قبل حوالي 40 الف سنة جاءت الموجة الاولى من الهوموسابينس قادمة من افريقيا ومنهم من تابع سيره بإتجاه آسيا ليصل الى مجموعة من الجزر :آندامارنا في المحيط الهندي. اليوم تم العثور على احفادهم لازالوا يعيشون العيشة الاولى في عزلة كاملة، محافظين بذلك على جيناتهم ولغتهم ونمط حياتهم ومعتقداتهم، الى حد كبير، كما كان عليه الوضع قبل بضعة الاف من السنوات.
مطر من الاسهم والحراب تتلقى كل من حاول الوصول الى هذه الجزر الاستوائية في الخليج البنغالي، بين الهند وماليزيا. حتى المراكب التي تعلق في رمال سواحل هذه الجزر او التي تأتي بحثا عن المياه جرى قتل افرادها بوحشية ونهبت المراكب وجرى حرقها. وحتى القراصنة الصينيين الذين ارادوا استخدام الجزر المنعزلة من اجل إدارة اعمال التجارة بالعبيد امتنعوا عن ذلك بعد ان عانوا من تقليب الاسرى على نهار هادئة حتى تفحموا، الامر الذي جعلهم يعتقدون ان السكان من آكلة لحوم البشر. غير ان هدف السكان كان اخراج ارواح الشياطين من الاجساد التي تختفي فيها. هذا الامر هو الذي يوضح اسباب بقاء هذه المجموعة الاثنية بعيدة عن الاختلاط بشكان القارات، محافظة على نقاءها الجيني والاثني وعاداتها الموروثة، الامر الذي قدم فرصة متميزة لدراسة الحياة البدائية والتطور الجيني وعلاقة المجموعة بالهجرة المبكرة
معطيات الدراسة تؤكد الموديل الذي يقول بخروج الانسان من افريقيا، حيث الهوموسابينس نشأ في جنوب شرق افريقيا قبل حوالي 100 الف عاماً. من هناك بدأ ترحاله نحو الشمال عابرا البحر الاحمر الى الجزيرة العربية ومن ثم الى الشرق عبر شبه القارة الهندية لينتشر في اغلب اسيا. عبر مسيرته وعلى طول طريقه تمكن من إزاحة الانسان الاقدم منه مثل النيندرتال.
هذه المسيرة التي ادت الى استعمار آسيا جرت في العصر الجليدي الاخير، لهذا السبب فإنه عندما وصل الاسيويين الاوائل (قبل 35-45 الف سنة) الى منطقة ميانمار (في بورما الحالية) Myanmar, كان مستوى المياه منخفض للغاية الى درجة انه كان بالامكان الذهاب سيرا على الاقدام الى مجموعة الجزر الحالية المسماة Andamaner. وعندما تراجع الجليد، في نهاية العصر الجليدي، ارتفع مستوى المياه في البحر وانعزلت الجزر. ومن حيث ان الهجرة جرت في العصر الحجري حيث كان الانسان في كل مكان يعيش على الصيد والتقاط الاثمار فإن سكان هذه الجزر لازالوا حتى اليوم يعيشون على ذات النمط من الحياة بدون تغيير، حيث يصطادون الاسماك بالرماح والخنازير بالسهام. وهم لايذهبون عميقا في البحار لان زوارقهم ليست مؤهلة الا لعبور الانهار او الصيد في المياه الضحلة.
ولذلك من السهل ان نرى ان هذه المجموعة حافظت ليس فقط على جيناتها وانما ايضا على تراثها الثقافي الاصلي. انهم لازالوا حتى اليوم لايعرفون الزراعة، لذلك يعيشون كالبدو وينتقلون من مكان الى اخر عند انتهاء الطعام في المنطقة. اكواخهم البسيطة فيها مكان خاص للنار، من اجل ابعاد الحشرات والافاعي بعيدا، ولكونهم لايعرفون طريقة اشعال النار فإنهم يحتفظون بشعلة من النار على الدوام ينقلونها معهم اينما حلوا.
السكان الاصليون لهذه الجزر يشبهون الاقزام الافارقة بيغميير Pygméer . طول الرجل 150 سم والمرأة اقصر بعشرة سنتيمترات. شعرهم قصير ومجعد وجلهم اسود تقريبا ومنعدم الشعر. وتماما مثل الاقزام الافارقة لديهم مؤخرة كبيرة وممتلئة. بهذه المواصفات يختلفون عن بقية الاسيويين جميعا، الامر الذي جعل الاوروبيين يعتقدون في البدء ان هذه المجموعات من بقايا تجارة العبيد.
