العندليب الصغير
انتقل إلي رحمة مولاه العندليب الصغير , سليل عائلة العنادل الشهيرة , ابن العندليب ....
كُتبت علي الجدران بألوان وأشكال مختلفة , ومنها ما كان معدا سلفا وتم لصقه علي أعمدة الإنارة والأشجار وأمام فرن الخبر وعلي واجهة المسجد.
بعد صلاة الظهر قطب رجل جبينه وهو يقرأ الإعلان وزمجر في غضب : من أراده بسوء قصمه الله , رد عليه رجل ملوحا بمسبحته : ألا لعنة الله والملائكة والناس عليه وعلي آله وعلي من اتبع سنته إلي يوم الدين .
كان ذلك خاتمة المطاف لاختفاء العندليب الصغير لا يُعثر له علي أثر , وقد فهمت بعض الحارات سر الملصقات ولكنها تكتمته ولم تفصح عنه للحارات التي لم تفهم , تلك الحارات العليمة هي التي رأت آخر المأساة حين شافت العندليب الصغير يفتح الشباك الغربي فينفجر النور , ويبزر منه العندليب بنحوله المعهود و يشيع فردوس بنظراته النارية وهي تهرع في الحارة في الساعة العاشرة وبعد الزفاف بساعة واحدة , بقميص نومها , ليس عليها ما يسترها غيره , وجسدها ملوث بالدم وسبابه يلاحقها , بعد خمس دقائق من الحادث , أغلق رجل أشداء الحارة والحارات المؤدية إليها وظلوا يبحثون عن العندليب دون جدوي .
قالت الحارات العليمة في سرها : : إنها آخر ورقة تلعب بها عائلة الفردوسي , أن يعتقد الناس أن ملصقات التأبين من صنع عائلة العنادل وهذا هو القضاء المبرم علي شعبية العندليب الصغير .
إلا أن ظهور العندليب الصغير في أحد الأفراح وترنمه بموال قديم أنشده أحد أجداده ويعتقد أنه الجد الرابع – ألفه أيام أن كانت عائلة الفردوسي تتحكم في الحي بيد من حديد , وقال : إن به رموزا لا يفهمها إلا اللبيب وحده- جعل الكثيرين من أهل الحارات غير العليمة يشكون فيمن كتب الملصقات , ثم اختفي العندليب فجأة كما ظهر فجأة , مفلتا من الفرح بأعجوبة بعد أن أحاط به رجال عائلة الفردوسي إحاطة السوار بالمعصم .
ومحاولة التكهن بمعرفة سر المأساة التي حدثت في تلك الليلة بين العندليب الصغير وفردوس الفردوسي يمكن أن تسهم بشكل مؤكد في معرفة طريق العندليب الأخير , تكهن قوم أن العندليب ضربها في لحظات النشوة الأخيرة حين أفرغ فيه نطفه التي تذاكروا بشأنها كثيرا , ودليلهم علي ذلك ما قيل أن صوت العندليب الصغير اخترق مسامع بعض الساهرين وكان متهدجا متقطع الأنفاس من لذة النشوة , وقالوا أن خطورة النطف أنها أودعت رحم فردوس لحظة الشدو البراق , ولمن ؟ , للعندليب الصغير ساحر العقول ومحير الألباب , فكيف يمكن أن يأتي الوليد ؟ , وللفائدة فقد كتب الجد الثاني للعندليب الصغير *1* بحثا طريفا في كيفية توريث الصفات بين الأجيال , وقد قارن في بحثه – وهذا هو الجديد – بين العائلات المفتوحة والعائلات المغلقة , وقال شارحا : إن العائلات المغلقة هي التي تنطوي فروجها علي نفسها وأن العائلات المفتوحة هي التي تتشابك فروجها في فروج عائلات أخري , ورأي أن العائلات المفتوحة هي التي تتقدم , ولذلك فإن مصير عائلته كعائلة مغلقة يمضي إلي الهاوية *2*.
