حضور فكر التجديد عند رواد النهضة: " الكواكبي، وقاسم أمين" نموذجا
بقلم الطالب: عبد الله أموش
مقدمة:
تنطلق مسألة التجديد من محددات قرآنية نظرية، ومن محددات تطبيقية كونية. يعطي فيها القرآن انطباعا بأن التجديد ما هو إلا نتاج خلق الله للإنسان الذي ينتج ويبدع ويجدد. قال تعالى: "افعينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد". بينما يتجلى التجديد على صفحات الكون -المعادل الرياضي للقرآن الكريم- ويعطينا انطباعا بأن التجديد ما هو إلا إفراز طبيعي ضدا على التخلف.
1-حضور فكر التجديد عند الشهيد (عبد الرحمان الكواكبي) فكرا وممارسة
سمات من محيط شهيد الحرية عبد الرحمان الكواكبي:
ولد عبد الرحمان الكواكبي في محيط لم يختلف كثيراً عن محيط رواد النهضة من مجايليه. فلقد ولد في حلب التي كانت تعد آنذاك مقاطعة من مقاطعات (الرجل المريض) "ولقد تضافرت عوامل عديدة أدت إلى انحطاط السلطنة العثمانية وتقويض دعائمها. من هذه العوامل: عدم انصهار الشعوب والأمم التي كانت تتألف منها الدولة في بوتقة واحدة – نظام الحكم الاستبدادي المطلق – نظام الإدارة الفاسد – فساد الجيش والأسطول– نشوء النزعة القومية ".[1]
"ولقد أدى هذا كله إلى ظهور المصلحين السياسيين والاجتماعيين والدينيين في العالم العربي العثماني أمثال البرنس مصطفى، فاضل باشا، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمان الكواكبي، وخليل غانم، والشيخ محمد عبده، وقاسم أمين، والمعلم بطرس البستاني، وغيرهم"[2]
وهو عبد الرحمان بن أحمد بهائي بن محمد بن مسعود الكواكبي ( 1854-1902م )[3] واحد من أبرز المجددين والمصلحين الإسلاميين في العصر الحديث[4]. حصّل علوم الشرع وحفظ القرآن الكريم، وأتقن اللغة التركية والفارسية إلى جانب العربية (ولم يكتف بهذا القدر بل أخذ يطالع منذ ذلك الحين كتب التاريخ والفلسفة وما كان يقتنيه من المجلات والكتب العلمية والاجتماعية فأصاب من ذلك جميعا حظا وافرا من فنون السياسة والعمران والتاريخ)[5] "تأثر بمبادئ الثورة الفرنسية كما تأثر بالحركة الإصلاحية الدينية التي بدأها الأفغاني ومحمد عبده"[6] لكن " تميز عبد الرحمان الكواكبي عن جمال الدين الأفغاني بالتركيز على النهضة العربية أكثر مما على الجامعة الإسلامية، متحولا هكذا على التأثر بسلفه المباشر وابن دينه إلى التأثر بمعاصريه من اللبنانيين في مواجهة نظام سياسي اضطهد العرب باسم الإسلام"[7]. تقلد مجموعة من المناصب، فبرز كاتبا، ومحررا، وقاضيا، ورئيسا، ومهندسا عمرانيا مجددا.
كاتبا: موهوباً كتب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" بأسلوب علمي متجدد، وكتب "أم القرى" بأسلوب تقرير صحفي أصيل.
محررا: "بالصحافة وهو في الثانية والعشرين من عمره، ثم أصدر بعد عامين صحيفة (الشهباء)[8] أولى الصحف العربية بحلب، بعد إغلاقها من قبل الأتراك العثمانيين أصدر صحيفة (الاعتدال)، فلاقت نفس المصير"[9].
قاضيا: شرعيا، ورئيس كتّاب المحكمة الشرعية، ومحاميا أو ( عرضحالجيّا )؛ تعرض عليه المظالم فيراسل بشأنها الأمراء والحكام.
رئيسا بالبلدية، علاوة على ترأسه لغرفة التجارة والزراعة والصنائع بحلب.
