طريف سردست
" الحقيقة ليست الا اشباح الخيال" بلوتو، فيلسوف اغريقي
تجربة
هل الكون مسطح (ثنائي الابعاد) والصورة التي نراها هي هولوغرام؟
نظرية جديدة في علم فيزياء الفلك في طريقها لتقلب الاوراق، إذ ان العديد من المؤشرات تقدم دلائل على ان مانراه من الكون هو مجرد إنعكاس صورة عن سطح تماما مثل الصورة الثلاثية الابعاد التي نراها مطبوعة على سطح في جواز السفر او بطاقة الدفع الالي. هذا الاستنتاج توصل اليه الفيزيائي الشهير ستيفان هاوكين بعد دراسته للثقوب السوداء.
لو صحت هذه النظرية فذلك سيعني ان الطاولة امامك وفنجان قهوتك لايبدون لك كما هم في حقيقتهم إذ ان جميع الابعاد الثلاثية نابعة من سطح، تماما كما في الصورة المعدنية البراقة على جواز السفر، التي تراها وكأنها خارجة من اطارها. مسألة ان الكون هلوجرامي ليس بقضية جديدة إذ ان ذلك الاقتراح جاء لاول مرة في تسعينات القرن الماضي من قبل العالمين Leonard Susskind and Gerard Hooft.
في البداية لاشك ان هذه المقولة ستبدو لك بلهاء وغبية وجنون علماء. غير ان هذه النظرية قادرة ان تحل مشكلة عويصة في الفيزياء وبالذات التعارض مع احد قوانين الفيزياء الاساسية الذي يقول ان محتويات الكون من المعلومات ابدية ولاتفنى.
المعلومات يمكن ان تكون حدث ما او وجود شئ ما او الضوء، وعلى الرغم من انها تنحل او تتحرك او تنتشر، يجب ان يكون بالامكان على الدوام استعادتها. غير ان بعض الاشياء شكلت معضلة نظرية وبالذات الثقوب السوداء الكونية. إذا لم تكن الثقوب السوداء هولوغرام فإنها لاتسير على القاعدة اعلاه. غير ان الحسابات اظهرت ان الثقوب السوداء لايمكن ان تكون هولوغرام إذا لم يكن الكون كوحدة كاملة هولوغرام ايضا. هذا هو الذي شكل قاعدة انطلاق النظرية.
اليوم اصبح "مفاهيم المعلوماتية" مجالا لدراسات عميقة وواسعة والنظرية الفيزيائية في هذا المجال متقدمة بالتعقيد الرياضي بما لايقل عن مستوى نظرية حفظ الطاقة. كيفية قيام الاشياء بحفظ المعلومة وتبادلها مسألة في غاية الاهمية لكون المعلومة هي التي تعطي الشئ ماهيته وظيفيا ووجوديا.
في البداية سيكون من الصعب علينا تقبل مبدأ حفظ المعلومة. لو اخذنا مثلا اسطوانة سي دي ممتلئة بالموسيقى وحطمناها بالمطرقة الى آلالاف الشظايا قد يبدو للبعض ان ذلك يعني ان المعلومات الكودية قد ضاعت للابد. غير ان ذلك ليس صحيحا. في الواقع ان الحدث جرى نحته في الضوء الذي غادر المكان بسرعة 300000 كيلومتر في الثانية. إذا قامت كائنات ذكية في مكان ما بالكون الخارجي بتوجيه تليسكوب هائل تجاه الارض بالضبط في الوقت المناسب ، من حيث المبدأ سيكونوا قادرين على دراسة مذبحة السي دي في ادق تفاصيلها الى الحد الذي يسمح لهم بإعادة انتاج السي دي " المفقودة".
غير ان السي دي سيتغير سلوكها لو فُقدت في ثقب اسود. حقل الجاذبية في الثقب الاسود من القوة بحيث ان قوانين الفيزياء لم تعد تستطيع ان تخبرنا بالمكان الذي ذهبت اليه المعلومات، بحيث يظهر لنا وكأن جميع المعلومات قد اختفت.
منذ سبعينات القرن الماضي وضع العالم الفذ ستيفان هاوكينغ من جامعة كامبريدج حل محتمل للمشكلة يقول: كل مرة يقوم الثقب الاسود بإبتلاع شئ يزداد توسعا مايسمى بمنطقة افق الحدث حول مركز الثقب الاسود وبالذات بداية المنطقة التي يفقد بعدها الضوء القدرة على المغادرة . تفسير هاوكينز ان المنطقة تتوسع لكون معلومات الشئ الذي جرى ابتلاعه تبقى متتداولة فيها. ذلك يعني ان افق الحدث يحمل جميع المعلومات عن محتويات الثقب الاسود.