وقد حاول الجد السادس للعندليب الصغير أن يصنع ما نجح حفيده الأخير – العندليب الصغير – فيه مع عائلة الفردوسي , فأثناء أحد الانتخابات وكانت الانتخابات أيامها تجري بالطريقة المباشرة القديمة من جلوس الرجال جميعا في ميقات واحد وعلي صعيد واحد وتصويتهم لمن يختارونه علانية - ذلك الزمان الطاهر النقي الذي لم يكن أحد يخشي فيه لومة لائم - , استغل العندليب الجد السادس هذا النقاء وحاول مصاهرة عائلة الفردوسي , فطلب يد فردوس البيضاء , ورغم أن الطلب كان مباشرا شأن كل شئ في هذا العهد إلا أن عائلة الفردوسي ظلت ثلاثة شهور تتفهم مقصده , بعدها تمت زيجة فردوس البيضاء علي مرشح عائلة الفردوسي الذي نجح في الانتخابات دون أن يكلفوا أنفسهم مؤونة الرد علي العندليب *3* .
من يومها صارت الانتخابات هي مظهر الصراع الفريد بين عائلة الفردوسي وعائلة العنادل , كل الضغائن والأحقاد والإحن الموروثة تستبقي لتندلع في مدة الانتخابات , وعندما يشتعل الصراع بين العائلتين تعرف الأجيال الجديدة ما لم تعشه من تاريخ العائلتين ولم يحكه لها أهلوهم .
والحق أن عائلة الفردوسي ما كانت ترشح في الانتخابات أحدا منهم أبدا , ولم يكسر هذه القاعدة سوي الفردوسي السائس , وهذه ليست مهنته بطبيعة الحال فعائلة الفردوسي لم تقم بالأعمال الخسيسة مطلقا , والفردوسي اللذيذ *4*, أما عائلة العنادل فلم تكسر القاعدة أبدا , كان مرشحهم في الانتخابات منهم , ذلك أنهم كانوا يشكون في مقدرة غيرهم علي الحلم بالمستقبل , ولم يجرؤ أحد منهم علي عدم خوض المعمعة حتي في أحلك عصور العائلة , والاستثناء الوحيد هو العندليب المتأمل , الذي رفض الدخول في اللعبة ورفض التنازل لواحد آخر من العائلة عن حقه في الترشح حسب الترتيب المعمول به في العائلة بهذا الشأن , وقرر في بساطة قاتلة دامغا تاريخ عائلته بالزيف أن الخيال للخيال والسلطة للسلطة *5* , وكما أن العندليب بالفردوسي يذكر فقد صال في الحي رفيق أوانه الفردوسي الجبار وجال دون أن يحتاج إلي أي جدال مع أحد , وغلت الأسعار وعمت الاضطرابات الهوجاء التي لم تعرف لها قائدا ولا فلسفة .
وكما يعتري النقص الأشياء تعتريها الزيادة , فقد أصر العندليب الفصيح علي عكس ذلك , وقصائده لا تحتاج إلي بيان , فقد نزلت إلي الدرك الأسفل من العامة , حتي منّ الوقت بالعندليب المحتال وهو الذي أجمع مؤرخو الحي علي أنه كان واسطة العقد في تاريخ عائلة العنادل المذهبي , وهو صانع المعميات الشهير , وكان زمانه زمن المعميات حقا وصدقا , فقد كان مكافحه هو الفردوسي المحتال , ولقب الإثنان باللقب الواحد لإظهار عمق ولع هذا العصر بالتفكير الواقعي القائم علي الدهاء والمخاتلة , وهو – العندليب المحتال – صائغ اللغز الشهير *6* , وقد صاغه صياغة بسيطة وصاغ حله معه فيما يشبه القانون الطبيعي , وتحدي الفردوسي المحتال أو أيا من صنائعه أن يحل اللغز ابتداء أو أن يعيد الإجابة إذا سمعها , والغريب أن الفردوسي المحتال الذي كان قد ألف كتابا في سياسة الناس فشل في الإجابة أو إذعاتها حال سماعها إلا أنه فعل ما يشبه المعجزة التي لم يفهمها سوي العندليب المحتال وحده دون جميع المشاهدين , ولسوء حظ العندليب المحتال أو لعدم قراءته لكتاب سياسة الناس فلم يرصد جائزة لحل اللغز أو الفشل في حله , وقد ضمن الفردوسي المحتال اللغز في كتابه كأنه من ابتكاره دون أن يعترض أحد من عائلة العنادل , فعندما أعلن العندليب المحتال اللغز وتحدي الفردوسي المحتال لحله أعلن الفردوسي المحتال فشله في حل اللغز فورا , وبينما كانت نتيجة الفوز بأصوات الناس في الانتخابات متوقفة علي إعلان العندليب المحتال لحل اللغز ثم قدرة الفردوسي المحتال علي إعادة الحل بنصه فإن الفردوسي المحتال قال : أيها الناس سوف أقول كلاما لا يفهمه سوف العندليب المحتال , فاحتج الناس أنهم يريدونه أن يعيد الكلام بنصه *7* , وعندما وافق العندليب المحتال واصفا مكافحه أنه صعّب علي نفسه المهمة , ورأي بعيني خياله كل أحلام عائلته تتحقق إثر فشل الفردوسي المحتال ونجاحه في الانتخابات , ولكنه أوجس خيفة عندما نظر الفردوسي المحتال في عينيه طويلا ثم أشاح عنه ووجه كلامه للناس : أيها الناس إن الملك كان يريد تولية صديقه , فقال العندليب المحتال : كيف ؟ , قال الفردوسي المحتال : إن اختيار الوزير معلق بكونه الأخير في الإجابة , هنا انشق قلب العندليب المحتال وسقط ميتا , وفاز مرشح الفردوسي المحتال في الانتخابات دون انتخابات واستفاد الفردوسي المحتال باللغز في كتابه كما قدمنا بعد أن ضمنه كهامش وعدل بعض الفصول .
