ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة
متن
وإذا هو بعشرة طيور قد أقبلوا من جهة البر وهم يقصدون ذلك القصر وتلك البحيرة فعرف حسن أنهم يقصدون تلك البحيرة ليشربوا من مائها فاستتر منهم خوفاً أن ينظروه فيفروا منه ثم إنهم نزلوا على شجرة عظيمة مليحة وداروا حولها، فنظر منهم طيراً عظيماً مليحاً وهو أحسن ما فيهم والبقية محتاطون به وهم في خدمته فتعجب حسن من ذلك وصار ذلك الطير ينقر التسعة بمنقاره ويتعاظم عليهم، وهم يهربون منه وحسن واقف عليهم من بعيد ثم إنهم جلسوا على السرير وشق كل طير منهم جلده بمخالبه وخرج منه فغدا هو ثوب من ريش وقد خرج من الثياب عشر بنات أبكار يفضحن بحسنهن بهجة الأقمار فلما تعرين من ثيابهن نزلن كلهن في البحيرة واغتسلن.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والأربعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن البنات لما نزلن كلهن في البحيرة واغتسلن وصرن يلعبن ويتمازحن، وصارت الطيرة الفائقة عليهن ترميهن وتغطسهن فيهربن منها ولا يقدرن أن يمددن أيديهن إليها، فلما نظرها حسن غاب عن صوابه وانسلب عقله وعرف أن البنات ما نهينه عن فتح هذا الباب، إلا لهذا السبب فشغف حسن بها حباً لما رأى حسنها وجمالها وقدها واعتدالها وهي في لعب ومزاج ومراشة بالماء، وحسن واقف ينظر إليهن ويتحسر حيث لم يكن معهن وقد حار عقله من حسن الجارية الكبيرة، وتعلق قلبه بمحبتها ووقع في شرك هواها والعين ناظرة وفي القلب نار محرقة والنفس أمارة بالسوء فبكى حسن شوقاً لحسنها وجمالها وانطلقت في قلبه النيران من أجلها، وزاد به لهيب لا يطفأ شرره وغرام لا يخفى أثره. ثم بعد ذلك طلعت البنات من تلك البحيرة، وحسن واقف ينظر إليهن وهن لا ينظرنه وهو يتعجب من حسنهن وجمالهن، ولطف معانيهن وظرف شمائلهن فحانت منه التفاتة، فنظر حسن إلى الجارية الكبيرة وهي عريانة فبان له ما بين فخذيها وهو قبة عظيمة مدورة بأربعة أركان كأنه طاسة من فضة أو بلور. فلما خرجن من الماء لبست كل واحدة ثيابها وحليها وأما الجارية الكبيرة فإنها لبست حلة خضراء ففاقت بجمالها ملاح الآفاق وزهت ببهجة وجهها على بدور الإشراق وفاقت على الغصون بحسن التثني وأذهلت العقول بوهم التمني.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسناً لما رأى البنات قد خرجن من البحيرة والكبيرة فيهن أخذت عقله بحسنها وجمالها، ثم إن البنات لما لبسن ثيابهن جلسن يتحدثن ويتضاحكن وحسن واقف ينظر إليهن. وهو غريق في بحر عشقه وتائه في وادي فكره، وهو يقول في نفسه والله ما أتعلق بإحداهن ثم إنه صار ينظر في محاسن هذه الجارية، وكانت أجمل ما خلق الله في وقتها وقد فاقت بحسنها جميع البشر لها فم كأنه خاتم سليمان وشعر أسود من الليل الصدود على الكئيب الولهان وغرة كهلال رمضان، وعيون تحاكي عيون الغزلان وأنف أقني كثير اللمعان وخدان كأنهما شقائق النعمان وشفتان كأنهما مرجان وأسنان كأنهما لؤلؤ منظوم في قلائد العقبان، وعنق كسبيكة فضة فوق قامة كغصن البان، وبطن طيات وأركان يبتهل فيها العاشق الولهان وسرة تسع أوقية مسك طيب الأردان، وأفخاذ غلاظ سمان كأنهما عواميد رخام، أو مخدتان محشوتان من ريش النعام وبينهما شيء كأنه أعظم العقبان وأرنب مقطوش الآذان وله سطوح وأركان هذه الصبية فاقت بحسنها وقدها على غصون البان وعلى قضيب الخيزران وهي كاملة.
ثم إن البنات لم يزلن في ضحك ولعب وهو واقف على قدميه ينظر إليهن ونسي الأكل والشرب إلى أن قرب العصر، فقالت الصبية لصواحبها يا بنات الملوك إن الوقت أمسى علينا وبلادنا بعيدة، ونحن قد سئمنا من المقام هنا فقمن لنروح محلنا فقامت كل واحدة منهن ولبست ثوبها الريش فلما اندرجن في ثيابهن صرن طيوراً كما كن أولاً وطرن كلهن سوية وتلك الصبية في وسطهن فيئس حسن منهن وأراد أن يقوم وينزل فلم يقدر أن يقوم وصار دمعه يجري على خده، ثم إن حسنا مشى قليلاً وهو لا يهتدي إلى الطريق حتى نزل إلى أسفل القصر ولم يزل يزحف إلى أن وصل إلى باب المخدع فدخل وأغلقه عليه واضطجع عليلاً لا يأكل ولا يشرب وهو غريق في بحر أفكاره فبكى وناح على نفسه إلى الصباح.
