قراءة في بعض السيرة النبويّة (3/1)
http://www.alawan.org/قراءة-علميّة-في.html
لا يخفى علينا أنّ السيرة النبويّة، بصحيحها وضعيفها، مكتوبة بعد أكثر من قرن ونصف من وفاة النبيّ محمّد، اعتمد فيها الإخباريّون على قناة شفويّة تمرّ من جيل إلى جيل، عبر قال فلان وقال فلتان وحدّثني علاّن.
وهذا النوع من الأخبار يدخل في باب الموروث الشعبيّ والإشاعات والأساطير أكثر ممّا يدخل في باب الحقائق التاريخيّة، ولا يُعتدّ بمعلومات كهذه في الأبحاث العلميّة التي تقوم على الأركيولوجيا أو على أقلّ تقدير تبحث في تنوّع النصوص. فينبغي ألاّ نعتمد على السيرة العربيّة وحدها، وأن نبحث أيضا في النصوص الأجنبيّة اليونانيّة والسريانيّة وغيرها، المعاصرة لتلك الفترة، حتّى يمكننا المقارنة بين الروايات واستخلاص بعض الحقائق التاريخيّة التي قد تتجاهلها السيرة العربيّة، بسبب الدوافع الدينيّة والسياسيّة، فتقدّم لنا مثالا أو صورة عن النبيّ محمّد كما ينبغي لها أن تكون وليس كما كانت حقيقةً.
تاريخ الولادة:
وصلتنا عن تاريخ ولادة النبيّ حزمة من الأخبار المختلفة، ومن ضمن هذه المعلومات التي دوّنها لنا الإخباريّون بغثّها وغثيثها:
1- عن سويد بن غفلة أنه قال : أنا لدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدت عام الفيل.
2- عن أبي جعفر الباقر : كان قدوم الفيل للنصف من المحرّم، ومولد رسول الله بعده بخمس وخمسين ليلة.
3- والمقصود أنّ رسول الله ولد عام الفيل على قول الجمهور، فقيل : بعده بشهر، وقيل : بأربعين يوماً، وقيل: بخمسين يوماً - وهو أشهر -.
هذا التاريخ هو الذي اتّفقت عليه الرواية الرسميّة، وهو أنّ النبيّ ولد عام الفيل، ونحدّده بحوالي 570 ميلادي، وصار هذا الأمر حقيقة مسلّمة، ولكنّ الإخباريّين، كما قلنا، ألقوا إلينا بحزمة من المعلومات :
4- وقيل : قبل الفيل بثلاث وعشرين سنة
5- وقال أبو زكريا العجلاني : بعد الفيل بأربعين عاماً. رواه ابن عساكر.
6- عن ابن عباس قال : ولد رسول الله قبل الفيل بخمس عشرة سنة.
7- وقيل : بعد الفيل بثلاثين سنة. قاله موسى بن عقبة عن الزهري.
فماذا تقول الأركيولوجيا؟
النقوش الأركيولوجيّة [وهي أصحّ من التاريخ المكتوب] وكذلك الأبحاث تشير إلى أنّ أبرهة قام بمهاجمة عرب جنوب الحجاز بين سنوات 540 و 552 ميلادي تقريبا، أي بين ثلاث وعشرين سنة وثلاثين سنة قبل مولد النبيّ، ولذلك فإنّ رواية موسى بن عقبة صحيحة [وبالمناسبة تُعتبر مغازي موسى بن عقبة أصحّ المغازي على حدّ قول أنس ولكن لم تصلنا كاملة] وتاريخ ولادة النبيّ لا علاقة له بسورة الفيل، إن اعتمدنا بعض سور القرآن كوثائق تاريخيّة أيضا، حيث يقول: "ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل" الخ… وهذا لا يعني أنّ النبيّ مولود عام الفيل، وذلك كما يقول: "ألم تر كيف فعل ربّك بعاد"، فهذا لا يعني أنّّ النبيّ مولود في زمن عاد، وإنّما القرآن يروي حادثة وقعت في مكان ما لأصحاب الفيل، كما أنّه غنيّ عن الإشارة أنّ سورة الفيل لا تذكر أبرهة ولا مكّة ولا مهاجمة الكعبة. فالقرآن لا يوثّق أيضا هذه الحادثة ولا يربطها بولادة النبيّ، وأبرهة لم يصل إلى مكّة ولم يهاجمها وإنّما توقّفتْ حملته في جنوب الحجاز وعادتْ، وقد تكون القصّة أصبحت أسطورة ودخلت في الموروث الشعبيّ بعد مائتيْ سنة، ثمّ ربطها الإخباريّون بوقت ولادة النبيّ محمّد لإضفاء بعض المعجزات عليه وعلى الكعبة قبل ولادته وربطها بسورة الفيل في القرآن.
وأبرهة لم يهاجم الكعبة وإنّما توقّف في جنوب الحجاز على مسافة أربعمائة كيلومتر من مكّة، ونحن نعرف نقوش أبرهة وهي ثلاثة نقوش، الأوّل تحت الرمز CIH 541 وهو نقش بتاريخ 549 ميلادي، والثاني تحت الرمز RY 506 بتاريخ 552 ميلادي، والثالث تحت الرمز Ja 544-547 بتاريخ 558 ميلادي، وعلى الأغلب فإنّ أبرهة توفّي قبل سنة 560 ميلادي، والنقش الذي يهمّنا هنا هو نقش بئر المريغان RY506 المؤرّخ بسنة 552 ميلادي ويشير النقش إلى أنّها الحملة الرابعة لتأديب القبائل العربيّة الثائرة، وكان ذلك في شهر أفريل إثر ثورة بني عامر، ويذكر الأماكن التي خرجت لأجلها هذه الحملة وهذا هو نصّ النقش :
بقوّة الرحمن ومسيحه الملك أبرهة زيبمان ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وقبائلهم (في) الجبال والسواحل، سطر هذا النقش عندما غزا [قبيلة] معد [في] غزوة الربيع في شهر "ذو الثابة" (أبريل) عندما ثاروا كل [قبائل] بنى عامر، وعيّن الملك [القائد] "أبا جبر" مع [قبيلة] علي [علا؟ علي؟] [والقائد] "بشر بن حصن" مع [قبيلة] سعد [وقبيلة] مراد، وحضروا أمام الجيش ـ ضد بنى عامر [وقد وجّهت] كندة وعلي في وادي "ذو مرخ" ومراد وسعد في واد على طريق تربن وذبحوا وأسروا وغنموا بوفرة وحارب الملك في حلبن واقترب كظل معد (وأخذ) أسرى وبعد ذلك فوّضوا [قبيلة معد] عمرو بن المنذر [في الصلح] فضمنهم ابنه (عروة) (عن أبرهة) [فعيّنه حاكماً على] معد ورجع (أبرهة) من حلبن بقوة الرحمن في شهر ’’ذو علان’’ في السنة الثانية والستين وستمائة [552 ميلادي] (1) وكما يذكر هذا النقش فإنّ أبرهة لم يذهب بنفسه وإنّما توقّف على مسافة أربعمائة كيلومتر جنوب مكّة وأرسل بعض الحملات المتفرّقة، هنا وهناك، وأقرب منطقة وصلتها حملته هي قوله : (في واد على طريق تربن) وهو أنّ (تربن) من الممكن أن تكون مكانا يقع على بعد 190 كيلومترا شرق مكّة (2) لكن تظلّ مكّة في كلّ الحالات بعيدة عن حملة أبرهة أركيولوجيّا وقرآنيّا أيضا، كما أنّ أبرهة عاد منتصرا ولم يتعرّض لا لطيور أبابيل ولم يصبح كالعصف المأكول.
وقد تتبّعت جذور هذه القصّة فوجدت أنّ مصدرها ابن اسحاق في السيرة، وقد نقل عنه الجميع فيما بعد وصارت القصّة مسلّمة بديهيّة. ولحسن الحظّ فقد وصلنا تفسير مقاتل بن سليمان -المتوفّى حوالي سنة مائة وخمسين للهجرة (3) وهو معاصر لابن إسحاق، لكنّ تفسير مقاتل لسورة الفيل يختلف تماما عن قصّة ابن إسحاق، ممّا يشير إلى أنّ القصّة لم تكن أخذت صورتها النهائيّة التي نعرفها اليوم، وإنّما كانت ضبابيّة في الذاكرة، ولنستمع ماذا يقول مقاتل: ألم تر (ألم تعلم يا محمد) كيف فعل ربك بأصحاب الفيل [ آية : 1 ] يعني أبرهة بن الأشرم اليماني وأصحابه، وذلك أنه كان بعث أبا يكسوم بن أبرهة اليماني الحبشي، وهو ابنه، في جيش كثيف إلى مكة، ومعهم الفيل ليخرب البيت الحرام، ويجعل الفيل مكان البيت بمكة، ليعظم ويعبد كتعظيم الكعبة، وأمره أن يقتل من حال بينه وبين ذلك، فسار أبو يكسوم بمن معه حتى نزل بالمعمس، وهو واد دون الحرم بشيء يسير، فلما أرادوا أن يسوقوا الفيل إلى مكة لم يدخل الفيل الحرم، وبرك، فأمر أبو يكسوم أن يسقوه الخمر، فسقوه الخمر ويردونه في سياقه، فلما أرادوا أن يسوقوه برك الثانية، ولم يقم وكلما خلوا سبيله ولّى راجعاً إلى الوجه الذي جاء منه يهرول، ففزعوا من ذلك، وانصرفوا عامهم ذلك.