أخذت بعض السلالات الضعيفة من عائلة العنادل تظهر وتختفي كفقاعات الهواء في الماء , دون محاولة جادة لتطوير تراث العندليب المحتال , حتي ظهر العندليب المشاكس وهو الذي استطاع أن يقوض جزءا كبيرا من تراث عائلة الفردوسي , ذلك أنه كان مشهورا بالمغامرات الخيالية إلي حد بعيد , وهو الذي يعزي إليه تطوير صناعة العنادل كلها دون فائدة تذكر , فقد ادعي هذا العندليب أن الحلم هو مركز العالم , وظل يحلم ويحلم , ويأتي بأفعال هي أقرب إلي الشذوذ , وكلما حاول الفردوسي الصانع أن يتعمق ويفهم أحلامه , جنحت صناعته إلي عدم الانتظام والفوضي والشذوذ , جراء تأثره بأحلام العندليب المشاكس , وقد كادت صناعته و تجارته أن تبور , ولكن لما ورثه من ذكاء الفردوسي في الاستثمار , فقد طلب من العندليب المشاكس أن يعرض أفكاره في ( مانيفستو ) , علي أن يتولي هو الإعلان عنها وتسويقها للجمهور , ولم يكن ذلك بطبيعة الحال حبا فيه وإنما لأنه كان يريد لتجارته أن تروج و كان العندليب المشاكس يظن أنه يسيطر عليه بطريقة غير مباشرة , فولج الفخ راضيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا , وظل شهورا يكافح حتي وهو مصاب بالملاريا حتي سلمه ( المانيفستو ) ثم اسلم الروح , وقد قاوم العندليب الابن أباه كثيرا في أفكاره إلا أن جهوده كللت بالفشل , فقد كانت عجلة الدنيا قد دارت دورة لا يمكن إعادتها للوراء , وما أن تسلم الفردوسي الصانع ( مانيفستو ) العندليب المشاكس حتي أسس شركة للإعلان استطاعت أن تنفذ ( بالمانيفستو ) إلي كل عقل , وبينما كان العندليب الابن يقاوم ويكتب ( مانيفستو ) مضادا كان ( مانيفستو ) أبيه ينتشر ومعه تجارة الفردوسي الصانع , وقد لقب هذا العندليب بالعندليب المجنون لأنه كان يقاوم ما لا يمكن مقاومته , وعندما ذاع لقبه , اضطر الفردوسي الصانع أن يطلق علي نفسه لقبا آخر هو الفردوسي العملاق *8* .
عند هذه النقطة تتضارب أخبار الرواة وتتشعب حول عائلة الفردوسي والعنادل , والعندليب الصغير وهو العندليب الشبح أيضا فيما بعد , ظل يظهر ويختفي لسنوات و لا يتمكن أحد من عائلة الفردوسي من القبض عليه .