وعلى الرغم من ان الدراسات الجينية تشير بوضوح الى انهم من احفاد الهجرة الاولى للهوموسابينس القادم من افريقيا الا انها تشير ايضا الى ان المجموعة اسيوية اكثر من اقربائهم الاقزام الافريقيين الموجودين الان في افريقيا. الدراسة التي قادتها الباحثة Erika Hagelberg, من جامعة اوسلو النرويجية ، ركزت على مقارنة الحمض الاميني في الميتاكوندري والكروموسوم الذكري من الصبغية 23. لقد ظهر ان الحامض النووي للميتاكوندري هو من نوع M, الشائع في آسيا في حين ان اغلب الافريقين يملكون نوع L. وفي الكروموسوم الذكري عثر الباحثين على طفرة يشار اليها بتعبير "Ämarkör 17" وهي نموذجية عند الاسيويين المتأخرين.
وعلى الرغم من ان هذه المجموعة الاثنية جاءت ، في الاصل، من افريقيا الا ان جيناتهم قد تغيرت تغييرات جعلتهم متميزين عن الاصل على مدى 50 الف سنة، على الرغم من بقاء الصلة نظيفة بوضوح. هذه المتغيرات تدخل في الاساس الذي نشأت عليه الشعوب الاسيوية ولكن فقط في جزر اندامانير جرى الحفاظ عليهم بدون اختلاط. الباحث Peter Unederhill, من جامعة ستانفورد في كاليفورنيا يشير الى ان كلا الاثنيتين (في جزر اندامانير والاقزام الافارقة) التشابه بينهم يمكن تفسيره على انه نوع من انواع التأهيل للحياة في الغابات، إذ ان لدى كل منهما نشأت هذه الخاصية بمعزل عن نشوءها لدى الطرف الاخر.
على مدى 35 الف سنة تمكنت هذه المجموعات من البقاء على الحياة بفضل العزلة، او ربما على الرغم من العزلة، ولكن اليوم تواجه حياتهم الضغط من جميع الجهات. تعود الجزر الى التبعية الهندية الامر الذي يسمح " للغرباء" بالهجرة الى الجزر لزراعتها وإقامة المشاريع الزراعية او تقطيع الاشجار وصيد الاسماك.
على مدى العشرين سنة الاخيرة تضاعف عدد سكان الجزيرة، وعام 2001 وصل العدد الى 214 الف نسمة، في حين ان السكان الاصليين الباقيين ( على الجزيرة المعنية) لايزيد عددهم على مابين 400-500 شخص. لقد انخفض العدد من خمسة الاف في عام 1850 الى 2000 عام 1900 وفقط 700 عام 1950. وهؤلاء منقسمين على اربعة جزر والتاريخ الحديث لكل منهم يختلف عن الاخر.
على الجزيرة الاكبر اندامانير كانت تعيش المجموعة الاكبر، وتسميتها نابعة من اسم الجزيرة. كان حظ هذه المجموعة الاسوء لكونها تعيش على الجزيرة التي قرر المستعمرون الانكليز التمركز فيها قبل 200 سنة، بل وبنوا فيها العاصمة بورت بلاير. (PORT BLAIR). ادى هذا الامر الى الاصطدام الحتمي بالسكان المحليين وفي معركة واحدة قتل الانكليز 1859 شابا محارباً. لهذا السبب لم تعد القبيلة قادرة على انتاج النسل بنفس المستوى الطبيعي اضافة الى اصابة المجموعة بمرض الجدري ومرض الجذام عام 1977 ادى الى وفاة نصف افراد القبيلة. عام 1961 كان باقيا منهم فقط 19 شخصا، وفيما بعد جرى نقلهم الى جزيرة صغيرة منعزلة تبعد عن مكانهم الاصلي 200 كلم وتسمى Strait Island, اصبحت خاصة لهم، ومحرمة على الاغراب.
فخذ اونغيه يعيشون على جزيرة تقع في اقصى جنوب الجزيرة الرئيسية وتسمى اندامانير الصغيرة. في الاصل كان هذا الفرع هم الاكثر انعزالا غير انهم في القرن الثامن عشر قاموا بمهاجمة البواخر الانكليزية ومهاجمة المستعمرين على الجزيرة وقوات الاحتلال قامت بعدة حملات تأديبية ضدهم. بعذ ذلك جاء مهاجرون من بنغلاديش وخربوا الانسجام الطبيعي على الجزيرة مما جعل من المستحيل الاستمرار على نمط الحياة القديمة كجامعي ثمار وصيادين. إضافة الى ذلك فإن موت الاطفال نسبته مرتفعة والاسوء ان هذا الفخذ الاثني لازال يملك عادة قديمة تعكس سيطرة المرأة، حيث ان النساء كبار السن، اللواتي تجاوزوا سن اليأس، يقومون بوضع اليد على الشباب مما يجعل الفتيات القابلات للانجاب وحيدات وعوانس. في المئة سنة الاخيرة انخفض عدد الاونغيه من الف شخص الى مئة شخص فقط. إضافة الى ذلك الكثير منهم جرى " تحضيرهم" بحيث اصبحوا يتعلمون الهندية والانكليزية ويعيشون على المساعدات الحكومية.
