سأل العزيز / مينا
عن التجربة الشعرية و عن الخطابية والمباشرة و قد وعدته أن يكون الشرح تطبيقيا وعلي قصيدته الموجودة في هذا
الشريـــــط.
لو تأملنا موضوع القصيدة نجد أنه عن الصداقة , يصور علاقة صديق بصديقه , هذه العلاقة هي علاقة عامة لا نستطيع أن نستبين منها ملامح محددة لهذا الصديق , أو نوع العلاقة الخاصة التي تربط بينهما , علي الشاعر عندما يريد تصويرا من هذا النوع أن يرسم لنا صورة هذا الصديق الخاص , أن يجعلنا نري تلك العلاقة الخاصة التي تجعل الشاعر ينفعل ويكتب عن هذا الصديق بشكل خاص , هذه هي التجربة الشعرية التي تفصل شاعر عن شاعر , كيف يري هذا الصديق وكيف يعبر عن مشاعره في هذه العلاقة الخاصة .
ولأن شاعرنا في بداية مشوار الحياة ولما يدخل بعد في أغوار التجربة مع الواقع المحيط به , فإنه نظر للصديق نظرة عامة من خلال مجموعة من العناصر التي تتوافر في الصديق كمثال , فكانت تجربته الشعرية داخلية بحتة لم تستمد من الواقع ملامحها , لنظر مثلا لتصويره في الأبيات الأولي
يُــكِنُّ فُـؤَادي لَـكَ الحُـبَّ بَـحْرًا بأحــشائه لـُــؤْلُــــؤٌ مُـــلْتَـــهِبْ.
وفــيـه تــنــانـــيـن لــو أطلقت لهزت قــواها جــيـوش القُـطُبْ.
وتَمْــخُـرُ أمـْوَاجَــهُ فـي اللَّيَالِي سَــفــيــنٌ أشَــدَّ الدُّجَـى لَـمْ تَهَبْ.
علــى مَتـْـنِها للــْوَفـَاءِ تُرَفْرِفُ ألْـــوِيَــةٌ نَسْــجـُهَــا مِـــنْ ذَهَــبْ.
وللصدْقِ ساريةٌ تلْتقي كلَّ برْ قٍ وَعَــصْــفٍ وَلَــا تَـضــطَّرِبْ.
ويـَـعْذُبُ مَــاؤُهُ بـَخْـرًا فيُخْرِجُ مِنْ عَــجَـبِ الزَّهْــرِ بَــاقًا نُخَبْ.
إلــيـْكَ يُقَدِّمــــُهُـــنَّ الفُــــــؤَادُ ثَـنَاءً،وَإيـــثـَــارَ قـــَـلْــبٍ رَحِـبْ
هنا لكي يصور حبه لصديقه أضاع سبع أبيات في صورة كلية للبحر وعلاقة بعض العناصر به فقط , لكي يقول أن حبه لصديقه مثل البحر, ولأن تجربته لا تستمد ملامحها من الواقع فقد راحت الناحية الذاتية الوجدانية تسيطر علي حركة التجربة عنده , صحيح أنه تصوير رائع أشهد له به من ناحية الأداء اللغوي ولكن ينقص هذا الأداء تجربة من وراءه تسنده وتدعمه وبالتالي فلم يجد شاعرنا إلا أن يقدم لنا الصورة المثالية لحب الصديق من الوفاء والصدق والحب إلخ , طبعا سوف نسأل من هو هذا الصديق الذي يكن له الشاعر كل هذا الحب , يعقب الشاعر بهذه الأبيات :
فـأنـْـتَ شَـريكِي وَخِدْنِي الوَفِيُّ وَذُو الكـَنـَفِ الوَارِفِ المُـجْتَذِبْ.
وأنْـــتَ مُــريـحُ فـُؤادي ،مُـطَبِّـ ـبُ هَمِّي ، مُحاوِرُ عَقْلِي الأَرِبْ.
وأنت صَــفاءُ الســـرورِ وأنـت التَّحَـصُّـنُ و الـرُّشْـدُ والمُكْتَسَبْ.
أراكَ سَــمَــاءً تـَـســيلُ ابْتِسَامـا وَتَــبْــرُقُ مَــجْـــدًا عــديمَ الكَذِبْ.