بمعنى اخر فإن افق الحدث هو سطح وبالتالي يمكن إعتباره هلوغرام. هاوكينغ وبالتعاون مع زملاء له تمكن من البرهنة على ان المعلومات موجودة في افق الحدث بكثافة تصل الى 1033 على السنتمتر الواحد. ذلك يعني ان كمية المعلومات على ميلليمتر مربع واحد من الثقب الاسود اكبر بمقدار سنتيليونير (واحد يتبعه 303 صفر، حسب المعايير الامريكية، واحد يتبعه 600 صفر حسب المعايير الاوروبية وهو المعني في موضوعنا) مرة من جميع المعلومات الموجودة على جميع انواع الهارديسك في عالمنا الارضي بأسره.
لو اعتبرنا ان الثقب الاسود هو الجسم الكوني الوحيد القادر على حفظ المعلومات على سطح سيكون لدينا معضلة. لنفترض ان لدينا عدد هائل من المكعبات وعلى كل جهة حرف واحد. لنجمع ثمانية مكعبات الى بعضها فيصبح لدينا مكعب اكبر بمقدار الضعف في كل خط. المكعب الجديد يملك احرفا اكثر بثمانية مرات بالمقارنة مع مكعب صغير واحد. غير اننا نرى ان السطح اكبر باربع مرات فقط. وإذا قررنا ان جميع الاحرف الموجودة على مجموع المكعبات يجب كتابتها على سطح المكعب المزدوج سيكون من حصة كل حرف نصف المساحة المتاحة له في المكعب الواحد. وإذا استمرينا في إضافة المكعبات بنفس الطريقة سيصبح المكان المتاح لكل حرف على السطح اصفر فأصغر وفي النهاية سيكون صغير الى اللانهاية. غير ان ذلك مستحيل لعدم وجود من يستطيع ضغط المعلومات الى كثافة اعلى مما يفعل الثقب الاسود.
بذلك نكون وصلنا الى معضلة سببها الفرق بين الهندسة التي تستخدم لوصف الثقب الاسود كجسم وبين الهندسة التي تستخدم لبقية الاشياء الاخرى. وإذا لم تكن الفيزياء المستخدم لوصف الثقوب السوداء هو الخطأ فإن المعضلة لايمكن حلها إلا بطريقتين. إما ان مجمع المُكعبات المتراكمة سيصل الى لحظة ينهار فيها الى ثقب اسود، قبل ان يصل الى الحدود التي تؤدي الى ضياع المعلومات، او ان كوننا بأسره له خواص هولوغرام. بمعنى اخر فإن الثقب الاسود يمكن ان يكون هلوغرام إذا كان الكون بأسره هلوغرام.
غير ان النظرية شئ والبرهنة عليها في العلوم التطبيقية شئ اخر. من اجل تحقيق البرهان استخدم العلماء خصائص مادية اشار الى وجودها في الثقوب السوداء العالم هاوكينغ وبالذات مااصبح يسمى اشعة هاوكينغ .
قسم من هذه الاشعاعات تتكون من جزيئات زوجية خاصة تنشأ على الدوام في الكون. عادة يختفي هذان الزوجان فقط عند التحامهم ولكن قرب ثقب اسود لهم سلوك مختلف. إذا جرى جذب احدهم الى الثقب الاسود فإن الثاني ينقذف مبتعدا بسرعة عالية. وبالذات بفضل هذه الخسارة البطيئة في الطاقة سينتهي الامر بالثقب الاسود ان ينضب بعد 1070 سنة. لذلك فإن اشعة هاوكينغ القادمة من ثقب اسود ستكون حاوية على المعلومات التامة عن جميع محتويات الثقب الاسود على مدى عمره. غير ان إمكانية ملاحظة اشعة هاوكينغ من اقرب الثقوب الينا امر غاية في الضآلة لكونها تغرق في الانواع الاخرى من الاشعاعات التي تملئ الكون. من اجل البرهنة على وجود الاشعاع لابد من انتاج ثقب اسود في المختبر.