كان الإيمان لدي عائلة العنادل لدي بزوغ العندليب الشبح حارا في تنشيط نظرية الجد الثاني للعائلة حول العائلات المفتوحة والعائلات المغلقة , واتفق ذلك مع خمول في نشاط المخ لدي عائلة الفردوسي , جعل العائلتين يتركان الحبل علي الغارب لمغازلة العندليب الصغير لفردوس الفردوسي حتي تمكن من إغواءها وهي سليلة عائلة الفردوسي - التي لا تنام لعائلة العنادل أبدا - بألحانه العذبة وصوته الدافئ فوقعت في حبائله , وكان هناك صراع يدور في الخفاء بين العائلتين , لدي عائلة الفردوسي أن ينشط الطفل القادم ذرية الفردوسي ويوقف خمول المخ الذي أصابهم في المدة الأخيرة ولم يجدوا له علاجا , ولدي عائلة العنادل بإيمانهم أن الغلبة سوف تكون لهم هذه المرة فيما لم ينجحوا فيه طوال تاريخهم , أن يتغلبوا علي عائلة الفردوسي بغزوها من داخلها , وراح كبار العائلتين وصغارهم يراهنون بعضهم في سرهم , كل واحد من العائلتين يختار له مراهنا من العائلة الأخري ويروح بخياله يزيد في قيمة الرهان كل فترة وينتهي إلي إحراز النصر , وكان خيال العندليب الصغير – الشبح فيما بعد – يؤكد له في كل لحظة أن الطفل لن يكون فردوسيا أبدا بل عندليب ابن عندليب , وقد اختار له اسما ولقبا في خياله وإن لم يفصح به , ولم تطل مدة الخطبة سوي ساعات , وكرهت العائلتان أن يكون فراش الزوجية في بيت عندليب أو فردوسي - وهذا هو ما مرت فيه ساعات الخطوبة – وأخيرا ارتضت أن يكون الفراش لا عندليبيا ولا فردوسيا , وأوصي الجد – العندليب الخبيث – حفيده الذي مات أبوه في طفولته بالحديث المعروف : إذا غلب ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلي أبيه و وإذا غلب ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلي أخواله , وعرفه الطريقة الصحيحة لكيفية غلبة مائه لماء فردوس الفردوسي , ولذلك كثر اللغط حول ما دار في فراش الزوجية في تلك الليلة الأولي التي لم تدم سوي ساعة , وهل استطاع العندليب الصغير أن يتغلب علي مخاوفه ويقاوم جموح جسد فردوس الفردوسي الساحر, وجمالها الذي يغشي الأبصار !, وهل استطاعت فردوس الفردوسي - والتي حفظوها نفس الحديث المعروف عن ظهر قلب - أن تحفظ الحديث عندما تكون تحت العندليب وتقاوم ألم تمزق الحاجز الأنثوي الرقيق الذي يفصلها عن عالم النساء الخبيرات ! , واختتم اللغط من الجميع بآهة ملتاعة شخصت حيرتهم من معرفة ما تم بينهما , وقد دخل كثير من خبراء العائلتين إلي مخدع الزوجية باعتبار أن المكان ليس مملوكا لأي من العائلتين وحاولوا استجلاء السر يكل فنونهم , إلا أن مهارة عائلة الفردوسي وخيال عائلة العنادل لم يكشفا اللثام عن حقيقة تلك الساعة وسر المشاحنة وما أعقبها من مأساة , ذلك أن فردوس فقدت عذريتها وفقدت النطق معها وتهيم علي وجهها في أركان منزلهم الكبير تحمل السر والنطفة معا , بينما لا يستطيع أحد أن يتحدث مع العندليب الشبح - الذي تحول إلي شبح فعلا - خوفا من نظرة الكراهية التي تطل من عينيه فهي مازالت زوجته حتي هذه اللحظة , وإن كانت القيود المعدنية التي تغل الأصابع قد نزعت .
كان العندليب يختفي لأسابيع ثم يظهر في أحد الأفراح مترنما بموال أو ليلية ثم يحتسي زجاجة ( بيرة ) ويلتهم بضعة أنفاس من ( جوزة ) أحد الساهرين ويقدم ( النقوط ) باسم كل العنادل ثم يختفي كخيط دخان في زوايا الحي , وأحيانا ما كان يصعد إلي مسرح الفرح راقصا في بهجة , إلا أنه أحيانا ما شوهد مكتئبا كثير التفكير , وقد قابله مرة أحد العنادل فأمسك بتلابيبه وسأله عما سيفعل في الانتخابات القادمة وأنه يمكن أن يدبر له طريقة يمكن أن يرشح بها نفسه دون أن يظهر , فقال له : إنني مشغول بهم أكبر , وعندما ألح عليه في السؤال عن هذا الهم لم يجب سوي بكلمة واحدة : الطفل , حاول أن يستفسر عما دار في تلك الليلة فاختفي من أمامه فجأة وتحول إلي خيط الدخان المعهود .