الاكثر عدائية هو فخذ جاروا jarawa, الذي يعيش على منطقة محمية تقع على الشاطئ الغربي من جنوب ووسط الجزيرة الرئيسية. هذه المجموعة كافحت طويلا ضد الانكليز وفيما بعد ضد السلطات الهندية. الجاراوا كانوا على الدوام يقتلون الاغراب ويمتنعون عن الاتصال. المصور الاول الذي اقترب منهم Oliver Blaise, كان لفترة طويلة يراقبهم عن بعد وتقدم فقط عندما تأكد انهم لن يأذوه. عام 1956 صدر قرار بوضع محمية خاصة لفخذ الجاراوا ولكن لانعدام الاتصال لم يعلم الجاراوايين بالامر. وعلى الرغم من ان هدف المحمية هو حماية نمط الحياة المميز لهذه المجموعة الا ان الصيد الغير شرعي وقطع الاشجار الغير شرعي استمر بدون انقطاع. هذاالامر ادى الى المحافظة على التوتر في العلاقة مع السكان الاصليين واليوم لم يبقى منهم الا 200 شخص. ومنذ عام 1998 بدء اعضاء هذه المجموعة يخرجون من مخابئهم ويقبلون العطايا من الحكومة. قسم منهم يعيش في معسكر حكومي ويحصل على معيشته من الصدقات. إضافة الى ذلك فإن التقاءهم مع ابناء الحضارة ادى الى اصابتهم بالعديد من الامراض التي لاتملك اجسادهم مناعة ضدها.
غير ان هذه المشاكل لاتوجد عند المجموعة الرابعة التي يطلق عليها السنتينيسيل: sentinelser, على اسم الجزيرة التي يعيشون عليها، North Sentinel Island. على عكس اشقاءهم تمكنوا من الوقوف بوجه الحضارة ويعتبرون عدائيين للغاية. القليل للغاية تمكن من الاتصال بهم ويصفوهم بانهم يتمتعون بالعزة والكبرياء والجرأة والشجاعة. مانعرفهم عنهم انهم يصيدون السمك على طول شواطئ جزيرتهم في زوارق محفورة بجذوع الشجر. واسمه جاء من اسم الجزيرة ولانعلم ماذا يسمون انفسهم.
في السنوات الاخيرة كانت الحكومة تضع مساعدات على شواطئهم مثل الشباك ورؤوس الاسهم والفواكه، غير ان السكان كانوا يخرجون لجلب العطايا فقط بعد ذهاب الاغراب. التقديرات ان عددهم مابين 80 الى 100 شخص.
هذه المجموعات الاربعة كانت معزولة حتى عن بعضها، وكل منهم يتكلم لغته الخاصة. وعلى الرغم من المعرفة السيئة لتفاصيل لغاتهم الا ان الباحثين يعلمون ان لغاتهم ذات قرابة مع لغات الشعوب المجاورة وان جذور هذه القرابة تعود الى العصر الحجري. وتماما كما انهم تمكنوا من البقاء بعيدين عن الاختلاط الجيني مع القادمين الجدد على القارة القريبة تمكنوا ايضا من ابقاء لغتهم بعيدة عن الاختلاط مع اللغات الكبيرة التي انتشرت منذ نهاية العصر الحجري قبل عشرة الاف سنة.
العدائية والانعزال جعلت من الصعب دراسة هذه المجموعات الاثنية الباقية من هجرة الانسان الاول. الدراسات الجينية التي قامت بها الباحثة Erika Hagelbergs , كانت على قاعدة تحاليل عينات الدم المأخوذة من الاثنيتين اونغه وجاراوا ومن اجل توسيع قاعدة الابحاث جرى استخدام سبعين شعرة كان عالم الاجتماع البريطاني A R Radcliffe-Brown قد جمعها في بعثته عام 1907.
مستقبل هذه المجموعات مظلم للغاية. الباحثة الهندية Lalji Singh, لازالت تستمر بالابحاث الجينية من اجل معرفة مستوى قبول الامراض وكيفية مكافحة تعرضهم للامراض. مجموعتين منهم اصبحوا " متحضرين" في حين ان المجموعة الثالثة اصبحت قليلة للغاية وتفكر الحكومة الهندية بإجبارها على الانتقال الى مكان جديد الامر الذي سيقضي نهائيا على نمط حياتها ويعرضها للامراض. والمجموعة الرابعة وحدها يبدو انها تمكنت من البقاء حتى اشعار اخر.
للمزيد من المصادر والمعلومات والصور راجع : موقع الذاكرة