وتــصفو فتَـــأْسِـرُ كُــلَّ فُـــؤَادٍ وعِـنـْدَ التَكَــدُّرِ تُرْخِـي السُـحُـبْ.
أضاع هنا خمس أبيات أخري لكي يقدم لنا المبررات لهذا الحب , ولكن لو تأملنا هذه المبررات لا نجد أنها تحمل أي ملامح واقعية لصديق خاص , بل تنطبق علي الصورة المثالية للصديق وأيضا لا نستطيع أن نلمس العلاقة الخاصة التي تربطه بهذا الصديق الخاص , بل أنها تنطبق علي العلاقة المثالية بين صديق وصديق .
لننظر إلي الأبيات التي بعدها والتي كانت فرصة سانحة للشاعر لكي يبني قصيدته منها وحدها لكي تشكل جسم تجربته الشعرية ثم يفرع عليها والتي فيها يصور خوفه علي مستقبل تلك العلاقة بينه وبين صديقه
فـلـيـــت : صَــداقَتـَـنـا للنِّهـايـَـ ــةِ تَـثْبـُـتُ فـوْقَ جَمِــيـعِ الـكُرَبْ.
ولــكِـنْ إذا عَاثَ فيها الزَّمَانُ فـَـلـَنْ نـَـقْشعِـرَّ وَلـَن نَـرْتَعِبْ.
سنَـبْقَى مَـعـًا فِي صَميمِ الفُـؤادِ بـِـذِكْــرى عَـنِ العَيْنِ لَنْ تُحْتَجَبْ.
فإني أرى الذِّكْـرَيـَاتِ بِضِـيقِي وَبـُـعْــــــدِيَ عَـــنْـكَ عَبيرًا يَهُبّْ.
وَلَسْـتُ بِـنـَاسٍ مِـنَ الأصْــدَقاءِ وِدَادا تـَـسَــامَــى وَحُــبـًّـا عَـذُبْ.
وقــَــلـْــبًا بسيطا وجسما نشيطا وخِــفَّـةَ ظِلٍّ تُـــزيـــلُ التَـــعَـــبْ.
وكـَــمْ أَتَفَــكـَّـرُ فِـيـهِـمْ فـَأَرْنـُــو حِــوَارَ النـُّـهَى وَحَـدِيـثَ الأَرَبْ.
وكيْفَ يَرانا المُحـيطُونَ صَحْبًا قـَـوِيَّ الرِّبـَـاطِ ، عـَــلـِـيَّ الأَدَبْ.
أيضا لا نلمح ذلك الخوف الخاص لتجربة متعينة في الواقع ولم يستطع شاعرنا أن يستبطن ذاته بعمق لكي يصور لنا تلك المخاوف من ضياع العلاقة بينه وبين صديقه , واكتفي ومازال في نفس الفلك يدور ولكن وقع له هذان البيتان الجميلان فقط
سنَـبْقَى مَـعـًا فِي صَميمِ الفُـؤادِ بـِـذِكْــرى عَـنِ العَيْنِ لَنْ تُحْتَجَبْ.
فإني أرى الذِّكْـرَيـَاتِ بِضِـيقِي وَبـُـعْــــــدِيَ عَـــنْـكَ عَبيرًا يَهُبّْ.
فوق ما فيهما من تصوير راق , عبرا عن دخيلة النفس بطريقة خاصة وليس فيهما من العمومية وإن كانت لا تكاد تبين تحت سيطرة المثالية علي القصيدة .
وفي الختام ينهي قصيدته بهذه الأبيات التي تصور لنا أهمية الصداقة في حياة الإنسان وأهميتها لديه خاصة كشاعر
فـَـيَا للصــداقـَـةِ حُـسْنًا وَعَـوْنًا وَذُخْــــرًا يَـفـُـوق ُجَمِـيعَ النَّـشَبْ.
وإني عَلَى كُلِّ مَـنْ لَمْ يُصـادِقْ لَأُشْــفـِـقُ ، فـَـهْـوَ شـَـديدُ السَّغَبْ.