فمقاتل يتحدّث عن ابن أبرهة وليس أبرهة نفسه بل ويؤكّد قائلا: (وهو ابنه) كما أنّ الفيل لم يفعل شيئا وعاد في ذلك العام، والقصّة طويلة حيث سيخرج بعد سنتين بعض تجّار قريش إلى الساحل وسيشعلون بعض النار لشواء بعض الأطعمة ثمّ يذهبون وينسون النار مشتعلة، فهبّت ريح وحملت بعض اللهب إلى كنيسة في ذلك المكان فاحترقت هذه الكنيسة فغضب النجاشيّ وأعاد إرسال بعثة أخرى لكنّ الله أرسل عليهم طيرا أبابيل وقضى عليهم، ثمّ لنستمع إلى ما يقول مقاتل في الأخير: (وكان أصحاب الفيل قبل مولد النبي بأربعين سنة، وهلكوا عند أدنى الحرم، ولم يدخلوه قط.) (4) فعند مقاتل فإنّ مولد النبيّ كان أربعين سنة قبل الفيل. وتجدر الإشارة إلى أنّ تفسير مقاتل يُعتبر ضعيفا ولا يُؤخذ به، ولكنّنا في البحث العلمي نضع كلّ الروايات جميعها بصحيحها وضعيفها سواسية على محكّ العلم، فما وافقه منها فهو صحيح.
وكما عدنا إلى أقدم تفسير للقرآن -وليس الطبري كما هو شائع- نعود أيضا إلى أقدم كتاب في الحديث وهو مصنّف عبد الرزاق المتوفّي سنة مائتين وإحدى عشرة للهجرة (5) ونقرأ هذه الرواية عن الزهريّ : إنّ أوّل ما ذكر من عبد المطلب جدّ رسول الله أنّ قريشا خرجت من الحرم فارّة من أصحاب الفيل وهو غلام شابّ (…) فرجعت قريش، وقد عظم فيهم بصبره وتعظيمه محارم الله، فبينا هو على ذلك ولد له أكبر بنيه، فأدرك، وهو الحارث بن عبد المطلب (6) فالفيل في هذه القصّة كان قبل ولادة ابن عبد المطّلب الأكبر، بينما عبد الله أبو النبيّ هو أصغر أبناء عبد المطّلب، حسب السيرة.
إذن، وللتلخيص، فإنّ أبرهة هاجم عرب شمال اليمن أربع مرّات ولم يصل أبدا إلى مكّة، وكان ذلك قبل مولد النبيّ بعشرين سنة على أقلّ تقدير فتناقل السكّان تلك الحادثة التي بقيت في الذاكرة وتداولوها شفويّا ثمّ ربطها الإخباريّون بسورة الفيل.
أمّا إن اعتمدنا الرواية الرسميّة، أي على قول الجمهور، وعلى الأركيولوجيا في الوقت نفسه وجعلنا النبيّ مولودا عام الفيل فعلا أي على أقصى تقدير سنة 552 ميلادي [مع التحفّظ] فإنّ النبيّ يكون قد توفّي عن سنّ تناهز ثمانين عاما.
وإذ نستطيع مقارنة الروايات الإسلاميّة مع الأركيولوجيا في تاريخ ولادة النبيّ فإننا نستطيع مقارنة تاريخ وفاته أيضا بالروايات الأجنبيّة، وإذا عدنا إلى بعض المخطوطات السريانيّة نجد أنّ حكم النبيّ كان سبع سنوات: (7)
1-تاريخ زقنون (مكتوب قبل سنة 140هجري) (8)
2-تاريخ يعقوب الأديسي (مكتوب قبل 75 هجري) (9)
3-تاريخ قصير (الكاتب مجهول، مكتوب قبل 80 هجري) (10)
وكلّ هذه المخطوطات مكتوبة قبل السيرة العربيّة، فهي أقرب إلى الأحداث، ولنأخذ مثلا هذا التاريخ القصير، وجاء فيه :
محمّد (مهمت) جاء إلى الأرض سنة 932 لإسكندر بن فيليبس المقدوني (620-621 ميلادي) وحكم سبع سنوات.
ثمّ حكم أبو بكر لمدّة سنتين.
ثمّ حكم عمر لمدّة اثنتي عشرة سنة.
ثمّ حكم عثمان لمدّة اثنتي عشرة سنة، وظلّت العرب طوال معركة صفّين (صافا) بلا أمير لمدّة خمس سنوات ونصف.
ثمّ حكم معاوية لمدّة عشرين سنة.
ثمّ حكم يزيد (إيزيد) بن معاوية لمدّة ثلاث سنوات ونصف.
[ومكتوب في هامش المخطوط: بعد يزيد ظلّت العرب لمدّة سنة بلا أمير]
ثمّ بعدهم حكم عبد الملك لمدّة واحد وعشرين سنة.
ثمّ تسلّم الحكم ابنه الوليد بداية من شهر تشرين للسنة العالميّة 1017 (يوافق شهر أكتوبر 705 ميلادي) (11)
فالسيرة تؤكّد أنّ النبيّ عاش عشر سنوات في يثرب بينما المخطوطات السريانيّة الثلاث المكتوبة قبل تدوين السيرة تشير إلى أنّ محمّدا لم يحكم إلاّ سبع سنوات، فيكون قد توفّي عن سنّ ستّين سنة - إن صحّ تاريخ مولده – وقد أشرنا إلى أنّ الإخباريّين ألقوا إلينا بحزمة من المعلومات ووصلنا هذا الأمر أيضا في الروايات الإسلاميّة :
أخبرنا أنس بن عياض أبو ضمرة الليثي، حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سمع أنس بن مالك وهو يقول: توفّي رسول الله، وهو ابن ستين سنة.(12)
أخبرنا عبد الله بن عمر وأبو معمر المنقري، أخبرنا عبد الوارث بن سعيد، أخبرنا أبو غالب الباهلي أنه شهد العلاء بن زياد العدوي يسأل أنسا بن مالك قال : يا أبا حمزة سن أي الرجال كان رسول الله، يوم توفي؟ قال: تمت له ستون سنة يوم قبضه الله. (13)
أخبرنا الأسود بن عامر والحجاج بن المنهال قالا : أخبرنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن عروة قال: بعث النبي، وهو ابن أربعين سنة ومات وهو ابن ستين سنة. (14)
لكن الرواية الرسميّة اختارتْ أن تكون وفاة النبيّ في سنّ 63 سنة، (على أيّ أساس؟)كما اختارتْ أن يكون تاريخ ولادته عام الفيل.(على أيّ أساس؟) لكن تظلّ هذه التواريخ، من الجانبين، الإسلامي والأجنبي، تقريبيّة وغير دقيقة.
الهوامش:
1- Journal Asiatique/A.L.Premare/V.288/T2/2000/p261-367
2- Ibidem.
3- الذهبي/ سير أعلام النبلاء/ ج7/ص202/ تحقيق: بإشراف شعيب الأرناءوط/مؤسّسة الرسالة/1985
4- تفسير مقاتل بن سليمان/سورة الفيل/تحقيق أحمد فريد/دار الكتب العلميّة/لبنان/2003
5- الحافظ الذهبي/سير أعلام النبلاء/ج9/ص563، مصدر سابق
6- مصنّف عبد الرزاق/ج5/ص313/دار المكتب الإسلامي/بيروت/1982
7- Hoyland/Seeing Islam as others saw it/p395/The Darwin Press/USA/1997
8- Ibidem/p409
9- Ibid/p160
10- Ibid/p393
11- Ibid/p394
12- ابن سعد/الطبقات/ج2/ص301/تحقيق: علي محمّد عمر/مكتبة الخانجي/مصر/2001
13- المصدر السابق
14- المصدر السابق
قراءة في بعض السيرة النبويّة (3/2)
http://www.alawan.org/قراءة-علميّة-في,7821.html
لم يأل الإخباريّون جهدا - خاصّة أثناء وضع السيرة في صورتها النهائيّة- في صناعة التاريخ على أحداث إمّا وهميّة وإمّا مقتبسة من حضارات أخرى، فهم لا يكتبون لنا تاريخا كائنا بل يكتبون التاريخ كما يجب أن يكون، يكتبون الدين تحت اسم التاريخ، لتقديم صورة مقبولة -إن لم نقل أسطوريّة- عن النبيّ وتعميمها في نواحي الإمبراطوريّة الإسلاميّة الصاعدة، فاختفتْ الأحداث التاريخيّة الحقيقيّة تحت طبقات من الأصباغ البرّاقة وصارت (هذه الأصباغ الوهميّة) هي الأحداث الصحيحة التي تقوم عليها سيرة النبيّ، ممّا أدّى أحيانا إلى تناقض المعطيات في الحادثة نفسها.
يذكر المدراش [المدراش هي كتب التفاسير اليهوديّة] قصّة معراج موسى إلى السماء، ونكاد نجد نقلا حرفيّا لبعض المواضع من هذه القصّة في معراج النبيّ، كما أنّ المدراش مكتوب قبل الإسلام، وفيه أنّ موسى صعد إلى السماوات السبع وزار الجنّة والنار، فرأى عذاب أهل النار ثمّ زار الجنّة ورأى فيها ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، وعندنا التراث الإسلامي في وصف الجنّة - كوصف النار- يتشابه مع ما رآه موسى، فيرى أربعة أنهار من عسل ولبن وخمر الخ..(1) وليس موسى فقط من أسرى إلى السماء، فكذلك زرادشت نبيّ الزرادشتيّة في القرن السابع قبل الميلاد حيث اعتزل قومه وخرج إلى الصحراء للتأمّل والتحنّث، وحين كان في غار في أحد الأيّام ظهر له الملاك الأكبر وحمله إلى السماوات فرأى الجنّة ثمّ رأى الله وتلقّى منه الوحي(2)، بيد أنّ قصّة إسراء موسى هي الأقرب إلى السيرة من حيث وصف المراحل سماءً فسماء، أمّا عن البراق الذي طار بالنبيّ فقد يذكّرنا بالحصان المجنّح (بيجاسوس) المشهور في الأساطير اليونانيّة وتغنّى به الشعراء القدامى، وحسب الأسطورة فقد طار هذا الحصان ناحية المكان الذي يخرج منه البرق والصاعقة واستعمله (برسيوس) في تنقّلاته (3)، وربّما هناك علاقة إيتمولوجيّة بين (بيجاسوس) باليونانيّة و(بيهاساس) بالسومريّة (4) والتي من معانيها الضوء القويّ وتقابلها (براقو) بالأكاديّة (5) فهذا الحصان الذي طار ناحية البرق اسمه : بيجاسوس Pegasus [يونانيّة] = بيهاساس Pihassas [سومريّة] = براقو Baraku [أكاديّة] = براق [عربيّة]=البُراق، وليس من المستبعد أنّ كتبة السيرة استعاروا الحصان المجنّح بمعنى البُراق وأسّسوها كمعجزة للنبيّ خاصّة بعد احتكاكهم بالحضارات الأخرى وتداخل الثقّافات. وربّما أغرب قصّة في هذا الخضمّ الأسطوريّ هي ما رواه البخاري (6) عن لقاء محمّد بموسى أثناء نزوله من السماء، ونصيحة موسى له أن يعود ويطلب التخفيف في عدد الصلوات التي كانت خمسين صلاة، فظلّ النبيّ صاعدا نازلا بين الله وموسى، وفي كلّ مرّة يخفّف الله عنه عشر صلوات إلى أنّ استقرّ العدد على خمس صلوات يوميّا، وكأنّ الله فاته هذا التشريع القاسي بل المستحيل، ولولا موسى لكان المسلمون يصلّون خمسين صلاة يوميّا وهذا كلام غير منطقيّ بطبيعة الحال، وكما نرى فالإخباريّون لا يعوزهم الخيال مطلقا.