وقال قوم من الناحية الشرقية في الحارة إن بعض أهل البيوت القريبة من مخدع الزوجية ذكروا أن ما سُمع كان ضجة صراع العندليب الصغير مع فردوس التي فهمت خطأ أن معني الحديث المعروف أن تعتلي جسد العندليب أو أن يسبق ماؤها ماءه , وأن صوت الشدو الذي قيل أنه حدث أثناء لحظة النشوة المزعومة , إنما كان صوت عندليب آخر كان يتخيل بملكة الخيال التي فاجأته صغيرا- ولما يتمكن من ترويضها بعد – نفسه مكان العندليب الصغير لحظة قذف نطفته .
ويبدو أن فردوس الفردوسي آثرت أن تتحول هي الأخري إلي شبح فقد اختفت فجأة من منزل عائلتها بعد أن قرأت في عيون عائلة الفردوسي اتجاهها إلي الحل المعتاد في عصرنا , أن تجهض فردوس خوفا من حدوث ما لا يحمد عقباه , فحين احتكت امرأة من العائلة ببطنها في غلظة ورأت في عينيها نظرة الغدر وقع قلبها في قدميها وجلست في مكانها برهة تتفكر وهي ممسكة ببطنها وشيئا فشيئا راح النحول يعتريها حتي اختفت تماما وتحولت إلي فردوس الشبح .
وقد يريان أحيانا يلتقيان – فردوس الفردوسي الشبح والعندليب الصغير الشبح – لاسيما وهما شبحان ولكن لا أحد يعرف ما الذي يدور بينهما .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*1* لن نتكلم كثيرا عن الجد الأول للعندليب الصغير , وهو العندليب الكبير وسنكتفي هنا بأن نقول أنه من قعد القواعد وأصل الأصول ورسم ببساطة قاتلة الطريق الطويل الذي يجب علي عائلته أن تقطعه , أما العندليب الثاني فقد مرت حياته كحياة ملاك , والكثيرون يشعرون بالرعشة المقدسة لمجرد التفوه باسمه , وآخرون يصيبهم ما يصيب الصوفية من الأحوال والتجليات حين يتذاكرون سيرته , رغم أن عائلة الفردوسي قالت في الانتخابات الأخيرة أن العندليب الثاني عاش حياته الأولي كزير نساء لطيف , ودللوا علي ذلك بسفره إلي الخارج مدعيا أنه رحالة يدرس الأجناس ويتعرف علي أحوال وطبائع البشر , ثم إعلانه بعد العودة أنه لن يسمح لامرأة أن تلمس ردائه وقالوا أن هذه رغبة طهرانية جاءت كرد فعل قوي للدنس الذي أصابه في بلاد الفرنجة , والحق أن هذه التحليلات القوية ما كانت تتفق مع قرائح عائلة الفردوسي , فشك بعضهم أن يكون العنادل والفردوسي متحدين في أصل العائلة ثم افترقا , أو أن أحد العنادل قد اندس خلسة في أحد أصلاب عائلة الفردوسي في زمن لا نعلمه فظهرت تلك النجابة في القول .
*2* استفاد الفردوسي ( ( الرهوان ) ) معاصره من بحثه ولم يستفد هو منه , فقد تزوج بامرأة من أولاد عمومته أنجب منها ثلاثة ذكور أكبرهم العندليب الأصلع وأوسطهم العندليب الملطخ وأصغرهم العندليب الهامس , مات العندليب الأصلع بعد ولادته بشهر ولما ينم شعره , أما العندليب الملطخ فقد نزف دمه تحت قدمي قواد كان العندليب الملطخ قد هام حبا بامرأة له , وكأنما نبؤة العندليب الثاني تتحقق فقد عاش العندليب الهامس في همس , أما الفردوسي ( ( الرهوان ) ) فقد كان تحته أربع نسوان , أنجب منهن سبعة عشر ذكرا وثمان إناث , الأولي من عائلة الصائغ والثانية من عائلة الحريري والثالثة من عائلة الجزار والرابعة من عائلة الصيرفي , وتسري في آخر حياته بطفلة في الرابعة عشرة من عمرها أنجب منها القمر فردوس, وهي جدة فردوس الفردوسي .
