الثورة و القطيعة الأيديولوجية .
( هذه المداخلة سبق نشرها في نادي الفكر أول مايو 2011 )
كثيرا ما أجدني مضطرا للتوقف لبعض الوقت خلال الموضوعات التي أطرحها عن الثورة المصرية ، هنا لا أتناول مادة صلبة محددة المعالم ،و لكن مادتنا رخوة يعاد تشكيلها في كل يوم . هذه أيضا ليست موضوعات نظريا ، و لكنها موضوعات تتعلق بحاضر مصر و مستقبلها ، بما يعني أننا كمصريين و كعرب جزء من الموضوع . أفكر في هذا هذه الموضوعات ليس كما أفكر للآخرين ببرود المراقب بل كما أفكر لأسرتي بعواطف المشفق المحب . أبعد من ذلك فكلما رادودتني فكرة سبق أن فكرت فيها استبعدها على الفور ، فلو كنا أذكياء كما نعتقد ما بقينا 30 سنة بل أبعد من ذلك 60 سنة تحت حكم استبدادي يبدد حياتنا هباءا . فلا يمكن بناء الأمم بنفس الأفكار التي هدمتها ، كذلك لا يمكن تأسيس المستقبل الواسع على أحلام صغيرة .
علينا إذا أن نبحث عميقا و نحفر في ذاكرتنا الحضارية إلى أبعد ما نستطيع ، علينا أيضا أن نبحث حولنا عن نماذج مشابهة لما نمر به كي نستأنس بها في محاولة استشراف المستقبل . إن دورنا كمثقفين مصريين ليس محصورا في مساعدة المصريين على بناء مستقبلهم ، بل الإسهام مع أصدقائنا العرب المستنيرين في استشراف و من ثم صنع المستقبل العربي الحر الجدير بنا . أشعر أيضا أن دور المثقف ليس مقصورآ على بيئته المحلية ، بل هو دور عالمي ، يحدونا في ذلك المبدأ القائل " أن تفكر عالميا و تعمل محليآ " .
خلال هذا الشريط سأحاول أن أبحث عن تجارب ثورية مشابهة لما نمر به في مصر و تونس ، كذلك ما يمكن أن تسفر عليه الإنتفاضة السورية المتصاعدة ، معتقدآ أن اليمن و ليبيا هي حالات ثورية مختلفة من حيث الطبيعة و التداعيات . فالدول الثلاث الأولى ( مصر و تونس وسوريا ) تمتلك هياكل الدولة المعاصرة ،و لكنها تفتقد محتواها بالطبع ، أما ليبيا و اليمن فلا تمتلكان هياكل الدولة الحديثة ،و كلاهما يعيش سياسيا في مرحلة بين العصور الوسطى و العصر الحديث .
نتيجة نقص الثقافة و الرؤية السياسيتين بين المعلقين السياسيين العرب و ما أكثرهم و أندرهم أيضا ، كثيرا ما نقارن الحالات الثورية العربية المعاصرة بالثورات التاريخية الكبرى ، مثال ذلك الثورة الفرنسية 1789 ،و البلشفية 1917 ،و الإسلامية الشيعية في 1979 . وهناك من يقارن تلك الإنتفاضات الثورية العربية بالثورات ضد الأنظمة الشيوعية التي اجتاحت أوروبا الشرقية بما في ذلك الإتحاد السوفيتي خلال عقد التسعينات من القرن 20 ، تشيكوسلوفاكيا و بولندا ورومانيا و المجر عام 1989 ، ألمانيا الشرقية ، بلغاريا ، و ليتوانيا 1990 ، ألبانيا ، استونيا ،لاتفيا ، عام 1991 .الإتحاد السوفيتي في 26 ديسمبر 1991 .
هناك قلة من المعلقين فطنوا إلى وجود تشابه ملموس بين الإنتفاضات العربية و الثورات الديمقراطية الجديدة في أوروبا الشرقية السابقة ، و التي اندلعت في صربيا 2000 ، جورجيا 2003 ، أوكرانيا 2004 ، قيرغزستان 2005 و 2010، كما أحبطت في بيلوروسيا و أذربيجان . هناك عدد من العناصر المشتركة بين الثورات العربية و تلك الثورات الديمقراطية أهمها .