هذا عن قصّة المعراج وأصولها المدراشيّة اليهوديّة، والتي يربطها المفسّرون بالآيات الغامضة في سورة النجم، والنبيّ ينفي عن نفسه في القرآن أن يكون باستطاعته الرقيّ إلى السماء أو العروج إليها فيقول : وقالوا لن نؤمن لك حتّى تفجّر لنا من الأرض ينبوعا (…) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيّك حتّى تنزّل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربّي هل كنت إلاّ بشرا رسولا؟ (الإسراء 90-93) أما كان يجدر بمحمّد إن كان قد رقى إلى السماء وعرّج إليها أن يقول : بلى قد رقيت ورأيت آيات الله وأنزل عليّ الصلاة حينها؟ بل نراه يقول : سبحان ربّي هل كنت إلاّ بشرا رسولا، فلم يكف الذين كتبوا السيرة والحديث أن سرقوا قصّة مدراشيّة يهوديّة ونسبوها إلى محمّد بل زادوا فجاؤوا بعكس ما يقوله القرآن، وهذا كلّه لإثبات أنّ لمحمّد معجزات مثله مثل الأنبياء الآخرين رغم أنّ القرآن يعارضهم أيضا : وقالوا لولا نُزّل عليه آية من ربّه [الآية هي المعجزة] قل إنّ الله قادر على أن ينزّل آية ولكنّ أكثرهم لا يعلمون(الأنعام-37)، فهم يطلبون آية و لكن الجواب واضح: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلاّ أن كذّب بها الأوّلون (الإسراء-59). فالقرآن منع المعجزات عن محمّد والسبب- حسب منطقه- هو أن كذّب بها الأوّلون، فكيف ترك المحدثون العنان لخيالهم عن إسراء ومعراج وخروج الماء من أصابع محمّد الخ…؟ هذا لأنّهم بدؤوا يحتكّون بالحضارات الأخرى أثناء الفتوحات الإسلاميّة وطالبهم المسيحيون واليهود بدليل على نبوّة محمّد ومعجزاته كموسى وعيسى، فاضطرّوا إلى اختلاق هذه المعجزات ليثبتوا نبوّة محمّد، وقد وصل الأمر بقريش أن طالبت النبيّ بأن يأتي بالعذاب وليس فقط بآية، وذلك ليقينهم بعدم صحّتها، فقالوا اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (الأنفال-32) فهم قد يئسوا من أن يأتيهم بمعجزات ورضوا أن يأتيهم بالعذاب، فقط ليثبت نبوّته، ولكنّه لم يفعل والقرآن واضح : لا معجزات لك يا محمّد. أمّا قصّة الإسراء، وهي إسراء محمّد من مكّة إلى بيت المقدس في ليلة واحدة على البراق، فإنّ الشكّ يحيط بها من كلّ جانب، فإن كانت معجزة [وهي تُعتبر معجزة طبعا] فإنّا أوضحنا رأي القرآن عن المعجزات بالنسبة إلى النبيّ، ثمّ هذه "المعجزة" مذكورة عرضا وفي آية واحدة وكأنّها مضافة فيما بعد، ولا تتماشى مع السياق إطلاقا، فسورة الإسراء تبدأ هكذا : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياته إنّه هو السميع البصير، وماذا بعد هذه الآية؟ لا شيء. وإنّما يمرّ إلى موضوع آخر مختلف تماما فيقول : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل الخ… وينسى الإسراء وقصّته، كما أنّ الفاصلة في جميع الآيات التالية تنتهي هكذا: وكيلا، شكورا، كبيرا، مفعولا، نفيرا الخ.. إلاّ الآية الأولى التي تتحدّث عن الإسراء فهي تنتهي بفاصلة مرفوعة : البصيرُ، وكأنّ الآية ملحقة إلحاقا وسياق النصّ يشير إلى أنّها نشاز في السورة ولا رابط بينها وبين الآيات التالية (7) وسورة الإسراء كان اسمها في الأصل : سورة بني إسرائيل (8) وربّما تمّ تغيير اسمها فيما بعد إلى "الإسراء" حين أضافوا هذه الآية الأولى فيها التي تتحدّث عن إسراء محمّد، بعد بناء المسجد الأقصى.
وإذ ينبغي تقديم صورة عن النبيّ، كما يجب أن تكون، فقد صنعوا أيضا الظروف التاريخيّة التي بدأ فيها محمّد دعوته، فقدّموا مكّة (9) على أنّها كانت تحفل بالديانة الوثنيّة حتّى أنّه كان في الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما، وكأنّهم يريدون تجنّب أيّ علاقة لمحمّد بالديانات التوحيديّة ممّا يضيف مصداقيّة على نبوّته وأنّها منزّلة عليه من السماء، بل جعلوه أمّيّا أصلا، فلا يجرؤ طاعن على الادّعاء بأنّ محمّدا قد تعلّم أو درس شيئا من الكتب السابقة. بيد أنّ الإشارات السريعة التي وصلتنا مفرّقة في مختلف الكتب التراثيّة تجعلنا ننكر هذا الطرح ونعتبره مبنيّا على دغمائيّة دينيّة موجّهة مسبّقا لا على أحداث تاريخيّة حقيقيّة، فمكّة لم تكن وثنيّة -في المجمل- وإنّما تتعايش على أرضها ديانات مختلفة في انسجام وتسامح، ففيها الحنفاء الذين هجروا عبادة الأوثان وشرب الخمر وأكل ما ذبح على الأنصاب، كزيد بن عمرو الذي رفض أن يأكل من لحم قدّمه له النبيّ، حيث يروي البخاري في صحيحه أنّ النبيّ لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح وذاك قبل أن ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الوحي فقدّم إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثم قال زيد إني لا آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلاّ مما ذكر اسم الله عليه (10) ومثل وكيع بن سلمة الإيّادي الذي بنى صرحا أسفل مكّة (11) وقسّ بن ساعدة الذي أعجب النبيّ بمواعظه وأميّة بن أبي الصلت الشاعر المشهور والمتلمّس بن أميّة الكنانيّ الذي اتّخذ فناء الكعبة مكانا يلقي فيه خطبه(12) وغيرهم كثير. ولم تتغيّب الديانة المانويّة (13) عن هذا "الكوكتيل" العقائدي فكان من متّبعيها العاص بن وائل السهميّ (14) وهو أبو عمرو بن العاص بالتبنّي حيث يروي الزمخشري : كانت النابغة أمّ عمرو بن العاص أمة رجل من عنزة فسبيت، فاشتراها عبد الله بن جدعان، فكانت بغياً ثم عتقت. ووقع عليها أبو لهب، وأميّة بن خلف، وهشام بن المغيرة، وأبو سفيان بن حرب، والعاص بن وائل، في طهر واحد، فولدت عمراً. فادّعاه كلهم، فحكمت فيه أمه فقالت : هو للعاص لأن العاص كان ينفق عليها. وقالوا : كان أشبه بأبي سفيان. (15) والعاص بن وائل كان قد أجار عمر بن الخطّاب حين أسلم، ولنا أن نلاحظ هذا التسامح الدينيّ في مكّة إذ أنّ عمر بن الخطّاب اختلف مع بعض قريش بسبب إسلامه وهمّوا بالقتال فتدخّل العاص قائلا : ما شأنكم؟ قالوا صبا عمر، فقال: فمهْ، رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بني عديّ بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هذا؟ خلّوا عن الرجل. فتفرّق القوم (16) ومن المانويّين النضر بن الحارث (17) الذي كان يعرف حكايات الفرس والقصص الغابرة وكان يجلس في مكّة فيتلو عليهم شيئا من أخبار رستم واسفنديار وما جرى بينهما من الحروب في زمن الفرس، ثم يقول : والله ما محمّد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلاّ أساطير الأوّلين اكتتبها كما اكتتبها (18) وكذلك عقبة بن أبي معيط وكان متزوّجا من أروى بنت كريز وهي أمّ عثمان بن عفّان (19) وكان قد أسلم في البداية استحياءً من النبيّ فكان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلاّ صنع طعاما فدعا إليه أهل مكة كلهم وكان يكثر مجالسة النبي ويعجبه حديثه وغلب عليه الشقاء فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول الله إلى طعامه فقال : ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال : أطعم يا ابن أخي قال : ما أنا بالذي أفعل حتى تقول فشهد بذلك وطعم من طعامه فبلغ ذلك أبيّ بن خلف فأتاه فقال : أصبوت يا عقبة ؟ - وكان خليله – فقال : لا والله ما صبوت ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلاّ أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم، فقال : ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتبصق في وجهه، ففعل عقبة، فقال له رسول الله : لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا (20). وغيره من المانويّين كمنبّه ونبيه ابنيْ الحجّاج وأبي سفيان وأبيّ بن خلف (21) الذي غنم محمّد سيفه يوم بدر، وكان يسمّي سيفَه ذا الفقار، والوليد بن المغيرة الذي كان يكنّى بالوحيد في قومه لمعرفته بالأشعار والبلاغة وكان ممّن حرّم على نفسه السكر والخمر والأزلام في الجاهليّة وضرب ابنه هشام لأنّه شرب الخمر يوما (22) وهو الذي قال عن القرآن : إن هذا إلاّ قول البشر (المدّثّر، 25) وأغلب هؤلاء تخلّص منهم النبيّ يوم بدر فتخلّص بالتالي من معارضة الطبقة المفكّرة والتي كانت تجادله دائما عقائديّا وبلاغيّا، إلاّ أبا سفيان الذي تأقلم مع الأوضاع الجديدة -على ما يبدو- وأسسّ الخلافة لأبنائه فيما بعد.
