طريف سردست، موقع الذاكرة
قبل اجتياح قبائل العرب البدوية للدولة الرومانية بفترة طويلة قامت قبائل بدوية مغولية بإجتياح هذه الدولة واشاعت الخوف والرهبة في اطراف الامبراطورية واجبرتها على دفع الجزية لسنوات، مبرهنة على ان الامبراطورية مصابة بالعجز قبل فترة طويلة من سقوط ولاياتها الشرقية في ايد العرب وأن سقوطها في ايد البدو البربر امر ليس عجيبا او استثنائيا.
في عام 449 ميلادي دعى الملك عطيل الذائع الشهرة مجموعة صغيرة من الرجال للغذاء على مائدته ومن بينهم كان المؤرخ المعروف بريسكوس Priskos from Panion, والذي كان ايضا مندوب الامبراطورية الرومانية الشرقية. هذه الدعوة كانت فرصة للمؤرخ ليتعرف على الشخص الذي ، على الرغم من صغر عدد جيشه، نشر الرعب وهدد الامبراطورية بكاملها. بريسكوس اصيب بالاعجاب من شخصية عطيل وتصرفاته ومستواه الحضاري.
المؤرخ بريسكوس كان الوحيد من عصره الذي القى الضوء على الزعيم المخيف الذي في تجول في اراضي الامبراطورية في القرن 400 ميلادي بدون ان يتمكن من ايقافه احد. الشعب الذي كان ينتمي اليه هذا الزعيم كان من البدو الذي لايعرف القراءة او الكتابة ولم يترك اي شئ يعرف فيه عن نفسه. المؤرخ بريسكوس كتب عن غاراتهم التي قاموا فيها من عام 434 ميلادي الى عام 474 . غير ان اللقاء على الغذاء كان المرة الوحيدة التي التقى فيها شخصيا مع الزعيم، والذي وصفه بأنه "قليل الكلام، يملك صدرا عريضا ورأسا كبيرا وان عيناه صغيرتان ولحيته قليلة الشعر وممتلئة بالشعر الشايب وانفه مفلطح وملامحه قاتمة". عام 1606 جرى ترجمة مخطوطاته الى اللغة اللاتينية ونشرت بإسم " Ex Prisci Rhetoris". وهنا نسرد الموضوع حسب التفاصيل كما وردتنا عنه.
يكتب:" عندما صار وقت الغذاء دخلنا الى قصره مع رسول الامبراطورية الرومانية الشرقية وانتظرنا في القاعة واوجهنا موجهة نحو عطيل. وكما كانت عليه العادات في البلد اعطونا عماله كوب لنتمكن من إنجاز طقس تقديم الشراب الى الالهة قبل ان نجلس.
عندما تذوقنا الخمر على شرف الالهة ذهبنا الى مقاعدنا. المقاعد كانت مرصوفة على طول الحائط. في الوسط كان عطيل يجلس على وسادة واخرى خلف ظهره.
خلفه يوجد درج يصعد الى غرفة نومه. السرير كان محجوب عن بقية الغرفة بواسطة قماش من الكتان الجميل يشبه مايستخدمه الاغريق والرومان عند احتفالات الزواج.
انا توقعت ان الامكنة على يمين عطيل محجوزة للضيوف الاكثر قربا في حين ان الاماكن الى اليسار ، حيث نجلس، كانت محجوزة للرجل الثاني في درجة التسلسل. بيريكوس، رجل الشرف من رماة السهام كان في جهتنا، ويجلس مباشرة امامنا".
المؤرخ بريسكوس كان يطلق تعبير "رماة السهام" على هذه الاثنية من huns والتي جاءت من اسيا الوسطى حوالي عام 375 قبل الميلاد وتوجهت الى اوروبا. جميع القبائل التي قابلوها في طريقهم جرى قتل افرادها مما حمل البقية على الفرار امامهم من مجرد سماع خبر قدومهم.