1- الطابع الشبابي لتلك الثورات ، فكلها بدأت كإنتفاضة شبابية سرعان ما انضم إليها الشعب للتحول إلى ثورة شاملة . و يمكننا أن نقارن بين حركات مثل " شباب 6 إبريل " و " شباب من أجل العدالة و الحرية " و " حركة كفاية " في المقابل هناك حركات مشابهة مثل " أوتيور " في صربيا ،و " كمارا " في جورجيا ،و " بورا " في قيرغزستان .
2- الطابع السلمي لتلك الثورات .
3- التوسع في استخدام المنتجات التكنولوجية الحديثة ، الموبيلات في بدايات القرن ،و شبكة التواصل الإجتماعية ( الفيس بوك و التويتر ) في الحالتين المصرية و التونسية ،و أيضا في مولدافيا عام 2009 م .
4- السيولة التنظيمية و افتقاد الكيان السياسي المتماسك و القيادات ذات الكاريزما . و بالتالي لم تتكمن تلك الحركات السياسية من تنظيم حزب كبير قوي يعبر عن أهداف الثورة ،و كان هذا سببا في ارتباك تلك الثورات ، و بالتالي تعثر التحول الديمقراطي . و لعل من الجدير بالتأمل أن الثورة البرتقالية في أوكرانيا ضد الرئيس " يانكوفيتش " التي ألهمت الجميع ، قد انتهت بعودة نفس الرئيس " يانكوفيتش " إلى الحكم نتيجة انتخابات ديمقراطية حرة تمت عام 2010 أي بعد 6 سنوات من الثورة الشعبية ضده !. أما حركة " كمارا " أو " كفاية " الجورجية ، فقد ذابت في تكتل شمولي أقامه الرئيس الجورجي " سكاشفيللي " ، لتعيد إنتاج نفس النظام الشمولي الذي ثارت ضده .
5- عدم وجود قطيعة أيديولوجية مع النظام الذي ثارت ضده ، نتيجة أنها ثورات ديمقراطية بلا عقائد أيديولوجية مخالفة .وهذا الأمر يختلف كلية عن الثورات التاريخية السابقة ، سواء الثورة البلشفية أو الثورة الإسلامية ، و أيضا ثورات أوروبا الشرقية في التسعينات من القرن الماضي ضد الشيوعية .
قياسا على الإنتفاضات المناظرة يمكن أن نتوقع :
1- يمكن أن تؤدي الإنتفاضات الثورية الديمقراطية إلى تغيرات سياسية أساسية ، و لكنها لن تؤدي إلى تغيرات إجتماعية أو اقتصادية كبيرة لغياب البعد الأيديولوجي .
2- وجود تداخل بين النظامين ماقبل الثورة و ما بعدها ، و استمرار عدد كبير من الشخصيات السياسية متصدرة الواجهة السياسية . و في أسوأ الحالات يمكن للثورة إعادة إنتاج النظام السابق بوجوه جديدة .
3- إمكانية عودة النظام الذي تم اسقاطه – ديموقراطيا - مع بعض التعديلات الشكلية غالبا .
4- لن يمكن للقوى الثورية الآن ولا في المستقبل تنظيم نفسها في كيان سياسي واحد ، فأهداف مثل هذه الثورات الديمقراطية هي مجرد اسقاط النظام دون إمتلاك رؤية محددة لكيفة بناء نظام جديد ، وبالتالي فأهداف الثورة تتحقق بمجرد اسقاط النظام ، و سيترك واجب إقامة النظام الجديد للقوى القديمة التي يمكنها النجاة بنفسها من مقصلة الثورة .
5- نتيجة غياب القيادة المسيطرة على الحركة الثورية فستكون الفوضى بديلآ قائما و بفرص عالية جدا ، نتيجة استمرار الحالة الثورية بلا نهاية . الآن تظهر ثقافة التغيير عن طريق الحشد و التجيش بحيث يصبحان فنا قائما بذاته ، و تختفي و تشحب سلطة القانون و النظام ، خاصة في مجتمعات فقيرة حديثة العهد بالحرية ، تفتقد التقاليد الثقافية التي تجعل من النظام غريزة جماهيرية .
6- الثورات القديمة كانت تعرف متى تتوقف لتصبح نظاما نتيجة وجود القيادة الحاكمة ، أما الآن فسيكون التثاقل الذاتي و عودة السلطات القديمة وحدهما ما يمكن أن يوقف الفوضى .