء مراجعة سياسية، وغير ايديولوجية، لواقع السياسة اللبنانية ودراستها من خلال وقائعها. لقد تصور وليد جنبلاط، مع سمير قصير، ان ربيع دمشق قادم. وهذا لم يحصل، لأن فصول دمشق الأربعة، مرتبة وفق الطقس السوري، وليس وفق الرغبات اللبنانية.
الارث ثقيل؟
نعم. وهو ارث دامٍ. مأساوي.. لكنه قابل للعلاج..
ثم ان ارث حزب الله مع سوريا، بدأ شائكا وداميا أيضا. وإرث سوريا مع الجنرال عون لم يكن أقل قسوة. وإرث الحريري لم يكن سهلاً أبداً..
وبالمقارنة بين ارث دمشق ـ جعجع وإرث القيادات الأخرى، يظهر أن جعجع حمل منه اليسير.
دمشق مسؤولة؟
طبعاً. ومسؤوليتها كبيرة. أخطاؤها السابقة أشاعت عدائية ضدها، حتى من قبل حلفائها ومحبيها. لم يعد مسموحاً التعاطي مع لبنان من خلال «تأمير» الأمن بالسياسة. وليس ممكنا قبول التعامل مع السياسيين عبر استدعاءات مهينة. ولم يعد حلالاً، زواج الأمن بالاقتصاد السري والعطايا السياسية.
لا مفر من دمشق!
ولا مفر من تحسين الأداء لدمشق. ولا مفر من دروس يستقيها اللبنانيون، من تاريخ علاقاتهم المأزومة، ومشقة الأخوة الصعبة.
جعجع في دمشق... لمَ لا؟
المسألة مسألة وقت للمراجعة والتبصر.. والتغيير.
نصري الصايغ: السفير