وكان هناك المسيحيّون، كعثمان بن الحويرث الذي يكنّي بلقب "البطريق" (23) وقوم من بني أسد بن عبد العزّى (24) كما أنّ الذي بنى الكعبة (حين أرادتْ قريش إعادة بنائها) كان مسيحيّا واسمه باقوم (25) وكان في سفينة أصابتها ريح فحجبتها، فخرجت إليها قريش بجدّة، فأخذوا السفينة وخشبها، وقالوا: ابنه لنا بنيان الشام (26)، وربّما المقصود ببنيان الشام أي مثل بنيان الكنيسة. أمّا النصارى، وهم غير المسيحيّين كما نرى في نقش يعود إلى القرن الثالث الميلادي في فارس جاء فيه : وإنّي كارتر Karter أعلنت عن حزني وأسفي منذ البداية للآلهة والملوك ولروحي، فجعلت النيران والمجوسيّة مزدهرة في مملكة فارس وفي مملكة "أنيران" Aniran أيضا. […] وقمت بطرد عقائد أهريمان والشياطين من المملكة، وانتصرتُ على اليهود والبوذيّين والبراهمان والنصارى والمسيحيّين والمندائيّين والمانويّين (27). والنصارى يختلفون عن المسيحيّين بوصفهم متشبّثين بتعاليم التوراة من ختان واحترام يوم السبت وغير ذلك من الأعياد اليهوديّة، ويعتبرون المسيح إنسانا وإلها في الوقت نفسه، وانتشروا خاصّة في سوريا وتحديدا في حلب (28)، وانشقّت منهم طائفة تسمّى "الأبيونيّون" وهؤلاء يعتبرون المسيح إنسانا فقط وليس ابن إله وأنّه نبيّ كبير ويؤكّدون أنّه لم يصلب وإنّما ألقي شبهه على شخص آخر، وأنّه سيعود بعد رفعه إلى السماء. وهم لا يشربون الخمر ولهم إنجيلهم الخاص باسم "إنجيل الأبيونيّين"، وهذا الإنجيل هو في الأصل "إنجيل العبرانيّين" مكتوب بالعبريّة، بينما النصارى لهم الإنجيل نفسه مكتوب بالآرامية (29) والتلمود يجمع كلّ هذه المذاهب المسيحيّة المختلفة في تسمية واحدة: "النصارى" وهذه التسمية -وعلى ما يبدو – انتقلتْ إلى القرآن أثناء الحديث عن المسيحيّين.
ومن هؤلاء النصارى الأبيونيّين نجد ورقة بن نوفل الذي كان يكتب الإنجيل العبراني إلى العربيّة، ويؤمن بناموس موسى (ويبدو واضحا التوجّه الأبيوني لورقة) وكذلك الراهب بحيرى الذي كان يسكن قريبا من مكّة أو يزورها دائما حيث يروي ابن كثير أنّه بعد نزول الوحي على النبيّ وعودته إلى منزله: فقالت خديجة : أبشر فوالله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيرا وأشهد أنك نبيّ هذه الأمّة الذي تنتظره اليهود، قد أخبرني به ناصح غلامي وبحيري الراهب، وأمرني أن أتزوّجك منذ أكثر من عشرين سنة. فلم تزل برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طعم وشرب وضحك ثم خرجت إلى الراهب وكان قريبا من مكة …(30) وكذلك عدّاس مولى عتبة بن ربيعة ولا أستبعد إطلاقا أن تكون خديجة تتبع هذا المذهب بل ومحمّد نفسه، خاصّة رؤيته الأبيونيّة الواضحة في القرآن المكّي عن عيسى واعتباره نبيّا وأنّه لم يصلب بل ألقي شبهه على شخص آخر، وكذلك معجزات عيسى كالنفخ في طيور من الطين فتطير وقد عادتْ إليها الحياة، وهذه القصص مذكورة في إنجيل الطفولة الأبوكريفيّ (31) وكان الأبيونيّون يؤمنون بها. وهؤلاء الأبيونيّون يختلفون عن اليهود فقط بإيمانهم بعيسى بوصفه نبيّا (لا كابن إله) بينما يطبّقون كلّ الشرائع الأخرى كتحليل الزواج من أربع نساء فقط كما جاء في التلمود(32) وغيرها من الشرائع التي هي مدراشيّة (أي تأويليّة وتفسيريّة) أكثر منها توراتيّة. لذلك فإنّ المسيحيّين عادة ما يعتبرونهم من اليهود، وإن لم يكونوا يهودا فعلا، فنقرأ في تاريخ تيوفانس باليونانيّة في القرن الثاني الهجري : عندما ظهر محمد في البداية، انحرف اليهودُ وظنّوا أنه المسيح الذي ينتظرونه. فجاء إليه بعض قادتهم ودخلوا في دينه وتخلّوا عن دين موسى الذي كان يتقي الله…(33) ويشير ميشال السوري في تاريخه بالسريانيّة قائلا : كان محمّد يذهب إلى مصر وفلسطين للتجارة، فقابل هناك اليهود وتدارس معهم التوراة والله الحيّ، ثمّ تزوّج إحدى بناتهم، وحين عاد إلى مدينته يثرب بدأ دعوته، هناك من آمن به وهناك من نعته بالجنون، فخرج إلى الصحراء مع المؤمنين معه واتّبعه عديد اليهود…(34) وربّما المرأة التي تزوّجها النبيّ عند اليهود هي نفسها خديجة بوصفها أبيونيّة، وإن كان هذا التاريخ السريانيّ يشير إلى أنّ النبيّ تزوّج في فلسطين.
ومهما كان الأمر، فمكّة كانت تزخر بديانات متعدّدة، ومن ضمنها الديانة الوثنيّة، يعيشون مع بعضهم البعض دون طغيان دين على آخر، أو على الأقلّ يحترمون ديانات بعضهم، ناهيك عن الذين كانوا يتحنّثون في غار حراء قبل محمّد، ومنهم عبد المطّلب جدّ النبيّ وشيبة بن ربيعة(35) وغيرهما، كما أنّ الكعبة كانت تحتوي في داخلها على صور عيسى ومريم وإبراهيم حيث يروي البخاري : دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال أمّا هم فقد سمعوا أنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم؟ (36) ولا أظنّ أنّ الكعبة كانت مليئة بالأوثان كما يزعمون، هذا دون أن نتعرّض إلى القبائل الأخرى المجاورة أو البعيدة أو إلى عابري السبيل أو من احتكّ النبيّ بهم أثناء رحلاته للتجارة، وهو طفل، مع عمّه الزبير إلى اليمن ومع جدّه عبد المطّلب إلى الشام. فالنبيّ كان في فضاء ثقّافيّ ودينيّ غنيّ ومتنوّع.
الهوامش:
1- Louis Ginzberg, The Legends of jews, tr. Gabrielle Sed-Rajna, Cerf, France, 2001, T3, p218-226
2- Jean Varenne, Zoroastre, le prophète de l’Iran, Dervy, Paris, 2001, p38-39
3- L.G Michaud, Biographie universelle…, partie mythologique, libraire-éditeur, Paris, 1833, p284
4- Reallexikon der Assyriologie und Vorderasiatischen Archäologie, Collectif, vol.10, 2005, p559-560
5- Ibidem
6- صحيح البخاري، الحميدي، الجمع بين الصحيحين، تحقيق د علي حسن البواب، دار ابن حزم، لبنان، 2002 ج2، ص402
7- انتبه لهذا النشاز في بداية السورة غير واحد من المستشرقين الباحثين في القرآن واعتبروها إضافة لاحقة للسورة، مثل Régis Blachere في ترجمته للقرآن حيث وضع كلّ الآية بالخطّ المائل كإشارة إلى أنّها ليست أصليّة في السورة، بينما ذهب Jean Marie Gallez إلى أنّ نصف الآية فقط هو أصليّ ويرى أنّها كانت في الأصل هكذا : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا، [J.M.Gallez le Messie et son prophète / Tome2/p323] وذلك لأنّه أراد ربطها مع فاصلة الآيات التي بعدها، وأشار إلى أنّ عبده تعود على موسى وليس على محمّد، لكن هذا الطرح أيضا بعيد لأنّ الفاصلة في الآيات التالية هي على وزن "فعول" أو "مفعول" بالنصب، أمّا "ليلا" فهي على وزن "فعل" بالنصب، لذلك ذهب أغلبيّة الباحثين الغربيّين إلى عدم أصالة الآية بكاملها، من حيث شكلها ومن حيث مضمونها الخارج عن سياق الآيات التالية من ناحية، ولأنّ هذه القصّة مأخوذة من الأساطير الفارسيّة من ناحية أخرى، وقد لفتت هذه الآية انتباه المفسّرين المسلمين بطبيعة الحال وذهبوا إلى أنّها "التفات" وأنّه بما أنّ الله أكرم محمّدا بالإسراء فقد أكرم موسى بالكتاب، [و ذلك لمحاولة الربط بين الآيتين، ولا أدري ما وجه المقارنة فموسى كانت له التوراة وبالتالي فالأنسب أن يذكر الله القرآن بالنسبة لمحمّد، فإن ذكر آية حسيّة كالإسراء لمحمّد يقتضي ذكر آية حسيّة لموسى أيضا في الآية التي بعدها، رغم أنّنا لا ننكر طبعا كثرة الالتفات في القرآن] راجع مثلا عن محاولات الربط بين الآيتين : تفسير الرازي/دار الفكر/الجزء 20/ ص 154.
8- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 1 ، ص153 ،تحقيق : سعيد المندوب، دار الفكر، لبنان، 1996
9- تجارة مكّة وظهور الإسلام، باتريشيا كرون، ترجمة آمال الروبي، المجلس الأعلى للثقافة، 2005 والكتاب الأصلي صدر سنة 1987 بعنوان Meccan Trade and the Rise of Islam
10- صحيح البخاري، الحميدي، الجمع بين الصحيحين، مصدر سابق، ج2، ص204
11- عماد الصباغ، الأحناف، دار الحصاد، دمشق، 1998، ص37
12- المرجع السابق، ص38
13- هي ديانة أنشأها "ماني" في القرن الثالث الميلادي، وهي ديانة توحيديّة ثنويّة، واعتبر ماني نفسه خاتم الأنبياء.
14- ابن حبيب، المحبّر، دار الآفاق الجديدة، 1995، ص161
15- الزمخشري، ربيع الأبرار، تحقيق: عبد الأمير مهنا، 1992، ج4، ص275
16- سيرة ابن هشام، تحقيق : مصطفى السقّا-الأبياري-شلبي، دار الكتب العلميّة، لبنان، 2004، ص256
17- ابن حبيب البغدادي، المنمّق في أخبار قريش، تحقيق خورشيد أحمد فاروق، دائرة المعارف، 1964، ص487
18- ابن كثير، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، 1988، ج3، ص110
19- ابن سعد، الطبقات، تحقيق د.علي محمّد عمر، مكتبة الخانجي، مصر، 2001، ج3، ص45
20- الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي، سورة الفرقان، دار الفكر، بيروت، 1993
21- ابن حبيب البغدادي، المنمّق في أخبار قريش، مصدر سابق، ص531
22- المصدر السابق
23- الزبير بن بكّار، جمهرة نسب قريش وأخبارها، إشراف: حمد الجاسر، مطبوعات مجلّة العرب، الرياض، ص 90
24- تاريخ اليعقوبي، دار صادر، بيروت، ج1، ص101
25- الراجح من اسمه أنّه قبطيّ مسيحيّ: Pakhomius
26- الأزرقي، أخبار مكّة، دار الأندلس، بيروت، 1983، ص210
27- François Decret, Mani et la tradition manichéenne, Seuil, Paris, 2005, p25 réf : Inscription de Karter, tr Marie louise Chaumont, parue dans JA, 1960, p339-380
28- Frédéric Lenoir, Comment Jesus est devenu Dieu, Fayard, Paris, 2010, p144
29- Edouard-Marie Gallez, Le Messie et son prophète, t1, éd. de Paris, 2005, p253
30- ابن كثير، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، 1988، ج3، ص21
31- إنجيل الطفولة، 26
32- Edouard-Marie Gallez, Le Messie et son prophète, t1, éd. de Paris, 2005, p32
33- Corpus Scriptorum Historiae Byzantinae/Theophanis Chronographia/V1-41/1839/A6119
34- Chronique Michel le Grand, tr Victor Langlois, Italie, 1868, ch27
35- محمّد بن حبيب البغدادي، المنمّق في أخبار قريش، مصدر سابق، ص 531
36- البخاري، الحميدي في الجمع بين الصحيحين، ج2، ص 60
قراءة في بعض السيرة النبويّة (3/3)
http://www.alawan.org/قراءة-في-بعض.html
ذهب بعض الباحثين(1) إلى أنّ محمّدا لم يوجد وأنّه صناعة أسطوريّة متأخّرة حتّمتها الظروف العقائديّة والاجتماعيّة للإمبراطوريّة العربيّة الناشئة، فألّف كتبة السيرة قصّة تنهل من موروث الحضارات والبلدان التي فتحوها وأسقطوها كلّها على شخصيّة شخص أو قائد أو نبيّ سمّوه محمّدا، فمثله مثل عيسى أو موسى أو سليمان ليس لهم وجود إلاّ في المجال الدينيّ لا التاريخيّ.
ونحن إذ نتّفق معهم في كثرة الأساطير التي تزخر بها السيرة فإنّنا نختلف معهم بشأن وجود محمّد، حيث أنّنا لا نعتمد السيرة العربيّة وحدها والتي من المؤكّد أنّها تحرّكها أغراض دينيّة أكثر منها تاريخيّة، وإنّما ننظر أيضا إلى المصادر الخارجيّة الأجنبيّة المعاصرة لفترة بدايات الإسلام وهي تؤكّد أحداث السيرة في خطوطها العامة أو تنفيها أو تقدّم وجهة نظر أخرى، ومن هذه المصادر الأجنبيّة تاريخ سبيوس المكتوب باللغة الأرمينيّة سنة 660 ميلادي وهو نصّ معاصر للأحداث تقريبا يذكر محمّدا بالاسم ويشير إلى أنّه تاجر (2) وهذا يتّفق مع السيرة العربيّة في هذه النقطة، وكذلك توما القسّيس سنة 640 ميلادي متحدّثا عن معركة غزّة وذاكرا اسم محمّد(3) ويذكره أيضا تاريخ خوزستان سنة 660 ميلادي(4) ويعقوب الرهوي سنة 708 ميلادي(5) الخ..
فوجود شخص كان اسمه أو كنيته أو صفته "محمّدا" كمشرّع وقائد تؤكّده المصادر الأجنبيّة المعاصرة وتؤكّد أيضا على أنّ هذا النبيّ كان محاربا ويسفك الدماء بلا هوادة، مثلما جاء في دوكترينا جاكوبي سنة 640-660 ميلادي(6) فبدل أن ننفي وجود محمّد كونه تأسطر كثيرا، علينا أن نبحث عن محمّد التاريخيّ خلف هذه الطبقات من التراكمات الدينيّة والزيادات الأسطوريّة، وإن كنّا ندرك حجم الصعوبات الكثيرة التي تحيط بمثل هكذا أبحاث بسبب النقص الشديد في المعلومات الأركيولوجيّة في مكّة والمدينة ووقوعها تحت سلطة الرقابة الدينيّة.
تشير السيرة إلى أنّ النبيّ هو ابن عبد الله الذي توفّي عن عمر 25 أو 28 سنة(7) قبل ولادة النبيّ، فكان دوره في السيرة هو إنجاب النبيّ ثمّ الوفاة ولا توجد معلومات إلاّ نادرة عنه بينما يتوسّع الإخباريّون في الحديث عن عبد المطّلب جدّ النبيّ وعن هاشم جدّ عبد المطّلب وعن النبيّ بطبيعة الحال، لكن عبد اللّه كان دوره مثل أدوار "الكومبارس" فما عليه إلاّ أن ينجب محمّدا ثمّ يخرج من الصورة.
واسم عبد الله هو كنية وليس اسما حقيقيّا فكلّنا عباد الله ويمكن أن نسمّي أيّ شخص "عبد الله" ونلاحظ في النقوش وفي العملة في القرن الأوّل الهجري أنّ كنية عبد الله تقترن دائما باسم الشخص فنقرأ في نقش في الطائف: عبد الله معاوية أمير المؤمنين، وفي بعض العملات: عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، وفي نقش على عملة دمشقيّة: عبد الله الوليد أمير المؤمنين، وفي رسالة أمويّة: عبد الله سليمان أمير المؤمنين، وفي نقش في قصر الخير نقرأ: عبد الله هشام أمير المؤمنين(8) الخ… إلاّ عبد الله والد النبيّ فلم تقدّم السيرة لنا اسمه الحقيقيّ وربّما لم يكونوا يعرفونه خاصّة إذا ربطنا هذا الطرح مع ما جاء في الترمذي: عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم من خير فرقهم وخير الفريقين ثم تخيّر القبائل فجعلني من خير قبيلة ثم تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا، قال أبو عيسى هذا حديث حسن(9).
وجاء في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: مثل نخلة في كبوة من الأرض، أي كصفة نخلة نبتت في كناسة من الأرض، والمعنى أنّهم طعنوا في حسبك(10) فالكبوة هي الشيء الذي يُكنس خارجا ونقرأ في لسان العرب: الكبة الكناسة من الأسماء الناقصة أصلها كبوة بضم الكاف مثل القلة أصلها قلوة والثبة أصلها ثبوة ويقال للربوة كبوة بالضم قال وقال الزمخشري الكبا الكناسة وجمعه أكباء والكبة بوزن قلة وظبة نحوها وأصلها كبوة وعلى الأصل جاء الحديث قال وكأنّ المحدث لم يضبطه فجعلها كبوة بالفتح قال ابن الأثير فإن صحت الرواية بها فوجهه أن تطلق الكبوة وهي المرة الواحدة من الكسح على الكساحة والكناسة وقال أبو بكر الكبا جمع كبة وهي البعر وقال هي المزبلة(11).