مهندسا عمرانيا: "غير أن أعماله ومشاريعه التي قام بها أو نوى تحقيقها بنفسه من عمرانية وسياسية واجتماعية – ومنها ما تم ومنها ما لم يتم – تصور الكواكبي رائدا من رواد الحرية وعدوا للظلم والاستبداد.."[10]
حضور التجديد عند شهيد الحرية عبد الرحمان الكواكبي
"الكواكبي صاحب فكرة ورسالة التزم الدفاع عنها قولا وعملا، فكان في حياته الاجتماعية، كما كان في حياته الفكرية، مثال المتحرر، يحارب الظلم والاستبداد ويثور ضد الطغيان والاستعباد، متشوقا إلى مستقبل ارغد وحياة فضلى يرفرف فوقها علم الحرية والعدالة والمساواة"[11].
فلقد جاء الكواكبي كسلالة من سلالات رواد التجديد التي توالت على العالم الإسلامي. فأقام دعوته التجديدية على مجموعة من الأهداف:
1- تحرير الفكر، والعقل من قيد التقليد. وفهم الدين فهما حضاريا.
2- إحياء عملية التجدد، وفتح باب الاجتهاد. ومحاربة عقيدة الجبر والتواكل، بالاشتغال وفق سنن الله في الكون.
3- الدعوة إلى نظام حكم عادل وشوري. والثورة على الاستبداد والديكتاتورية.
4- الدعوة إلى تعليم المرأة.
لكن تميز الكواكبي يكمن في دقة تشخيصه لواقع الأمة، ويظهر ذلك جليا في كتابه (أم القرى) الذي جمع فيه كل ما يتعلق بسب تخلف الأمة عن الركب. فكان الدواء الذي قدمه كفيل بعلاج الأمة. وكذا كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) الذي شخص فيه واقع الاستبداد وانعكاساته على كافة المجالات الحياتية في الأمة.

2-حضور فكر التجديد عند الرائد ( قاسم أمين) فكرا وممارسة
سمات من محيط الزعيم قاسم أمين
لم يكن المصلح الاجتماعي قاسم أمين بدعا من رواد النهضة، ودعاة التجديد والإصلاح في العصر الحديث، فلقد ولد في محيط متسم بالركود، والتخلف، واستحكام العادات والتقاليد البالية.
كانت حياته بين( 1863- 1908م ) درس في مصر تعليمه الأساسي كعادة مجايليه، ليكمل بعد ذلك دراسته للقانون بفرنسا، التي قضى فيها أربعة أعوام (من1881- إلى1885م ) فكانت فرصته السانحة للقاء بزعماء الإصلاح، ورواد التجديد. فتعرف على الزعيم جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الشيخ محمد عبده، ومدرسة التجديد الإسلامي، فكان آنذاك المترجم الخاص للإمام محمد عبده أثناء تواجده بفرنسا.
نهضة قاسم أمين الاجتماعية:
عاد قاسم أمين إلى وطنه مصر؛ وكله شوق، وتطلع إلى التجديد والنهضة، فبشر بمبادئ الحرية والتقدم على أسس من الثقافة الإسلامية؛ مازجا بذلك بين قيم الغرب التقدمية التي شهدها في فرنسا، وبين قيم مدرسة التجديد الإسلامية .
فبرز كاتباً، وأديباً، وقاضياً، ومصلحاً اجتماعياً.
• كاتبا: في جريدة ( المؤيد ) حيث قضى فيها 4 سنوات، كتب خلالها 19 مقالا. وعندما أصدر الدوق (داركور) كتابه (المصريون ) منتهكا كرامة الإنسان المصري قام أمين بالرد عليه.
• أديبا: وداعية إلى تحرير اللغة من الجمود.
• قاضيا: ذاعت شهرته فتدرج في المناصب من القضاء إلى أن صار مستشاراً
• مصلحا اجتماعيا: حين انصرف وتوجه الرواد إلى الزعامة السياسية والدينية فانفرد بالمجال قال أحمد أمين: ( إننا لنرى مصر – مثلا – أنه لم يقم مصلح اجتماعي بعد قاسم أمين على حين أن سلسلة الزعماء لم تنقطع )[12]
حضور التجديد عند قاسم أمين
لقد ظهر قاسم أمين في عصر كثرت فيه المناداة بضرورة التجديد، وفتح باب الاجتهاد. فكان لهذا تأثير في حضور مسألة التجديد في وعي وعمل قاسم أمين.
وإن ما يميز محاولته التجديدية هو هذا التجاوز للمقولات السلفية في مجال إصلاح المجتمع. لذلك عمل أمين من أجل تحقيق النجاح في ميدان زعامته- الإصلاح الاجتماعي - حتى أيقن النجاح، ولو قدر له أن يعود لرأى ثمرات ما غرس.
