اسحاق نقاش
تكوين المجتمع الشيعي العراقي ..
ارتبط الاسلام الشيعي منذ بدايته ارتباطا وثيقا بالعراق لأن العديد من الأحداث المكوّنه للتاريخ الشيعي وقعت هناك . ففي العام 661م , اغتيل علي بن ابي طالب , الخليفه الرابع والامام الشيعي الاول , في أحد مساجد الكوفه , وقتل الحسين بن علي , الذي طالب بالخلافه , مع صحبه في معركه وقعت في كربلاء عام 680 م . وأمضى العديد من الأئمه الشيعه الاثني عشر , شطرا , على الاقل , من حياتهم في العراق . وفي العراق توجد مدن العتبات الشيعيه الأربع , الأكثر قدسيه , وهي النجف وكربلاء والكاظمين وسامراء , ومنذ المراحل المبكره للتاريخ الأسلامي , كان الكثير من النشاط الأكاديمي الشيعي يمارس في مراكز العراق مثل الكوفه والحله وبغداد والنجف وكربلاء . وأخيرا كان العراق فيما مضى ارضا حكمتها سلالات شيعيه , أبرزها البويهيون ( 945 – 1055 ) .
ولكن هل يمكن لهذا أن يفسر طبيعة وموقع الاسلام الشيعي في العراق كما نعرفه في بداية القرن العشرين ؟
احتسب الاحصاء البريطاني التقريبي الذي اجرى في 1919 , عددهم مليون ونصف نسمه من مجموع مليونين وثمانمائه وخمسون الفا عراقي , أي حوالي 53% من السكان . وعدّلت هذه الارقام في عام 1932 لتصبح زهاء 56% . والقسم الاعظم من شيعة العراق هم عرب . وكان الفرس يشكلون حوالي 5% والهنود أقل من واحد في المئه . وأنخفضت أعدادهم منذ ذلك الحين . ومع بعض الاستثناءات القليله فان شيعة العراق يعتنقون المذهب الشيعي الامامي , وهذا القسم من السكان الشيعه هو الذي تعنى به هذه الدراسه .
العراق ... الارض الحدوديه
على امتداد خمسة قرون بعد سقوط الدوله العباسيه في 1258م , لم تكن لدى العراق حكومه قويه بما فيه الكفايه لترميم منظوماته الاروائيه الواسعه فيما مضى , أو اخضاع الاتحادات العشائريه العربيه التي استحوذت على الريف المقفر الذي فقد بؤرته المدينيه (بعد موجات الطاعون والحروب).
تزامن ظهور ايران الشيعيه الصفويه 1501 م , مع توطد اركان الامبراطوريه العثمانيه السنيه ثم محاولات السلطان سليم الاول ( 1512 – 1520 ) وسليمان القانوني ( 1520 – 1566 ) لبناء دولتهما كامبراطوريه عالميه . وأوجد هذا واقعا جديدا في العراق الذي أصبح ساحة حرب بين القوتين المتنافستين . وعلى الرغم من ان العراق اصبح ولايه عثمانيه بعد احتلال بغداد في اواخر 1533م فان الحكم العثماني للبلاد كان حتى القرن التاسع عشر حكما اسميا ناقصا في غالب الاحيان . وحتى اقامة النظام الملكي العراقي في عام 1922م كان الصراع العثماني – الايراني , على السيطره السياسيه والدينيه والاقتصاديه قد أحال العراق الى منطقه حدوديه مؤثرا بذلك على تركيب المجتمع الشيعي وتنظيم الاسلام الشيعي في البلاد . هذه المرحله الزمنيه اشتملت على فترتين من الاحتلال الايراني ( 1508 – 1533 ) و ( 1622 – 1638 ) .
في نهاية القرن السادس عشر كان مجتمع العراق الشيعي عربيا على العموم . وعرّض ظهور ايران الصفويه سكان العراق الى مؤثرات شيعيه فارسيه ( راجع تاريخ ظهور التشيع في ايران) . وكان تجار الفرس الشيعه قد جاءوا الى العراق لاول مره خلال فترتي الاحتلال الصفوي للبلاد , مستحوذين على قسم لا يستهان به من تجارة بغداد .