ولوْ رَفَعَتْ رَبَّةُ الشِّعْرِ نفـــسي إليْــهَـا ، بِأرْضِ النَّدَى المُنْسَكِبْ.
وقالـتْ لـَـها :لـَـكِ أنْـغَـمُ جَرْسٍ وَأجْـــزَلُ لـَـفـْـــظ ٍ، وَأرْقـَى أَدَبْ.
فرومي فَقَطْ وَأَنَا سَوْفَ أُعْطِيـ ـكِ أبـْــهـَى القَصِــيدِ الذي يختلبْ.
لَـــكـَــانَت نَهـتْهــا وَقـَالَـت لَها: فَـقـَـــطْ أوْصِـلِي لِصديقي الحَدِبْ.
رســالـةَ حُـبٍّ ...بثــوْب رقيـقٍ وَحَـــسْبِيَ "إيَّـــاكَ إنِّـــي أُحـِـبّْ".
البيتان الأولان من هذا الجزء يسيران علي المنوال السابق , والجيد فيهما هو الجزء الذي يصور أهميتها عنده كشاعر خاص وكان يمكنه أن يتعمق هذا الجزء فقط وينشأ قصيدته كلها عليه
ولوْ رَفَعَتْ رَبَّةُ الشِّعْرِ نفـــسي إليْــهَـا ، بِأرْضِ النَّدَى المُنْسَكِبْ.
وقالـتْ لـَـها :لـَـكِ أنْـغَـمُ جَرْسٍ وَأجْـــزَلُ لـَـفـْـــظ ٍ، وَأرْقـَى أَدَبْ.
فرومي فَقَطْ وَأَنَا سَوْفَ أُعْطِيـ ـكِ أبـْــهـَى القَصِــيدِ الذي يختلبْ.
لَـــكـَــانَت نَهـتْهــا وَقـَالَـت لَها: فَـقـَـــطْ أوْصِـلِي لِصديقي الحَدِبْ.
هنا نجد أن التجربة الشعرية لا تبرز لنا ملامح محددة يمكن أن نستشف منها طبيعة العلاقة الخاصة التي تربط بين صديق وصديق اللهم إلا الجانب المثالي في العلاقة , ولكن الشاعر وهو يسرد لنا تجربته الشعرية يجب أن يطلعنا علي الملامح الخاصة بهذه التجربة , وبطبيعة الحال جاء الأداء اللغوي والتصويري الذي هو المظهر أو التجلي أو الصورة الموصلة للتجربة معبرا عن هذه الصورة المثالية , ولذلك علي الشاعر أن يبدأ من الآن في النظر إلي الأشياء والعالم بنظرة تبعد به عن النظرة المثالية ويتجه للواقع بتعينه لكي يري ما فيه من جوانب متناقضة تصنع الكل الذي نراه , كذلك عليه أن ينظر بمنظار خاص يميزه عن غيره , وأيضا يبتعد عن الطريقة المثالية في النظر للأشياء لكي يراها في واقعيتها وتعينها .
في الأداء نري الوقوع في المباشرة , والمباشرة هي تقرير المعني بطريقة حاسمة , يجب أن يعطي للمتلقي الفرصة لأن يكتشف بنفسه المعني , لأن الفن في حقيقته ليس أن يقول الفنان لنا ويملي علينا ولكن مهمته الأصلية والأصيلة أن يجعلنا نري حياتنا وعالمنا في ضوء التجربة الشعرية , أن يوحي لكي يجعل المتلقي يكمل المعني , يجعل المتلقي متأملا للعمل مرات عديدة لكي يري الجوانب العديدة التي للمعني .
أما الخطابية فهي الصوت العالي في الخطاب الشعري , يجب أن يكون الخطاب الشعري خافتا في أداءه , وهذه الصفة تكاد تكون لصيقة بالمباشرة والنجاة من أحدهما نجاة من الأخري
وبالرغم من كل ذلك فمازلت أراك عزيزي مينا كبيرا جداااا علي سنك , كمية هائلة من المفردات , تصوير جيد , أداء لغوي محترم , ولكن حاول أن تطور تجربتك وهذا سيكون بمرور الوقت ومرور تجارب الحياة عليك وانصهارك فيها .
كوكو