يستمر قائلا:" اونيغيسيوس (الشخص الثاني بعد عطيل) كان يرتكي على وسادة على يمين عطيل وامامه مباشرة كان يجلس اثنين من ابنائه. الابن الاكبر كان يجلس على طرف وسادة عطيل نفسه، بعيدا عن عطيل وكان يبحلق في الارض خوفا من والده.
عندما شغل الجميع اماكنهم تقدم عمال عطيل وقدموا لعطيل الخمر في كوب من الخشب. عطيل اخذ الكوب وطرقه مع كوب بيريكوس شاربا نخبه. الشخص الذي يجري الشرب على شرفه يقف ولايجلس حتى ينتهي عطيل من الشرب ويعيد الكوب الى الخدم. بقية الضيوف يشربون ايضا على شرفه بالطريقة نفسها. خادم يتقدم من كل واحد ويصب له الخمر. بعد ذلك تعاد الدورة على شرف الضيف التالي في التسلسل ويستمر الامر كذلك حتى يكون عطيل قد شرب على نخب جميع الضيوف حسب تسلسل الجلوس.
عند نهاية حفلة الشرب انسحب عمال الخدمة ليتم نصب طاولة امام عطيل وطاولة امام كل مجموعة من ثلاثة الى اربعة ضيوف. بهذا الشكل تمكن الجميع من الوصول الى الطعام بدون الحاجة للوقوف.
عمال عطيل دخلوا حاملين صينية كبيرة ممتلئة باللحم وتبعهم خدم اخرين يحملون الخبز والفواكه وما طاب ووضعوهم على الطاولات. غير ان عطيل لم يأكل الا قطعة صغيرة من اللحم كانت على صحن من الخشب، وقد اظهر على الدوام تملكا كبيرا للنفس يثير الاعجاب. كوبه كان بسيط ومصنوع من الخشب في حين ان الضيوف كانوا يحصلون على اكواب من الذهب والفضة. وحتى ملابسه كانت بسيطة ولكنها كانت نظيفة. السيف المعلق الى جانبه وحذائه وسرج حصانه كانوا بدون اية احجار كريمة او زخارف من االذهب او اي شئ ثمين مما يقدره " رماة السهام"".
حوالي عام 434 بدأ نجم الهونيس بالصعود. في تلك السنة اصبح عطيل واخوه بليدا ملوك على مملكة الهونيس غير انه في عام 445 سمح عطيل بقتل اخاه ليصبح القائد الاوحد. في خلال عدة حملات في البلقان من عام 441 الى عام 445 ومن ثم من عام 447 الى عام 448 نجح عطيل في اجبار الامبراطورية الرومانية الشرقية عن التخلي عن هذه الاراضي وأجبر القيصر على دفع جزية كبيرة سنوياً لكي لايجتاح عطيل امبراطوريته. العلاقات الديبلوماسية بين الطرفين هي التي جعلت من الممكن للمؤرخ بريسكوس زيارة عطيل في قصره.
يكتب:" بعد ان انتهينا من اكل المقدمات نهضنا جميعا وقوفا ولم يكن بالامكان العودة للجلوس الا بعد ان نشرب نخب صحة عطيل ونفرغ الكوب الممتلئ حتى نهايته. بعد ان يتقبل عطيل هذا النخب يمكن لنا العودة للجلوس وعندها يقدم لنا نوعا جديدا من الطعام. بعد ذلك نهضنا مرة اخرى وشربنا نخب عطيل وجلسنا من جديد.
بعد الغروب اشعل العمال مشاعل ليتقدم اثنين من البربر الى امام عطيل ويبدؤن بالغناء اغاني من تأليفهم وتتكلم عن انتصاراته وشجاعته في الحروب. الضيوف انصتوا بكل اهتمام وبعضهم اعجب بالغناء والبعض الاخر تأثر بذكريات المعارك في حين ان قسم اخر انطلق بالبكاء وكأن ارواحهم ضعفت بسبب الكبر وفقدوا القدرة على التحكم بالمشاعر".
