(لماذا تريدون أن تنفرد مصر دون غيرها باثنتين من عجائب الدنيا : الأهرامات والقطاع العمومى ؟
إن مصر أم الحضارة ، أو أم الدنيا كما يقول أهلها ( أو لعلهم يقصدون أم الدين ) . هذه هى المشكلة . إن مواصفات شعبها الذى صنع ما يزعم أنه أول حضارة فى التاريخ ، تجعله آخر شعب على وجه الأرض يصلح للتعايش مع عالمنا المعاصر .
هل هدمت مصر ما بعد‑السادات بأيديها ما كانت قد بنته بدأب ، أم نفسح المجال لطرح نظرية أخرى : أنها لم تكن يوما صاحبة رأى فى أى شىء ؟ جاءها صندوق النقد الدولى والبنك العالمى ليقولا لها إن لديهما وصفة ممتازة ومجربة للنمو والتقدم اسمها الاقتصاد الحر ، فوافقت . ثم اعترض الشعب ، إرهابيوه ومسالموه ، فوافقت أيضا !
إن جعل الضرائب صفرا ، وجعل الجمارك صفرا ، وجعل سعر الفائدة صفرا ، وجعل الميزانية الحكومية صفرا ، وجعل نسبة حقوق التملك للأجانب 100 0/0 ، وجعل نسبة تحويل أرباح المستثمر الأجنبى للخارج 100 0/0 ، ليست هى العقبات التى تجعل مصر أقل جاذبية للمستثمر من هونج كونج . إن الجنزورى ووزيره طلعت حماد كانا يستطيعان سن كل هذه القوانين ، بل وجعل كل الحكومة خفية ، فى شهر واحد . المشكلة أن الشعب المصرى نفسه لا قيمة له ، لم يتعلموا شيئا فى المدارس والجامعات ، فهل المطلوب من المستثمر أن يأتى معه بالبشر أيضا ؟
الجنزورى هذا الذى جاء لتنصيبه آل جور نائب الرئيس الأميركى رغم ساقه المكسورة ، زعيم أتت به شرعية قيادة أميركا للعالم وشرعية صندوق النقد الدولى والبنك العالمى أو اختصارا لكل هذا وذاك شرعية العلم ، وكلها شرعيات تفوق شرعية الانتخاب سواء كان بواسطة شعب عالم أو شعب جاهل . لذا ربما لا نبالغ بعد أن رأينا بأعيننا مصر تلفظ الدكتور الجنزورى بهذا الإجماع الصامت والاحتفالى معا ، بالقول إن لم يعد ثم أمل قط فى المستقبل .
لو شئنا استعارة بعض المصطلحات الكبيرة من أدبيات الأحزاب الشيوعية المصرية المتطرفة الصغيرة ، لاستخدمنا على بياض مصطلحى ’ البرچوازية البيروقراطية ‘ و’ الرأسمالية الطفيلية ‘ لتشخيص الاقتصاد المصرى بحكومته ورأسمالييه . إنهما وجهان لذات العملة ، الچيينات المصرية ، التى تستمرئ الكسل والفساد والفهلوة ، وتكره الشغل والاستقامة والمنافسة الجادة . طبعا ليس الحل فيما تقوله تلك الأحزاب من تطبيقات شيوعية واشتراكية . كذلك ليس الحل فيما نقوله نحن من رأسمالية تنافسية لا ترحم وحكم عسكرى يمينى يفعل الاقتصاد الحر ويحرسه . الحل لا هذا ولا ذاك . فيما يخص مصر الحل هو أن لا حل على الإطلاق !