ولنا أن نتساءل ما الذي يجعل هؤلاء القوم من قريش يشكّكون في نسب النبيّ إلى بني هاشم إن كان معروفا عندهم؟ ونقرأ حديثا آخر أغرب منه في البخاري، وهو أنّ حمزة بن عبد المطّلب بعد غزوة بدر قتل ناقتين غنمهما عليّ بن أبي طالب، وكان حمزة في بيت أحد الأنصار يشرب الخمر ويستمع لقينة تغنّي فقالت هذه المغنّية: أيا حمز للشرف النواء، فملأ الفخر حمزة فأخذ سيفه وقتل ناقتين لعليّ فاشتكى عليّ للنبيّ: فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بردائه فارتدى ثم انطلق يمشي واتبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء البيت الذي فيه حمزة فاستأذن فأذن له فإذا هم شربٌ فطفق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يلوم حمزة فيما فعل فإذا حمزة ثمل محمرّة عيناه فنظر إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فصعّد النظر إلى ركبته ثم صعّد النظر إلى سرّته ثم صعّد النظر إلى وجهه ثم قال حمزة وهل أنتم إلا عبيدٌ لأبي فعرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه ثملٌ فنكص رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على عقبيه القهقرى وخرج وخرجنا معه(12) ما الذي يدعو حمزة إلى أن يعتبر النبيّ عبدا لأبيه؟ يفسّرها ابن حجر في شرح البخاري أنّ الجدّ يسمّى سيّدا وحمزة أقرب إلى عبد المطّلب من محمّد فأراد أن يفخر بهذا الكلام، وهذا تبرير ضعيف وخاصّة إذا ربطنا الحادثة مع ما تقوّله بعض قريش مثلما أشرنا في سنن الترمذي، وكذلك اسم "عبد الله" الذي هو للديكور كما يبدو، فهل كان محمّد مولى لعبد المطّلب؟
وأودّ أن ألفت انتباه القارئ -الذي قد يُصطدم- إلى كون محمّد هو ابن عبد الله أو ابن شخص آخر أو مولى لعبد المطّلب فهو أمر لا يطعن في شخصيّته وقيمته فنحن نعرف أنّ لقريشا أسبابها السياسيّة التي تدفعها لجعل النبيّ منها، فكان الحديث الذي يقول: إنّ هذا الأمر [أي الحكم] في قريش لا يعاديهم أحدٌ إلا كبّه الله على وجهه، ما أقاموا الدين(13) أو الحديث القائل: قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، لا يزال هذا الأمر في قريشٍ ما بقي منهم اثنان(14) وغير ذلك من الأحاديث التي ترفع من شأن قريش وتوطّد حكمها، وكلّها أحاديث صحيحة، أو جعلوها كذلك، فللملك أسباب ومنطق وللسلطان هوى وحيلة، وكان مصير كلّ من عارض حكم قريش القتل والصلب مثلما حدث مع غيلان الدمشقيّ الذي قال عن الإمامة أنّها تصلح في غير قريش(15) فضرب هشام بن عبد الملك عنقه، ولا ننسى أنّ السيرة التي وصلتنا مكتوبة في العهد العبّاسي فلا بدّ أن يكون النبيّ قريبا للعبّاس بقرابة دم وثيقة، فالأمر والحكم فيهم ومنهم، ونتذكّر قول طه حسين: لأمر ما اقتنع الناس بأنّ النبيّ يجب أن يكون صفوة بني هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانيّة كلّها. وأخذ القصّاص يجتهدون في تثبيت هذا النوع من التصفية والتنقية وما يتّصل منه بأسرة النبيّ خاصّة(16).
ويروي ابن سعد في الطبقات: قيل لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنّ هاهنا ناساً من كندة يزعمون أنك منهم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنّما ذلك شيء كان يقوله العبّاس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب ليأمنا باليمن، معاذ الله أن نزني أمنا أو نقفو أبانا، نحن بنو النضر بن كنانة، من قال غير ذلك فقد كذب(17) وفي رواية أخرى: عن الأشعث بن قيس قال: قدمت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في وفد من كندة لا يروني أفضلهم، قال عفان: فقلت يا رسول الله إنّا نزعم أنّكم منّا، قال فقال: نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمّنا ولا ننتفي من أبينا. قال فقال الأشعث بن قيس: لا أسمع أحداً ينفي قريشاً من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد(18) ونحن اليوم نستطيع التأكّد-تقريبا- من عدم صحّة هذا الكلام، فإن كان هؤلاء القوم يقصدون أنّ قريشا يعودون إلى كندة في النسب، فهذا غير صحيح، لأنّ كندة في جنوب الجزيرة قرب حضرموت، وعندنا نصّ لكاتب سريانيّ يعود إلى سنة 485 ميلادي جاء فيه: غزوات أبناء هاجر [أي العرب] هي أشدّ عنفا حتّى من المجاعة (…) ونأسف لما يفعله أبناء هاجر وخاصّة قبيلة قريش الذين هم كالحيوانات(19) والمكان الذي يتحدّث عنه هو "بيت عرامايا" في غرب الشام، فقريش تسكن في تلك المنطقة بوصفها تغير على المناطق المحاذية بينما كندة بعيدة جدّا في الجنوب، ونجد بعض الصدى في السيرة لوجود قريش في الشام إذ أنّ قصيّا -جدّ النبيّ- كان يعيش هناك(20) والنبيّ نفسه كانت له أملاك في حبرى وبيت عينون في الشام(21) وهاشم جدّ النبيّ مات بغزّة في الشام(22) حيث نلاحظ علاقة قريش -أو على الأقلّ نسل قصيّ- بالشام في كلّ مرّة. أمّا إذا كان هؤلاء القوم يقصدون أنّ النبيّ فقط من كندة فهذا أيضا بعيد لأنّ كلّ المصادر غير العربيّة تذكر أنّ النبيّ خرج من يثرب، ولا تتعرّض إلى مكّة إطلاقا ناهيك على جنوبها، وعبد الله –إن وُجد- مات في يثرب وآمنة توفّيتْ أثناء العودة من يثرب وعبد المطّلب ولد في يثرب وهاشم تزوّج في يثرب ومات في الشام والنبيّ كما نعرف هاجر إلى يثرب، فالمنطقة الجغرافيّة لهذه الأحداث تشمل الشام شمالا ويثرب جنوبا، ثمّ مكّة، ونقرأ في شعر حسّان بن ثابت:
نصرنــــا وآوينا النبيّ محمّدا***على أنف راض من معدّ وراغم
بحي حريـــــد أصله، وذماره***بجابية الجولان، وسْط الأعــاجم
نصرناه لمّا حلّ وسْط رحالنا***بأسيافنـــــــــا من كلّ باغ وظالم(23)
فأصل النبيّ عند حسّان من الشام بمنطقة الجولان، بينما كندة ما زالت بعيدة في الجنوب ولا نجد صدى واحدا -ولو كان ضعيفا- لعلاقة النبيّ بها. ويمكننا ربط أبيات حسّان هذه مع كتاب "الهاجريّون" لباتريسيا كرون(24) التي أشارت إلى أنّ الدعوة انطلقتْ من الشام وليس من مكّة الحجاز، أو مع نصّ سبيوس بالأرمينيّة سنة 660 ميلادي، وجاء فيه: في ذلك الوقت اجتمع يهود الاثنتي عشرة قبيلة في مدينة الرها، وأخذوا طريق الصحراء ووصلوا إلى بلاد العرب عند أبناء إسماعيل وطلبوا نجدتهم وأخبروهم أنّهم أقارب حسب التوراة، فآمن [هؤلاء العرب] بهذه القرابة بيد أنّ اليهود لم يستطيعوا إقناع كلّ الشعب [القبائل] لأنّ ديانتهم كانت مختلفة(25)
وبتتبّعنا لشجرة الأنساب التي وضعها كتبة السيرة، رغم أنّها غير حقيقيّة في أغلبها وخاصّة حين يذكرون الجدّ العشرين-وربّما الجدّ رقم خمسين أيضا- لكلّ شخص ولا يتوقّفون عند ذلك بل يذكرون أسماء أمّهاتهم وأجدادهنّ وأمّهات أجدادهنّ وجدّات أمّهات أجدادهنّ وخالات أمّهات أجدادهنّ الخ.. والتي تعود إلى ألف سنة مضتْ وقت تدوينها، وربّما أكثر، وبالتفصيل المملّ وكأنّ كتبة السيرة يقرؤون الأنساب من دفتر للحالة المدنيّة بل ومخزّن في حاسوب أيضا، قلت بتتبّعنا لهذه الشجرة حيث أنّ قصيّا وزهرة أخوان نجد التالي:
قصيّ=عبد مناف=هاشم=عبد المطلب=عبد الله=محمد
زهرة=عبد مناف=وهب=آمنة أمّ النبيّ=محمّد
فآمنة هي من جيل عبد المطلب كما أنّها امرأة والنساء يتزوّجن مبكّرا في ذلك الوقت، وزهرة أكبر من قصيّ بخمس عشرة سنة على الأقلّ وهو ما يزيد هذا الحساب تعقيدا ويُبعد آمنة أكثر عن محمّد، بينما لو حذفنا "عبد الله" من السلسلة لاستقام الحساب، ولم أجد عمر آمنة في كتب التراث -على حدّ علمي- لكن نفهم من السيرة أنّها تزوّجتْ عذراء فكان عبد الله أوّل زوج لها ثمّ توفّيتْ بعده بستّ سنوات، لكنّنا نقرأ في سيرة ابن هشام أنّ آمنة تروي قائلة: ثمّ حملتُ به [أي بمحمّد] فوالله ما رأيت من حمل قطّ كان أخفّ عليّ ولا أيسر منه(26) فهي تذكر أنّ حملها بمحمّد هو أخفّ حمل، فهل لمحمّد إخوة؟ يمكننا تضعيف هذه الرواية أو تأويلها بيد أنّ هناك رواية أخرى واضحة جدّا يذكرها ابن سعد في الطبقات: قالت أم النبي، صلى الله عليه وسلم، قد حملتُ الأولاد فما حملتُ سخلة أثقل منه(27) ففي رواية أنّ حملها خفيف وفي أخرى ثقيل لكن ما يهمّنا هو قولها: قد حملتُ الأولاد، ويمكننا أن نتتبّع رواة هذا الحديث وهو حديث مرفوع يرويه ابن سعد عن عمرو بن عاصم الكلابي الذي أخبره همّام بن يحي عن إسحاق بن عبد الله عن آمنة، ولننظر ماذا يقول رجال الجرح والتعديل في تهذيب الكمال عن هؤلاء الرواة:
الراوي الأوّل إسحاق بن عبد الله: قال عنه يحي بن معين: ثقة، وقال أبو زرعة وأبو حاتم والنسائيّ: ثقة، وقال الواقدي: كان مالك لا يقدّم عليه في الحديث أحدا.