هامش
وفي الليلة الرابعة والأريعين بعد السبعمائة
في البداية كانت من الشفافية بحيث كانت تختلط بهواء الغرفة ولا تيبن , إحساسي بها كان مؤكدا وإن كان غير محدد الملامح والتفاصيل , أحس بثقل الهواء وانقباض يجثم علي صدري لعدة دقائق ثم يزول , انكشفت لي حين لاحظت أن مساحة صغيرة من هواء الغرفة تتحول إلى لون دخاني باهت , يتكاثف الدخان وينعقد ويبدأ في التحول إلى شكل سميك , تتنزل من سماء الغرفة في تهاد بطيء إلى أسفل قرب السرير الذي أتمدد عليه تخلع السربال الأسود الذي تتدثر به وتلقيه جانبا فيبدو عريها الشفاف في الضوء الرائق , يتخللها الضوء وينفذ في أجزائها , تتأملني في تفحص وبأصابعها الطويلة الدقيقة تتلمس جسدي في هدوء , وعندما تبدر مني حركة واهنة تسرع ممتطية الهواء إلى سماء الغرفة وهي تسحب أسفلها السربال الأسود , كالدخان تنسرب من فراغ الباب المنفرج إلى الخارج , فرح غامض يمتلكني أنني أستطيع أن أري ما لا يري , فرح يستفزني لأن أحلق بخيالي بعيدا , أنتظر تجليها طويلا , أبكي بكاء مرا حين يطول الانتظار , استعطفها أن تتجلي , أقع في متاهة معقدة تنتهي كل ممراتها إلي حوائط مشرعة .
في المرة الثانية لم أنتبه إلا علي وجودها المباغت وقد تخلصت من سربالها وتكالبت عليّ , كانت المرأة التي أعاشرها خارج الشقة وقد ران الصمت إلا من دقات الساعة ذات البندول الكبير يأتيني من البهو خافتا وهي راكدة كالضوء المختنق تستلم جسدي بيديها , بأصابعها الطويلة تمسد شعري ثم وجهي فرقبتي , في حركات دائرية تدلك الصدر والبطن في خفة حتى تستلم أفخاذي وقدمي , كنت كالمشلول أثناء ذلك إلا من حركة خافتة تند من عيني ولكنها لا تهتم فلم تعد نظراتي تفزعها ,أحاول أن أصرخ فيخرج الصوت ولا أسمعه فقد أوقفت موجات الهواء في فراغ الغرفة ,تظل اليدان الطويلتان تنداحان علي الجلد كالهواء البارد مرة بعد مرة, وعندما تدلكان البطن أحس ببرودة ثلجية قاسية , كنت أسأل نفسي طول الوقت عن إمكانية نجاحها , هل يمكنها أن تخرج من صدري كل النساء المدفونات فيه , يتحرك الباب الخارجي معلنا عن قدوم المرأة التي أعاشرها فتسرع في غير عجلة إلى السربال , تلتقطه بخفة وتفرش به الهواء أمامها ثم تنزلق داخله وهي راقية إلى أعلي , المرأة التي أعاشرها تفتح باب الغرفة وتراني في استسلامي علي الفراش , تلمحها تمرق من فوق رأسها خارجة فتمد أصابعها إلى أعلي وكأنها تريد لمسها وتهمس : إنني أراها , كم هي جميلة ! , عندما أواجهها بغضبي تتنمر في وجهي وتقول : نعم إنها تبعث فيّ ما خنقته لأعوام في داخلي , لو تمكنت من امتلاك سربال مثلها لاستطعت الطيران بعيدا عن عالمي المهيض .
كلما ثقل هواء الغرفة أو أحسست بانقباض كان الخوف يسيطر عليّ , عيناي الزائغتان تدوران في أرجاء الغرفة بحثا عنها وأنا التصق بالمرأة التي أعاشرها لأنها لا تتجلي في حضورها فتنظر إلىّ نظرة جوفاء وتهز رأسها وكأنها تخفف عني ثم تبتسم في غموض .