قناة الجعيرة تسوق لنا الآن مصطلحات من قبيل ’ النظم العربية ‘ و’ الحكام العرب ‘ ، باعتبارهم سبب النكبات ، وأن لو أزيحوا سيحل كل شىء . يجب أن نعرف أولا لماذا حكوماتنا سيئة . حكوماتنا سيئة لأن شعوبنا أسوأ . ولو كان لديها عناصر أفضل لأفرزتها فعلا ، ولو حدث وأفرزتها لما سارعت بقتلها كما فعلت مع الدكتور الجنزورى . حكوماتنا سيئة لأن معارضتنا أسوأ وأسوأ . ولو كان العكس صحيحا أى شعوبنا أفضل من حكوماتنا ، ومعارضتنا أفضل من شعوبنا ، لما حصلنا أصلا على تلك الحكومات . ذلك هو ما تفرزه شعوبنا فعلا : ناصر وقذافى وصدام وأسد وكتاب ثلاثاء ، تفرزهم صباح مساء ، ولو قتلناهم وأتينا بالسادات والجنزورى ، لبحثت هى عن محرضين جدد وأولتهم أمرها . معارضة تجر الشعوب نفسها فى الاتجاه الخاطئ 180 درجة للإصلاح والحداثة والجلوبة والاقتصاد الحر ، وتزكى فيها طبيعتها الانفعالية الغبية ، وحبها لحياة الاهتياج الدائم ، وتلبى رغبتها الدائمة فى أن تسمع دوما لصوت التحريض وتخمد صوت العقل ، وطبعا الأهم من كل شىء أن تعفيها ، بمجرد حفنة من مظاهرات الشوارع أو حتى المظاهرات التليڤزيونية ، من مواجهة تحديات التطور التقنى والبناء الاقتصادى المضنية حولنا . هذا صحيح حتى فى البلاد التى انتصر فيها صوت التقدم طويلا كبلاد الملك حسين والرئيس الحبيب بورقيبة . انظر من ينادون بالديموقراطية فى البلاد العربية الآن . إنهم المعارضة الإسلامجية والعربجية والشيوعيجية . لو هؤلاء الذين تبيعهم لنا قناة الجعيرة تولوا الحكم لما بقت ولو ذرة واحدة من تلك البقية التافهة أصلا من مستويات التنمية والحرية الحالية . هذه ليست سيناريوهات فرضية ، وليست تجربة الجنزورى الموءودة هى دليلنا الوحيد ، إنما لأن هؤلاء الشعاراتيون حكمونا فعلا ، ولا يزالون يحكمون بلادا عربية كثيرة ، والنتيجة واحدة دوما : الخراب التام أو الموت الزؤام !
هل كان فشل الجنزورى قدرا ؟ سألنا هذا السؤال قبل أربع سنوات ، والآن نكرر الإجابة :
نعم ! إنه كامن هناك فى أعماقنا الچيينية !
يقولون ’ فى مصر لا يموت أحد من الجوع ‘ ، ويتجاهلون التكملة المنطقية للعبارة ’ … إلا إذا مات الجميع معا من الجوع ‘ . هذه العبارة هى جوهر فكر كل يسار العالم الذى نقلته عن مصر الثورة الفرنسية والثورة البلشفية …إلخ . الآن ها الجوع للجميع قد أصبح وشيكا وبمعناه الحرفى ، تجرفنا إليه جرفا معاداة وتوجس مزمنان نحو العالم الخارجى ، واختراع وتوطن الأديان فى مصر ، وعبقرية مصر المتمثلة فى حالة فريدة من الغباء الجمعى المستدام . عند هذا الشعب دونا عن كل شعوب العالم يوجد تفسير واحد لا غير للانهيار الاقتصادى لا تذكره الكتب قط اسمه الغباء القومى . إننا أمة من الأغبياء ، سعداء بما نحن عليه من غباء ، ومن الطبيعى أن لا نفهم فى الاقتصاد أو البيزنس لأن الكرامة والآخرة خير وأبقى على رأى رسول الله إخناتون . أمة لا تستحق العيش ، ولا تستحق حتى تكلفة القنابل النووية الأميركية لتخليصها من مأساتها التى لم تشعر بها قط . أمة طالبت بالاستقلال أو الموت الزؤام فها هى تنال الاثنين ، أو بلغة اليوم : كل انتفاضة وأنتم بخير ومقاطعين !