*3* تشاجر زوج فردوس البيضاء بعدها مع العندليب السادس في مقهي النيل , وفي لحظة سكر كشف له عن عورته ليريه مدي طولها وكأنه يشفي غليله منه أنه لم يعطه صوته في الانتخابات العلنية وأعطاه لابن خالته العندليب الطيب , وقال له بالحرف الواحد : هذا هو ما يمتع فردوس البيضاء, وليس صهيلك الجاف .
*4* الأول نظر في أسماء المرشحين فلم يجد اسما يستطيع تحقيق سياسة عائلته فقرر أن ينفذها بنفسه , فدخل الانتخابات , والفردوسي اللذيذ كان مولعا بجمع طريف الملذات وتليدها فقرر أن يضيف إلي ملذاته السلطة السياسية , وقد حاول - فيما يقال - أن يفوز أيضا باللذة الوحيدة التي تحتكرها عائلة العنادل – لذة الخيال - , ولكنه أنفق الكثير في شراء الكتب والمخطوطات وعكف عليها شهورا فلم يفز بطائل , بينما كان العندليب الصعلوك رفيق عصره يرفل في لذة الخيال دون أن يقرأ ورقة واحدة . فقط كان يجلس في الحارات يشاهد المعارك اليومية الصغيرة وقد يشترك فيها , - وقد أورث العندليب المشوه بضعة ندوب- , ويسكر في الحانات ويمارس العهر , ثم ينطلق بأهازيجه دون تأمل يذكر وفي ارتجال بديع شهد له به معاصروه من السامعين .
*5* وسمي حجرته علي سطح بيت العائلة الرئيسي بالبرج العاجي , وكان يرفض الحديث مع العامة بلغتهم العامية ضاربا عرض الحائط بتقاليد عائلته , وقد أزال العندليب الفصيح هذه الحجرة – فيما بعد- وأحرق كل محتوياتها بطريقة سرية في محاولة يائسة لإنكار وجود هذا العندليب في تاريخ العائلة .
*6*قيل أن ملكا أراد أن يعين وزيرا له , ولما كان الملك يحب رضاء شعبه في المنشط والمكره , فقد نادي في الناس أن ذلك سوف يتم بالانتخاب , فلما أفرزت الانتخابات ثلاثة وزراء تساووا في عدد الأصوات وكان منهم صديق أثير للملك قرر الملك أن يصطنع لغزا يفوز من يحله بالوزارة , أحضر الملك خمس قلنسوات صغيرة , ثلاثا بيضاء واثنين حمراوين , وفي الظلام ألبس كل مرشح قلنسوة بيضاء , ثم أشعل الأنوار وسأل الأول : ما لون قلنسوتك فنظر إلي الاثنين الأخريين فوجدهما بيضاوين , فأجاب : لا أدري , ثم سأل الثاني , فنظر نظرة الأول وأجاب : لا أدري , ثم سأل صديقه , فأجاب في يقين : بيضاء , جلالة الملك .
وكانت المعادلة الملخصة للغز هكذا : 5 ق / 3 و م = و* , حيث ( ق) قلنسوة ,( و م) وزير مرشح , ( و* ) وزير حقيقي .
*7* والحق أن هذا العصر شهد كثيرا من الببغاوات الذين يستطيعون أن يعيدوا الكلام بنصه دون إعمال فكر وقد حفظوا حل العندليب المحتال رغم صعوبته لعدم تنوع كلمات الحل فهي إما بيضاء أو حمراء وهذا يثير في العقل ملكة النسيان .
*8* وقد مات العندليب المجنون غرقا ولا يذكره أحد بخير لاسيما وأنه لعن أباه وأحلامه ولعن مصانع الفردوسي العملاق وكان السبب في هزيمة عائلته لأنه دخل في صراع جانبي مع عائلته نفسها ولذلك آثر تاريخ العائلة ألا يذكره , رغم أن العندليب الصغير يصر دائما أن التاريخ غير دقيق حول هذه النقطة وأن العندليب المشاكس كان نتيجة للفردوسي العملاق , وأن الفردوسي كان لقبه العملاق منذ ولادته وأنه لم يجر جده إلي أي فخ , وأن جده كان مرآة لظروف زمانه .
أحمد عبد الهادي
Nightingale
كوكو