فرتبة الراوي الأوّل، وهو إسحاق بن عبد الله: ثقة حجّة.وهو من رجال البخاري ومسلم.
الراوي الثاني همّام بن يحي: قال عنه يزيد بن هارون: كان همّام قويّا في الحديث، وقال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ثبت في كلّ المشايخ، وقال أحمد بن حنبل: همّام ثقة، وقال يحي بن معين: ثقة صالح، وذكره ابن حبّان في كتاب الثقات الخ…
فرتبة الراوي الثاني: ثقة، وهو من رجال البخاري ومسلم.
الراوي الثالث، عمرو بن عاصم، رتبته: صدوق حسن الحديث وهو من رجال البخاري ومسلم.
الراوي الرابع، محمّد بن سعد، رتبته: حسن الحديث.
لقد ذكرت تخريج سند هذا الحديث حتّى لا يطعن طاعن في رواته ويتّهمهم بالتدليس والتزوير، كما أنّ معناه "وهو أنّ آمنة حملت بأولاد آخرين" مذكور بأسانيد أخرى أيضا(28) وهي تقوّي بعضها بعضا، وإذ أنّه يستوي لدينا الحديث الصحيح والضعيف في البحث العلمي حيث نعتمد على تقاطعات النصوص العربيّة وغير العربيّة والأركيولوجيا والعملة فإنّنا اتّبعنا منهج رجال الحديث في الحكم على حديث آمنة أعلاه وهو: إسناده حسن.
أمّا من حيث المتن فهو منكر بطبيعة الحال لأنّ محمّدا يجب أن يكون وحيد أبويه، ويجب أن يتزوّج عبد الله لكي تحمل منه آمنة ثمّ يموت بعد أيّام أو أشهر من زواجه، فدوره محدّد في السيرة، وهو أن يكون أبا محمّد، ويجب أن تنجب آمنة محمّدا ثمّ تموت حين يبلغ ستّ أو سبع سنوات وتختفي من الصورة أيضا ليتمّ التركيز على عبد المطّلب ثمّ على أبي طالب.
لكنّنا نرجّح أنّ الصورة التي يجب تقديمها عن محمّد لم تكن قد اتّضحتْ بعد، فإسحاق بن عبد الله راوي الحديث كان قد توفّي سنة مائة واثنين وثلاثين هجري وهي بدايات مرحلة التدوين وكانت الروايات متعدّدة حدّ التناقض إلى أن وضعوا الصورة النهائيّة عن محمّد فيما بعد. ويبدأ ابن هشام السيرة موضّحا أنّه اختصر وزاد في سيرة ابن إسحاق ويقول: [إنّي] تارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب (…) وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث فيه، وبعض يسوء بعض الناس ذكره..(29).
فكلّ ما هذّبه ابن هشام واختصره وزاد فيه صار السيرة النبويّة المعتمدة، وهو قد اعتمد رواية البكّائي، بيد أنّنا نملك سيرة ابن إسحاق برواية ابن بكير ونعطي عيّنة عن حجم الاختلاف: عن ابن إسحاق قال: كنت جالسا مع أبي جعفر محمّد بن عليّ، فمرّ بنا عبد الرحمن الأعرج مولى ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، فدعاه، فجاءه، فقال يا أعرج ما هذا الذي يُحدّث به أنّ عبد المطّلب هو الذي وضع حجر الركن في موضعه؟ فقال: أصلحك الله، حدّثني من سمع عمر بن عبد العزيز، يحدّثه أنّه حدّث عن حسّان بن ثابت يقول: حضرتُ بنيان الكعبة، فكأنّي أنظر إلى عبد المطّلب جالسا على السور شيخ كبير وقد عُصب له حاجباه، ، حتّى رُفع إليه الركن، فكان هو من وضعه بيديه، فقال: انفذ راشدا. ثمّ أقبل على أبي جعفر فقال: إنّ هذا لشيء ما سمعنا به قطّ، وما وضعه إلاّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، اختلفتْ فيه قريش فقالوا أوّل من يدخل عليكم من باب المسجد فهو بينكم، فدخل رسول الله فقالوا: هذا الأمين، فحكّموه فأمر بثوب فبسط، ثمّ أخذ الركن بيده فوضعه على الثوب، ثمّ قال: لتأخذ كلّ قبيلة من الثوب بناحية وارفعوا جميعا…(30) فهناك من يحدّث في هذه الرواية أنّ عبد المطّلب هو الذي حمل الحجر الأسود ووضعه مكانه، وهي رواية منطقيّة أكثر إذا استثنينا عبد الله وجعلنا محمّدا مكانه فيكون عبد المطّلب حيّا وقتها، وتذكر بعض كتب السيرة أنّ حمزة كان أكبر من النبيّ بأربع سنوات(31) ولكنّها بالمقابل تذكر قصّة نذر عبد المطّلب ذبح أحد أبنائه إن أنجب عشرة أولاد وتشير في الوقت نفسه إلى أنّه تزوّج في اليوم ذاته مع ابنه عبد الله(32) من هالة بنت وهيب أخت آمنة وأنجب منها حمزة والمقوّم وحجل وصفيّة(33).
كما أنّ عبد الله توفّي مباشرة بعد الزواج وهنا يوجد تناقض كبير فأبناء عبد المطّلب "الرجال"، حسب هذه الرواية، قبل وفاة عبد الله هم: أبو طالب والزبير والعبّاس وضرار والحارث وأبو لهب، فهؤلاء ستّة أشخاص ويصبحون سبعة إذا أضفنا عبد الله، فكيف حقّق عبد المطّلب نذره وحاول ذبح أحد أبنائه؟ فإمّا أنّ قصّة النذر خياليّة تدخل في باب التشويق الروائي فكما أنّ فرعون أمر بقتل المواليد الجدد ونجا موسى، وهيرودس أمر بقتلهم أيضا ونجا عيسى فها أنّ عبد الله أبا محمّد نجا من الموت أيضا ولكن القصّة على الطريقة العربيّة مع الإسهاب في عرض التفاصيل والشخصيّات حيث لا يعوزهم الخيال مطلقا، وإمّا أنّ عبد المطّلب تزوّج من هالة قبل ابنه عبد الله وأنجب حمزة والمقوّم وحجل ثمّ أنجب عبد الله في الأخير، فيصبح العدد عشرة، ولكن ما السبب الذي دفعهم لذكر زواج عبد المطّلب في اليوم نفسه مع عبد الله؟ وما السبب في ذكر أنّ حمزة أكبر من النبيّ بأربع سنوات فقط؟ يمكننا الإجابة أنّ حمزة أكبر من النبيّ بأربع سنوات وذلك لأنّ عبد الله لم يوجد، وهو شخصيّة وهميّة، وخاصّة إذا أشرنا إلى أنّ غزوة أبرهة كانت سنة 552 ميلادي، مثلما ذكرنا أوّل البحث، وربّما يكون محمّد مولودا فعلا في ذلك التاريخ.
قد يقول قائل: إن سلّمنا بأنّ عبد الله هو شخصيّة وهميّة وبأنّ محمّدا هو ابن عبد المطّلب بل ونسلّم أيضا أنّه ليس ابنه وتبنّاه وكفله، والله أعلم أين يضع رسالته، فما الذي يدعو كتبة السيرة إلى اختلاق شخصيّة عبد الله؟ كان يمكنهم كتابة أنّ محمّدا هو ابن عبد المطّلب مباشرة وهذا أكثر شرفا وأكبر مجدا، فما الداعي إلى أن ينزعوا عن محمّد هذا الشرف وهم في موضع البحث عن كلّ ما يرفع من شأنه؟
إن "حذفوا" عبد الله فسيكون عمر محمّد كبيرا –ثمانين سنة- بينما يجب أن ينزل الوحي في سنّ أربعين سنة فلمْ يختاروا هذه السنّ اعتباطا والتي تشير إلى اكتمال العقل في الموروث الشرق-أوسطي كقول القرآن متحدّثا عن الإنسان: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن اشكر نعمتك التي أنعمت عليّ..(الأحقاف، 15) وسيكون بين نزول الوحي ووفاته أربعون سنة وهذا كثير فلزم تقليص المدّة بجعل عبد الله بين محمّد وعبد المطّلب وتكون الدعوة عشرين سنة فقط، كما لا يخفى علينا الاختلاف الشديد بين الفترة المكيّة والفترة المدنيّة وكأنّهما شخصان مختلفان تمّ دمجهما في شخص واحد، فمحمّد المكّي يقول: قل لا أسألكم عليه أجرا إلاّ المودّة في القربى (الشورى، 23) بينما المدني يقول: يا أيّها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإنّ الله غفور رحيم (المجادلة، 12) فالأوّل لا يطلب أجرا بينما الثاني يطلبه مع التسهيل، والمكيّ يقول: خذ العفو وأْمرْ بالعرف وأعرض عن الجاهلين (الأعراف، 199) بينما المدني يقول: إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض (المائدة، 5) والأوّل يقول: ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن (النحل، 16) بينما الثاني يقول: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (التوبة، 29) إلى آخره من الأمثلة دون ذكر تدخّل القرآن المدني في كلّ مرّة لتطليق هذا وتزويج ذاك، والفرق واضح بين الشخصيّتين، في الرؤية وفي الأسلوب أيضا، فالقرآن المكّي يختلف أسلوبا وبناءً عن القرآن المدني وكلّ كاتب له بصمته الأسلوبيّة التي تختلف عن غيره وليس مقام هذا المبحث هنا.