الإصلاح الحقيقى المودى لنهضة حقيقية كله خطوط حمراء . خطوط حمراء تخص البعد الاجتماعى المزعوم ، تشطبه بالكامل من قاموسنا . خطوط حمراء تتعلق بإلغاء التعليم العمومى بالكامل ، فهو ، وكذلك الصحة العمومية ، ترف لا تقوى عليه دولة جائعة مثلنا ، وقد نفكر فيه من جديد بعد عشر سنوات أو عشرين سنة مثلا . خطوط حمراء تتعلق بالهوية والدين تمحوهما الدولة محوا وتجند الإعلام والتعليم بقوة القانون لذلك . خطوط حمراء أن تصبح الضرائب صفرا والجمارك صفرا وسعر الفائدة صفرا وما يسمى بلطجة بحقوق الشغيلة صفرا وميزانية الدولة صفرا وحقوق تملك الأجنبى 100 0/0 وحقوق تحويل الربح للخارج 100 0/0 . خطوط حمراء تتعلق بتسريح 95 0/0 من موظفى الطابونة الخيرية المسماة الدولة . خطوط حمراء تخص تحديد النسل بتجريم الزواج الإنجابى ، وتبنى الدولة للحرية الجنسية فى المدارس والنوادى وكل مكان ، وقتل من يتم إنجابهم وإيداع أبائهم السجون ، أو ربما تتضح الحاجة لقتل بعض من أنجبوا فعلا فى السنوات الأخيرة ، مثلا ما لم يكن ذووهم قادرين على دفع 100 ألف دولار لخرينة الدولة الجديدة التى لن تعرف شيئا اسمه الضرائب ، فكل الأعراق يناقص عددها ، البيض الپروتستانت الأنجلى والساكسون ، الصفر سواء بالاقتصاد الحر المتقدم كالياپان أو بقوة القانون كالصين ، حتى كاثوليك جنوب أميركا وأرثوذوكس شرق أوروپا يتناقصون ، ولا يتبقى للتكاثر سوى العرب والمسلمين والسود . خطوط حمراء تلغى الجيش وما ينفق عليه فيما عدا هو ضرورى للأمن الداخلى فقط ، وتحيل مسئولية أمننا الخارجى للولايات المتحدة أو إسرائيل ( هذا لم يكن يسمونه احتلالا فى أيام الليبرالية المصرية القديمة العظيمة وكانوا يسمونه حماية ، وكان يتبناه كل زعيم مصرى مخلص حقيقى ‑للبلد وللشعب وليس لزعامته الشخصية‑ ممن ويا للعجب لا تزال شوارع وسط القاهرة تحمل أسماء بعضهم ) . خطوط حمراء تتعلق بفرض ديكتاتورية عسكرية تكون حارسة للاقتصاد الحر وللحريات الشخصية ، تبطش بالنقابات والمتدينين والأحزاب ومنظمات حقوق الإنسان وكل أحد ، وتحمى المستثمر الأجنبى ( أو المستعمر الأجنبى كما سيسمونه ساعتها ) ، كل ذلك إلى أن يقف اقتصاد سوق حقيقى على قدميه . وكل هذا ليس اختراعات ولا نظريات من خيالنا بل المشروع الوحيد الذى طبقته فعلا وعلى أرض الواقع جميع البلاد الفقيرة التى نهضت .
لقد بات الاستقطاب واضحا كثيرا ، ما بين حلم خيالى بإصلاح يتوهم أنه يجتاز جميع الخطوط الحمراء بينما هو فى الواقع لا يجتاز حتى الخطوط البمبى ، لا يجتاز أى شىء ، وما بين واقع مرير جاثم لألفيات كاملة من السنوات تسرى لعناته فى چييناتنا وربما للأبد ، ويمثل الخط الأحمر الحقيقى الذى لا يمكن لأحد كسره إلا بمعايير قصوى تفوق كل الخيالات الحالية أو المرئية فى أى مستقبل منظور .
فى سائر البدان المتخلفة ‑إلا نحن فى مصر التى تأبدت فيها السياسات الاشتراكية‑ يزداد الوعى بأن مشروعية الضرائب تأتى من مشروعية إنفاقها ، أما عندنا فمفهموها أنها ضريبة تفرض على الغنى ضريبة عن غناه . لو أنت تأخذ من الغنى لتعطى الفقير هذه سرقة لا تحتمل التأويل . أنت تأخذ منه مقابل خدمة كأن تمد مصانعه بشغيلة مدربين لم ينفق هو شيئا على تدريبهم مباشرة . وحتى يكون جبى الضرائب من أجل تعليم عمومى مشروعا يجب أن يكون هذا تعليما صفوويا يخدم البيزنسات ، لا يخدم طوابير البطالة . سنجافورة مثلا فعلت هذا وكان مفتاح نهضتها ، أنفق حكامها العسكر مال الشعب العمومى على تعليم حفنة من الشباب النابه فى الغرب بتكاليف باهظة ، بينما الكل يطالب بأن من الأولى توجيه هذه الأموال لتعليم جيوش الفقراء . بالمناسبة ، نسف نظامنا التعليمى من جذوره ، ليس شطحة غير مسئولة من عندياتنا ، بل فكرة د . زكى نجيب محمود من السبعينيات ، حيث طالب بإنشاء كليات بالمواصفات العالمية المتعارف عليها تسمى مجازا كليات الدراسات العليا ، هذا لو أصر البعض على الإبقاء على التسميات الحالية لكلياتنا وجامعاتنا ، بينما الصواب معاملتها كجزء من التعليم الثانوى ، أو ‑وهو الأفضل‑ يتوجب النظر إليها وكأنها غير موجودة حسب تعبيره !