فهو مجدد فكرا وممارسة، وإن لم يكن أول من طرح قضية تحرير المرأة. فلقد فعل ذلك أحمد فارس الشدياق (1804 – 1888م ) أي قبل ولادة أمين حيث نشر ذلك في صحيفة ( الجوائب). كما أن ما دعا إليه أمين نجده مبثوثا في مداولات لجنة تنظيم التعليم التي كان ( رفاعة الطهطاوي رائد التنوير 1801- 1873م) عضوا فيها(حيث دعت إلى تقريب الفروق بين الرجال والنساء..)
فان لم يكن لأمين السبق إلى طرح هذه الموضوعات إلا أن رياديته تكمن في جرأته وثباته، وهذا ما لم يتأتى لغيره من الرواد الأوائل الذين سبقوه. ومن المحتمل أن يكون للبيئة دور هام في التجاوب مع أفكار أمين ولو مع التحفظ، والذي يدعم هذا الاحتمال ما عرفته البيئة العربية من توالي سلالة المجددين عليها، من رفاعة الطهطاوي إلى محمد عبده..
لقد قام قاسم أمين مجددا في الحياة الاجتماعية، وتمظهر ذلك في محاربته للركود والعادات البالية التي تعلو فوق الإسلام بذاته، مغطية وجهه المشرق في مجال المرأة والأسرة . فحمل لواء الحركة النسائية كزعيم فريد في زمن الردى، مدافعا عن فكرة تربية النساء، وتكوين جيل النهضة من بنين وبنات، فأنشأ الجامعة المصرية داعيا إلى النهضة القومية، وقاد بجدارة هذه الحركة حتى جاءت هدى الشعراوي فحملت اللواء ثانية، مكملة الدرب والطريق.
تمظهرات التجديد في أعمال قاسم أمين
أصدر قاسم في 1889م كتابه ( تحرير المرأة ) هادفا من وراء تأليفه ردم التقاليد الجائرة، مطالبا بتحرير المرأة ليس على أسس تغريبية غربية بل على أسس من مدرسة التجديد الإسلامي.
وفي سنة 1900م أصدر كتابه ( المرأة الجديدة ) ليتم به مشروعه في درب تحرير المرأة. ولقد أهداه إلى الزعيم سعد زغلول باشا مطالبا فيه بإقامة تشريع يكفل للمرأة حقوقها. فكان بهذا الانجاز مستحقا بجدارة لقب المصلح الاجتماعي كما وصفه أحمد أمين.
موقع قاسم أمين في سلم التجديد والنهضة
لقد كان لقاسم أمين قصب السبق في مجال تحرير المرأة فكرا وممارسة؛ إذ نجد أن كل من أتى بعده سواء مؤيدا لفكره التحرري؛ أم ناقدا له؛ لابد أن يمر على قاسم مثنيا أو شاتما لفعله. وخذ على سبيل المثال جل الكتابات التي تروج في المكتبات ولها علاقة بالمرأة.
لقد ذهب الناس في تصنيف قاسم المذاهب كلها[13]. إذ نسبه البعض إلى العمولة للغرب، وذهب البعض الآخر إلى أنه غاو مبين، في حين عده البعض من التلاميذ النجباء للمستشرقين، وجنح آخر فرأى أن كتاب (تحرير المرأة) لم يكن من تأليف قاسم أمين بل شيخه محمد عبده.
والذي حير الألباب والعقول في قضية أمين ما قاله الدكتور ماهر حسن فهمي: (ومما يلفت نظر قاسم بخصوص موضوع المرأة، ما تتمتع به المرأة الفرنسية من حرية تسمح لها بكثير من الأشياء.