في الاقوال الشعبية المتتداولة يقال ان "الاراضي التي وطئتها حوافر خيول عطيل لن ينبت فيها عشبا بعد ذلك"، لذلك عندما وصل ملك الهونيس ، عام 451 ، اي بعد عامين من حفلة الغذاء المذكورة، الى غاليان (من اراضي فرنسا اليوم) انتشر الذعر بين السكان. بدأت المدن بالتساقط واحدة بعد الاخرى قبل التمكن من ايقاف عطيل وفرسانه. هذا الامر حدث قرب قرب المنطقة المسماة اليوم تشالونس سور مارنه بفضل جيش كبير من الرومان والغوته. في السنة التالية توجه عطيل نحو ايطاليا ولكنه اجبر على التراجع .
يتابع المؤرخ قائلا:" بعد انتهاء الغناء تقدم احد رماة الاسهم ، مجنون على الاغلب. لقد بدأ بسرد جملة من القصص الغريبة والغير منطقية والتي لامعنى لها. لم يكن بها اي مقدار من الحقيقة ولكن السامعين كانوا مستمتعين للغاية. بعده تقدم القزم زيركون وكان منظره وملابسه وصوته وكلماته تثير الدهشة. من خلال خلطه اللاتينية بكلمات الهونيس تمكن بسحره الاخاذ من الاستحواذ علينا جميعا عدا عطيل الذي لم يبدو عليه التأثر لا بالكلمات ولا بالحركات.
فقط عندما تقدم منه ابنه الاصغر ايرناس والتص به اظهر رخاوة. لقد مسح على خد ابنه وضمه اليه ونظر اليه بعطف وحنان.
لقد تفاجأت لعدم اهتمامه ببقية الابناء ولديه وقت فقط للابن الاصغر. البربري الذي كان الى جانبي والذي كان يفهم اللاتينية سمع تمتماتي عن الابن وحذرني من التكلم بصوت مسموع. لقد اخبرني ان احد المتنبئين اخبر عطيل ان عائلته سيجري ابادتها ولكن الطفل الاصغر سيقوم بإعادة بنائها من جديد.
بعد المشاركة بالقسم الاكبر من الاحتفال انسحبنا الى خيمتنا لعدم رغبة اي منا في المواصلة على الشراب الليل بطوله".
يوم 15 آذار من عام 453 اقام عطيل حفلة جديدة كانت هي حفلته الاخيرة. عطيل كان يمتلك العديد من الزوجات ولكنه وقع في حب الجميلة المانية ايلديكو وحفلة الزواج كانت سخية وعظيمة.
عطيل واصل الشراب الى منتصف الليل ثم انسحب مع زوجته الجديدة الى غرفة النوم لاتمام مراسيم الزواج. غير انه من المشكوك به انه تمكن من انجازه. ماهو مؤكد ان الخدم في اليوم التالي تسألوا عن اسباب غياب سيدهم. بعد ان لم يسمعوا جوابا على ندائتهم سمحوا لنفسهم بالدخول الى غرفته ليجدوا الملك ميت على سريره وفوقه تبكي العروس وهي لازالت تضع غطاء رأسها.
كان عطيل يصاب غالبا بنزف الدم من الانف ولكن في هذه المرة كان مخدرا بالخمر الى درجة انه اختنق من الدم. حسب المصادر قام الهونيس بقص خصلات شعورهم وجرحوا وجوههم بالخناجر حزنا على الملك لان "اعظم المحاربين يجب ان نحزن عليه ليس فقط بدموع النساء ومخاطهم وانما ايضا بدم الرجال".
بعد وفاته حاول ابناءه ابقاء سيطرتهم على مختلف الشعوب التي كان والدهم يسيطر عليهم، غير ان الخوف زال من قلوب الشعوب، وكان الخوف وحده الذي يبقيهم تحت السيطرة فتجرؤا على الانتفاض. وفي معركة قرب نيداو عام 455 تمكن اتحاد الشعوب من الانتصار على الهيونيس لتتفكك مملكتهم بسرعة.