المُسرع الاوروبي هو المطلوب منه البرهنة على النظرية، ومن خلال الانفجارات يأمل الخبراء في خلق كثافة تصل الى مستوى يكفي ليكون ثقب اسود. الثقب سيكون صغير للغاية ولايزيد عن بضعة مئات من البروتون ولكنها كافية. ولكونه صغير سيتبخر بسرعة وبالتالي يمكن ملاحظة انفصال الازواج . إذا كانت الاشعاعات تحتوي على المعلومات عن اصل الجزيئات الداخلة في التفاعل وطاقتها والسبين وبقية الخصائص يكفي ذلك ليؤكد الفرضية عن حفظ المعلوماتية.
لازلنا غير قادرين على تصور المكان والمادة الذي سيبنى عليهم فيزياء المستقبل ، إذ ان المسافة بين المعلومات على سطح ثقب اسود تعادل تريليون مرة اصغر من قطر البروتون. وهذا القياس يعادل بالضبط مسافة اصغر حجر بناء في الكون المسمى الوتر الفائق، والذي وضع الاساس لقيام فرع جديد في العلوم الطبيعية.
العديد من الدلائل تشير الى ان نظرية الاوتار الفائقة تحمل سمات هولوجرامية. منذ عام 1998 تمكن عالم الرياضيات Juan Maldacena من البرهنة رياضيا على ان الثقب الاسود يمكن بناءه فقط من الاوتار الفائقة. حساباته جرى بناءها في عالم افتراضي خماسي الابعاد والنتائج التي قدمها ادهشت زملائه إذ ظهر بنتيجتها ان الثقب الاسود في جوهره هلوجرام.
الدراسات التي تقوم انطلاقا من ان حجر بناء الثقب الاسود هي الاوتار الفائقة على قدم وساق. حسب الحسابات تغطي الاوتار الفائقة الثقب الاسود بكامل مساحته. لهذا السبب يظهر الثقب وكأنه لفة خيوط ممزقة وليس ككرة، غير ان المعلومات تقف في خط منتظم.
هذا الموديل مثير للاهتمام لانه يفسر ايضا اسباب انبعاث اشعاعات هوكينغ. إذا هبطت الاوتار الفائقة الى مستوى طاقة اقل فإن الفائض يقذف للخارج على شكل اشعة بالتنظيم المعلوماتي الصحيح. بذلك تكون الاوتار الفائقة مثل الاليكترونات حول نواة الذرة كلاهما يصدر عنهما ضوء مميز في كل مرة يتقدمان بإتجاه نواة الذرة.
لازال الموديل النهائي تحت الدراسة ويتوقع اعلان جوانبه في السنوات القليلة القادمة. إذا كان المكان الكوني ليس غرفة (في ابعاده) وانما منبسط الابعاد عندها ستكون قوانين الفيزياء المستخدمة مختلفة. في الهلوجرام لن يكون مفهومان الزمان والمكان منفصلين ومن المحتمل ان الماضي والحاضر والمستقبل لايأتون على التوالي وانما يمكن وجودهم في وقت واحد. عندها ستحتوي الهلوجرام على تاريخ الكون ماضيه، حاضره ومستقبله. ذلك يعني اننا قادرين على جعله يكشف اسراره إذا امتلكنا الادوات المناسبة، لذلك تقوم المانيا الان بتطوير وسيلة تسمى GEO 600 تعمل على تحويل الهلوجرام الى صورة " واقعية" بالمعنى الرائج للكلمة.
ولكن كيف نكذب عيوننا واحاسيسنا التي تقول ان العالم ثلاثي الابعاد؟ عالم فيزيولوجيا الاعصاب Karl Pribram, مؤسس مركز تجارب الدماغ في فيرجينيا يشير الى ان الدماغ بذاته هلوجرام يقوم بتفسير الهلوجرام الكوني. الدماغ يقوم بتتبع خطوات رياضية لاعادة بناء المعطيات الداخلة على موجتها ليصدر عنه الصورة المبنية للعالم الخارجي على الموجة نفسها متجاوزا حدود المكان والزمان.
بعض العلماء الذين يدافعون عن هذه النظرية يشيرون الى ان الثغرة مابين فيزياء الكم وفيزياء النظرية النسبية يوازي ظاهرة كون الدماغ ليس مرتبطا بالاحاسيس في قضايا لم يمكن معالجتها مثل معايشة ماقبل الموت او القدرة على قراءة الافكار عن بعد او الاستلهام وقراءة المستقبل.
بذلك يكون الفيلسوف الاغريقي بلاتو اول من توصل الى ذلك عندما قال في كتابه " الدولة": " الحقيقة ليست إلا اشباح الخيال".
Holographic Universe (Part 1)