وبمناسبة نزول الوحي تشير كتب السيرة اعتمادا على ابن إسحاق أنّ النبيّ كان في غار حراء حين تلقّى الوحي من جبريل، لكن إذا عدنا إلى تفسير مقاتل بن سليمان لسورة العلق (وهو معاصر لابن إسحاق) نقرأ التالي: سورة العلق مكية ، عددها تسع عشرة آية كوفى، قوله : (اقرأ باسم ربك ( يعني بالواحد ) الذي خلق ) يعني الإنسان ، وكان أوّل شيء نزل من القرآن خمس آيات من أول هذه السورة (…) وذلك أنّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دخل المسجد الحرام، فإذا أبو جهل يقلّد إلهه الذي يعبده طوقاً من ذهب ، وقد طيبه بالمسك، وهو يقول : يا هبل لكلّ شيء سكن ، ولك خير جزاء، أما وعزّتك لأسرنك القابل (…) فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ويحك، أعطاك إلهك وشكرت غيره، أما والله لله فيك نقمة، فانظر متى تكون ؟ ويحك، يا عم، أدعوك إلى الله وحده، فإنّه ربّك وربّ آبائك الأوّلين وهو خلقك ورزقك، فإن اتّبعتنى أصبت الدنيا والآخرة، قال له: واللات والعزّى ورب هذه البنية لئن لم تنته عن مقالتك هذه ، فإن وجدتك هاهنا ، وأنت تعبد غير آلهتنا لأسفعنّك على ناصيتك يقول: لأخرجنّك على وجهك، أليس هؤلاء بناته، قال : وأنّى يكون له ولد ؟ .فأنزل الله عز وجل: (علّم الإنسان ما لم يعلم ) والنبي، صلى الله عليه وسلم، يومئذٍ بالأراك ضحى.(34)
فآيات سورة العلق الأولى نزلت والنبيّ عند الكعبة، حسب مقاتل بن سليمان، بينما نزلتْ والنبيّ في غار حراء عند ابن هشام، وتبعه أهل التفسير، ويذكر مقاتل غار حراء ولكن بطريقة أخرى حيث يقول: (يا أيها المدثر ) يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنّ كفّار مكّة آذوه، فانطلق إلى جبل حراء ليتوارى عنهم، فبينما هو يمشي، إذ سمع منادياً يقول: يا محمّد، فنظر يميناً وشمالاً وإلى السماء، فلم ير شيئاً، فمضى على وجهه، فنودي الثانية: يا محمد، فنظر يميناً وشمالاً ، ومن خلفه ، فلم ير شيئاً إلا السماء (…) ففزع فزعا شديدا، ثم وقع مغشيا عليه ولبث ساعة. ثمّ أفاق يمشي وبه رعدة شديدة ورجلاه تصطكّان راجعا حتى دخل على خديجة، فدعا بماء فصبّه عليه، فقال: دثّروني، فدثّروه بقطيفة حتى استدفأ…(35)
بينما ابن إسحاق –برواية ابن بكير- يشير إلى أنّ النبيّ كان في غار حراء ومعه أهله، أي خديجة ومواليها، فنام فرأى جبريل في المنام يقول له اقرأ الخ… فخرج يريد أن ينتحر (قصّة محاولة الانتحار موجودة في البخاري أيضا) لكنّه رأى رؤيا أخرى فيها جبريل يثبّته فعاد إلى خديجة في الغار وحدّثها بما رأى فجمعتْ ثيابها وذهبتْ إلى ورقة بن نوفل(36).
فقصّة نزول الوحي في غار حراء ومخاطبة جبريل النبيّ لم تكن قد توضّحتْ بعد، فدمجوا بعض الروايات ببعضها بعضا وزادوا عليها ووضعوها في صورتها النهائيّة. وقد تطوّرتْ صورة جبريل في المخيال الشعبيّ فصار له ستّمائة جناح وأحيانا يأتي لابسا عمامة من استبرق، راكبا على بغلة، وأحيانا يأتي في صورة شيخ يلبس البياض، وغير ذلك من الأساطير، بيد أنّ الروايات الأولى تشير إلى أنّ النبيّ كان يتلقّى الوحي في المنام وهو ما نراه أيضا في مصدر غير عربيّ عند يوحنّا الدمشقيّ في القرن الأوّل الهجريّ أثناء محاوراته مع المسلمين فيقول: نسألهم [أي المسلمين] كيف تلقّى نبيّكم الوحي؟ فيجيبون أنّه نزل عليه من السماء أثناء نومه.(37)
من الصعب تقديم سيرة علميّة حقيقيّة للنبيّ دون اعتماد الأركيولوجيا، وخارج روايات السيرة الدينيّة الموجّهة مسبّقا، بيد أنّ المعلومات الأركيولوجيّة نادرة في تلك المنطقة من الحجاز وتخضع للغربلة والفرز حيث أنّ هناك مناطق يُمنع البحث فيها فلا يتبقّى لنا إلاّ النصوص العربيّة والأجنبيّة للبحث عن أماكن التقاطع وربطها مع المعلومات الأركيولوجيّة الموجودة في مناطق أخرى لكن نظلّ دائما على مستوى الفرضيّات ما دمنا لا نبحث في منطقة الحدث مباشرة.
الهوامش:
1-René Marchand, Mahomet, contre enquête, Echiquier, Paris, 2006, p114 en citant : Morozov, Klimovitch, Tolstov, Bernard Requin etc..
2-Histoire d'Héraclius, l'Evêque Sebeos, tr: Frédéric Macler, Paris, IN, 1894, ch.30 ; A.L de Premare, Les fondations de l’islam, Seuil, Paris, 2002, p38
3- Seeing Islam as others saw it, Robert Hoyland, The Darwin Press, USA, 1997, p120; A.L de Premare, Les Fondations de L’Islam, op.cit, p147
4- Robert Hoyland, Seeing, op.cit, p549
5-Ibid., p165
6- Ibid., p57 ; A.L.Premare, Fondations, op.cit, p148
7- البلاذري، أنساب الأشراف، تحقيق سهيل زكار ورياض زركلي، دار الفكر، 1996، ج1، ص67
8- The Hidden origins of Islam, Karl-Heinz Ohling and Gerd-R Puin, Prometheus book, USA, 2010, Volker Popp, p30-31
9-سنن الترمذي، باب المناقب، فضل النبيّ، 3540
10-المباركفوري، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، تحقيق عبد الوهاب بن عبد اللطيف، المكتبة السلفيّة، 1963، ج10، ص 75
11-ابن منظور، لسان العرب، مادة "كبا"
12-الجمع بين صحيحي بخاري ومسلم، الحميدي، تحقيق د.علي حسن البواب، دار ابن حزم، لبنان، 2002، ج1، ص74 ويبدو أنّ تحريم الخمر متأخّر فيروي البخاري: عن جابر، قال اصطبح الخمر يوم أحد ناس ثم قتلوا شهداء [أي سهروا يشربون الخمر ثمّ في الصباح قاتلوا في معركة أحد وماتوا شهداء]
13-البخاري، الجمع بين الصحيحين، ج3، 311
14- المصدر السابق، ج2، ص198
15- الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق محمّد سيّد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، ج1، ص 143
16-طه حسين، في الأدب الجاهلي، مطبعة فاروق، 1933، ص138
17-ابن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق د.علي محمّد عمر، مكتبة الخانجي، مصر، 2001، ج1، ص 23
18-المصدر السابق.
19-Edouard-Marie Gallez, Le Messie et son prophète, t2, éditions de Paris, 2005, p272 réf. : Mingana Alphonse, Leave from three Ancient Kur’ans possibly pré-othmanic, Cambridge University Press, 1914, p 13
20-ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج1، ص 48-49
21-ابن دريد، الاشتقاق، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، 1991، ج1، ص 377
22- ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق:مصطفى السقّا-الأبياري-شلبي، دار الكتب العلميّة، لبنان، 2004، ص115
23- ديوان حسّان بن ثابت، تحقيق: د.وليد عرفات، دار صادر، 2006، ج2، ص109
24- الكتاب موجود بالعربيّة بترجمة نبيل فيّاض.
25-Histoire d'Héraclius, l'Evêque Sebeos, op.cit
26- المصدر السابق، ص133
27-ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج1، ص 98
28-ورد مع اختلاف في اللفظ في الروض الأنف والسيرة الحلبيّة وتاريخ الطبري الخ…
29-سيرة ابن هشام، مصدر سابق، ص 23
30-سيرة ابن إسحاق، تحقيق حميد الله، معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، 1976، ص 88
31-ابن سعد، الطبقات، مصدر سابق، ج3، ص10/ ويذكر البلاذري في أنساب الأشراف، ج1، ص53: ثنا محمد بن عمر، قال: سألت عبد الله بن جعفر: متى كان حفر عبد المطلب زمزم؟ فقال: وهو ابن أربعين سنة. قلت: فمتى كان أراد أن يذبح ولده؟ قال: بعد ذلك بثلاثين سنة. قلت: قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجل، وقبل مولد حمزة.
32-ابن عبد البرّ، الاستيعاب، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الجبل، بيروت، ج1، ص28
33-حسين مؤنس، أطلس تاريخ الإسلام، الزهراء للإعلام العربي، مصر، 1987، ص 88
34-تفسير مقاتل بن سليمان، سورة العلق، تحقيق أحمد فريد، دار الكتب العلميّة، لبنان، 2003
35-المصدر السابق، سورة المدثر
36-سيرة ابن إسحاق، تحقيق حميد الله، مصدر سابق، ص 101-102
37-St Jean Damascène et son influence en orient sous les premiers Khalifes, par Félix Neve, Revue belge et étrangère, t12, 1861, p 15