الماكرتان ! قلتها لنفسي وأنا أفتح عيني في ظلمة منتصف الليل فأري كل شيء في الغرفة ساكنا مستغرقا في هدوءه لا يعكر صفوه شيء إلا الضوء الخافت الآتي من مصباح صغير في البهو عبر زجاج باب الغرفة , وفجأة وكأنها تنسلخ من انعكاس الضوء الهادئ علي الأشياء تبدأ في الانكشاف , ترمي بالسربال فيتهاوي في الفراغ في خفة , تتنزل من أعلي علي المرأة التي أعاشرها الساكنة في نومها تتنفس بانتظام , تتداخل في جسدها نصف العاري في بطء حتى تختفي تماما , عندئذ تتلوي المرأة التي أعاشرها بجسدها في تباطئ ثقيل , تمد ذراعيها وتطوق بهما رقبتي , تنفتح عيناها بسعة غريبة ,يتهدل فكها , يتلون وجهها بحمرة قاتمة , تتصلب أطرافها الملتوية علي جسدي وعيناها ثابتتان علي بغيتها , ولأول مرة منذ عاشرتها تبدأ في الفعل دون أن أطلبه , تبدأ في التداخل في تموج ممقوت , وبعد أن تنتهيان وبعين مجهدة أراها تنسلخ منها في بطء فتتبدي في الضوء القليل متوهجة بالحمرة القانية تسبح أطرافها في الهواء الصامت وهي تتلفع السربال في سرعة وتمضي راقية , أما المرأة التي أعاشرها فتعود إلي نومها وعلي وجهها ترتسم ابتسامة نصر كبيرة .
ساهمة في صورتها الأخيرة تقبع المرأة التي أعاشرها , تذرع الشقة جيئة وذهابا , تنظر إلي ّ في تحد , ترتدي زينتها ثم تخلعها , تصرخ في وجهي أحيانا , تعود لارتداء زينتها وتهرع إلي الخارج , تعود صاخبة , تدفع باب غرفتي وتشملني بنظرة مخيفة بعد أن ترسم عينيها بالكحل , تلوح بيديها وتشيح بوجهها , تخلع ملابسها وترقص عارية , تتناول سيجارة من علبتي وتنفث الدخان في وجهي , تستلقي علي السرير جواري وتنام تحلم بها , أراقبها في صمت وأنا أفكر كيف أنهي حياتهما معا .
كان القرار وليد تفكير عميق , عندما انسلت هذه المرة كانت مسرعة ألقت السربال في نزق فتبدي بياضها الشفاف في خطوط الضوء المنسابة من خصاص النافدة , عندئذ وقبل أن تلمسني كنت أنزلق في سرعة وأرتمي فوق السربال و أجمعه إلي صدري , دربت نفسي كثيرا علي هذا الفعل في وحدتي حتي أستطيع تنفيذه عندما تتجلي , شلتها المفاجأة للحظات فجاء رد فعلها متأخرا , أسرعت تدفعني محاولة أن تمسك بطرف السربال , كان قلبي يدق في سرعة وأنا أسمع فحيحها المرعب , أعملت أظافرها الحادة وأسنانها الصلبة في كتفي وذراعي وأنا جاثم فوق السربال كالحجر, ظلت لوقت طويل تصارعني وتحاول رفعي من علي الأرض , ولكن كما لو كان ذلك السربال الذي يحملها في الهواء يشدني إلى الأرض فيساعدني علي المقاومة , عندما ظهرت المرأة التي أعاشرها وكانت قادمة من الخارج , ارتفعت محلقة , نظرت إليها مشدوهة ورفعت أصابعها تحاول لمسها وهي تتمتم : كم هي جميلة !! , مدت الأخري أصابعها لها تحاول لمسها ولكنها لم تتمكن في طيرانها المضطرب , نظرتْ إليّ في حنق , كانت منتفخة الوجه , شعثة الرأس , زائغة العينين . مرتعشة اليدين , تحلق كالفراشة الصغيرة التي لا تني تدور حول الضوء, تصطدم بالأشياء المتناثرة في الغرفة ثم تعود للطيران , عندما استطاعت أخيرا أن تهتدي لباب الغرفة الذي فتحته لها المرأة التي أعاشرها قليلا مدت لها أصابعها للمرة الأخيرة كي تلمسها بلا جدوي, ارتفعت إلى أعلي وانسحبت من أمام عينيها إلى الخارج حيث الشرفة المفتوحة بعرض الحائط , أسرعتُ إلى الموقد وألقيت السربال به وأشعلت فيه النار وجلست أراقبه متلذذا وهو يتحول إلي رماد .
صباح مساء عندما أفتح الشرفة أراها هناك في الأفق ,ثابتة كلوحة معلقة علي حائط تستر جزئها الأسفل بيد وباليد الأخرى تستر صدرها , الهواء يتلاعب بها وهي تنظر في رعب تجاهي , أستطيع الآن أن أري تفاصيلها بدقة عن ذي قبل عندما كانت تلم بالغرفة في جرأة وسرعة , أستطيع أن أتأمل لحمها الذي يذوب ويتساقط مزقا ,عينيها اللتين بدأتا في الضيق خوفا من الضوء , أسنانها البارزة بوحشية والتي تذكرني بأيامي الخوالي عندما كنت أقتلهن بلا رحمة, أما المرأة التي أعاشرها والتي جمعت رماد سربالها في وعاء صغير فقد كانت تطيل النظر إليها من خلفي تنتظر أن تشير عليها بشيء ما .
Scheherazade
كوكو