هكذا ، لعقود إن لم يكن لكل التاريخ ، كان مفهومنا المنحرف والمتفرد جدا للوطنية : الوطنية ليست أن نطهر بلادنا من الفقراء بل أن نطهرها من الأغنياء !
أدق وصف لما يجرى الآن فى مصر من خصخصة تسمى زورا إصلاحا اقتصاديا ، أنها خصخصة ماركسية‑لينينية . الخصخصة الحقيقية لا تعنى فقط تخلى الحكومة عن مسامير جحا فيما باعته أو الأدق أجرته من شركات ، إنما تعنى الخصخصة الكاملة والمطلقة لكل شىء . خصخصة نهر النيل وقناة السويس . خصخصة الهرم الأكبر والسد العالى . خصخصة الشرطة والقوات المسلحة . خصخصة حقل الپترول ومنجم الحديد . خصخصة المدرسة والمستشفى . خصخصة التأمينات الاجتماعية والسجل المدنى . خصخصة القضاء وإصدار العملة . خصخصة كل شىء وأى شىء . وخصخصته الخصخصة الحقيقة المؤدية لرفع كفاءة تلك المؤسسات ولتنمية حقيقية لأرض مصر وشعب مصر ، التى تعنى ، وتعنى فقط ، بيعها لأكبر الشركات العالمية ( أو طبعا إعادة ما اغتصب منها إليها ، وطبعا طبعا إغلاق ما لا ترضى الشركات العالمية بشرائه وبيعه كأراضى ، فما فائدة أن تؤخذ هذه المؤسسات من مصريين لا يفمون فى الصناعة ولا البيزنس كى تعطى لمصريين هم أيضا لا يفمون فى الصناعة ولا البيزنس ؟ ) . تعريف الخصخصة أن لا تملك الحكومة شيئا ولا تدير شيئا ، والفكرة ببساطة أن كل شىء وأى شىء قامت أو ستقوم به الحكومة يقوم به القطاع الخصوصى على نحو أفضل ، بالذات لو استجلبناه من وول سترييت أو بورصة لندن .
ذلك هو الإصلاح الحقيقى ، إصلاح الخطوط الحمراء الحقيقية . وما عدا ذلك هو مشى حالك ، إللى ييجى بعدنا يشوف حاله ، وتكريس لمبدأ التدرج الذى علمتنا العقود أنه لن يفضى لأى شىء ، إلا مزيد من التخلف . وكل شىء سيحل بالطريقة التى حلت بها المشكلة السكانية ، الكل ينتقدها ، لكن أحدا لا يملك القدرة على مجرد التفوه بالحلول !
أنا أعرف هذه الحجة : نحن لسنا أثرياء بعد بما يكفى للإقلاع عن الاشتراكية . خطأ ! دائرة مفرغة ! هذه الحجة لم تؤد لنهضة حقيقية فى أى مكان قط . فقط دعم الفقراء شجعهم على إنجاب مزيد من الفقراء ، أى أدى لزيادة الفقر . الثراء لن يأتى أصلا دون اقتصاد حر ، وفى حالات الدول المتخلفة لا يمكن أن يأتى هذا الأخير إلا على فوهات المدافع ، وراجعوا كل تجارب النهضة . هذا ناهيك عن ضغط عامل الزمن ، والسباق العالمى المرعب الذى لا يسمح لأحد بترف التدرج . إن لم يكن كل ما قلناه قابلا لأن يصبح على الأرض خطة سنوات خمس على الأكثر ، وبمصارحة مسبقة للناس لكل ما تعنيه كلمة حرية الاقتصاد ، ولأن قد انتهى للأبد عصر ’ فى مصر ما حدش بيموت من الجوع ‘ أو ’ إزاى ؟ هو إحنا خلفناهم ونسيناهم ؟ ‘ ، مصارحة مسبقة للناس بأن بحورا من الدماء لا بد وتتدفق قبل أن تقام الرأسمالية الحقة ويصبح لأبنائنا مستقبلا حقيقيا ، ما لم يتم هذا فإن أى حل بديل لن يغير شيئا مما نحن عليه ، وسنواصل بذات القوة مسيرتنا المظفرة نحو الموت البطئ للجميع ، أو لعله لم يعد بطيئا بعد !
http://www.everyscreen.com/views/politics.htm
http://www.everyscreen.com/views/politics_part_2.htm
http://www.everyscreen.com/views/politics_part_3.htm