ولم تعجب قاسما بسبب تفكيره الشرقي فكرة الاختلاط الحر المفتوح وإن سرته الحياة الأسرية هناك[14] ويظهر هذا بوضوح في رده على كتاب ( درا كور ) عن مصر والمصريين، فقد انتقد هذا الأخير في كتابه وضعية المرأة المسلمة وخصوصا في حجابها.. وقد رد قاسم أمين على هذه الاتهامات.. فإذا انتهى قاسم من المرأة المسلمة عاد إلى المرأة الأوربية ليكيل الدوق الصاع صاعين فيورد إحصاء قاسيا يدل على أن ربع المواليد في فرنسا غير شرعيين.. كان هذا الموقف هو الذي بدأ به قاسم أمين حركته الإصلاحية وقد عدل عنه يوم تعرض كتابه (تحرير المرأة ) للحملات التي وجهت إليه من طرف معارضيه المحافظين الذين اتهموه اتهامات قاسية ولم يستطع أمام هذه الحملات أن يحتفظ بمنطقه الأصيل وتفكيره النابع من المقومات الإسلامية. وهكذا ألف كتابه الثاني ( المرأة الجديدة ) للرد على هؤلاء الخصوم. فتنكر لبعض الحقائق التي رد بها على الدوق ( درا كور)[15]
كما رأينا. لقد ذهب الناس في قاسم أمين المذاهب كلها إلا مذهب واحدا وهو عبارة عن استفهام: ألا يمكن أن يكون للزمان اليد الطويلة في تحويل قاسم عن بعض أفكاره؟ أو بعبارة أخرى أليس ما وقع لقاسم أمين هو عين ما وقع لرشيد رضا (والذين يقارنون تفسير محمد عبده بتفسير الشيخ رشيد بين دفتي ( تفسير المنار) يرون الفرق واضحا بين التفسيرين، وذلك للفرق بين الرجلين في المنهج.. فلقد كان محمد عبده بحّاثة وناظرا وعقلانيا، على حين كان رشيد رضا صاحب نزعة أثرية تهتم بالنصوص والمأثورات وتخريجها..ولقد أخذ هذا الفرق يتضح أكثر فأكثر بعد وفاة الإمام..)[16] ؟
--------------------------------------------------------------------------------
[1]- كتاب " عبد الرحمان الكواكبي: حياته وعصره وآراؤه " د نزيه كباره. ص 9
[2]- كتاب " عبد الرحمان الكواكبي: حياته وعصره وآراؤه " د نزيه كباره. ص 25
[3]- انظر كتاب عبد الرحمان الكواكبي : "شهيد الحرية و مجدد الإسلام" وكتاب" شخصيات لها تاريخ" د محمد عمارة ؛ وكتاب " زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين. وكتاب" الأعمال الكاملة لعبد الرحمان الكواكبي محمد جمال الطحان. والأعمال الكاملة لعبد الرحمان الكواكبي، محمد عمارة.
[4]- كتاب" شخصيات لها تاريخ" د محمد عمارة ص180
[5]- كتاب " عبد الرحمان الكواكبي: حياته وعصره وآراؤه " د نزيه كباره. ص 38
[6]- كتاب " عبد الرحمان الكواكبي: حياته وعصره وآراؤه " د نزيه كباره. ص 9
[7]- كتاب " حوار مع متمردي التراث"عصام محفوظ ص 197
[8]- يمكن الرجوع إلى أعداد من صحيفتي "الشهباء واعتدال" في كتاب "الأعمال الكاملة للكواكبي" إعداد محمد جمال الطحان
[9]- كتاب" شخصيات لها تاريخ" د محمد عمارة ص180-181
[10]- كتاب " عبد الرحمان الكواكبي: حياته وعصره وآراؤه " د نزيه كباره. ص 40
[11]- كتاب " عبد الرحمان الكواكبي: حياته وعصره وآراؤه " د نزيه كباره. ص 107
[12]-"كتاب زعماء الإصلاح في العصر الحديث" أحمد أمين.ص 341
[13]- ولمزيد من المعلومات يرجع لكتاب " قاسم أمين: تحرير المرأة والتمدن الإسلامي" للدكتور محمد عمارة. و"الأعمال الكاملة لقاسم أمين" للدكتور محمد عمارة
[14]- كتاب "قاسم أمين" للدكتور ماهر حسن فهمي ص40 نقلا عن كتاب المرأة المسلمة بين التكريم الإسلامي والامتهان الحضاري للدكتور احمد الوافي منشورات كلية الشريعة ص 240
[15]- كتاب "قاسم أمين" للدكتور ماهر حسن فهمي ص40 نقلا عن كتاب المرأة المسلمة بين التكريم الإسلامي والامتهان الحضاري للدكتور احمد الوافي منشورات كلية الشريعة ص 240
[16]- كتاب "التراث والمستقبل" الدكتور محمد عمارة. ص 200