وفي اوائل القرن السابع عشر , لم يكن هناك فرس بعد في البصره التي كان سكانها يتالفون بالدرجه الرئيسيه من العرب والاتراك . وفي ذلك الوقت كان هناك بضعة الاف من الفرس في مدن مثل النجف وكربلاء والكاظمين وبغداد , ولكن الكثير منهم هربوا الى ايران بعد الاحتلال العثماني الثاني لبغداد 1638 . كانت الجاليه الفارسيه في عراق القرن السابع عشر تتالف في الغالب من التجار وأفراد آخرين جاءوا الى البلاد بحثا عن فرص أقتصاديه . ولم يكن هناك عدد كبير من الطلاب والعلماء الفرس في العراق , لأن المراكز الاكاديميه الشيعيه الرئيسيه كانت في ايران .
كان الاحتلال الأفغاني – السني لاصفهان في 1722 م , ومحاولات نادر شاه لتشجيع التقارب السني – الشيعي , ومصادرة الكثير من الاوقاف التي تدعم رجال الدين الشيعه في ايران , قد شردت المئات من عوائل العلماء الذين هرب الكثير منهم الى العراق ما بين ( 1722 – 1763 ) (
للمزيد عن نشوء التشيع في ايران اضغط هنا) . وانتقل مركز الدراسات الشيعيه من ايران الى , كربلاء ثم النجف . وانتشرت اللغه الفارسيه انتشارا واسعا في كربلاء والنجف وبغداد والبصره . ولمدة ثلاث سنوات كانت البصره تحت سيطرة الزند , بعد أن قام كريم خان زند , حاكم جنوب غرب ايران , باحتلال المدينه 1776 م . وطبق الصلاه على الطريقه الشيعيه ومواعظ الجمعه الشيعيه , وصك عملات تحمل اسماء الائمه الاثني عشر . واستغل العلماء الفرس الذين هاجروا الى العراق , انعدام الاستقرار بسبب صعود المماليك في عام 1747 م , وما تلا ذلك من حكم العراق حكما عثمانيا غير مباشر دام حتى عام1831م . ففي كربلاء والنجف تمكنت العوائل الفارسيه من ان تطغى على العلماء العرب , ونجحت في السيطره على الدوائر الدينيه . وانتهى الصراع بين العلماء " الاخباريين " التقليديين والعلماء " الاصوليين " العقلانيين حول منهجية الفقه الشيعي بانتصار " الاصوليين " , وكان الكثير منهم من الفرس , واحتلوا مواقعهم المرموقه داخل المؤسسه الدينيه الشيعيه في العراق بعد انتصارهم (حتى اليوم) . وبحلول منتصف القرن التاسع عشر كان العلماء الفرس يسيطرون على القسم الاعظم من الاموال الخيريه والمدارس الشيعيه مكتسبين بذلك سطوه عظيمه .
بدأ الهنود يستوطنون في مدن العتبات المقدسه منذ اواخر القرن الثامن عشر , وبظهور دولة " اوذه " الشيعيه في شمال الهند 1722م , والعلاقه مع مدن العتبات المقدسه , لم يكن سيل الهنود العارم قد أخذ بالتدفق على مدن العتبات المقدسه الا ابتداء من القرن التاسع عشر , بعد قيام البريطانيين بضم مملكة " اوذه " , وفي ذلك الوقت وصل عدة أثرياء من أفراد عائلة " النوّاب " الملكيه من اوذه الى مدن العتبات المقدسه . مما اجتذب هذا مزيدا من الهنود . وبتناقص ثروة وتقديمات ال النوّاب بمرور الزمن زاد وضع الهنود فقرا , وصولا الى العام 1903 م , وحين قرر البريطانيون الغاء " الصندوق الهندي " الذي كان يعتمد على اموال خيرية اوذه . ازداد وضع الهنود ترديا واصبح من الصعب تمييز الهنود عن غير الهنود بين العناصر الاثنيه في مدن العتبات المقدسه , بصوره متزايده في السنوات اللاحقه .
قدر عدد الفرس بثمانين الف فارسي في عام 1919 م وربما أكثر , وكانوا يتمتعون بوضع الرعايا الايرانيين , وكانوا سببا لتوتر العلاقات العثمانيه – القاجاريه ( اسلاف الصفويين 1794 – 1925 ) , وكان القناصل الايرانيين ومنذ العام اتفاقية العام 1875 م , يتمتعون بنفس امتيازات القناصل الاوروبيين في الامبرطوريه العثمانيه , ويتحكمون بالسلطه على الرعايا الايرانيين في قضايا القانون المدني والجنائي , والميراث . كما ثبتت الاتفاقيه اعفاء الرعايا الايرانيين من الضرائب التي يخضع لها الرعايا العثمانيون . وبرغم ان الاتفاقيه تنص على المعامله بالمثل الا ان الايرانيين استفادوا كثيرا منها . وتعكس الاتفاقيه ايضا السيطره الضعيفه للعثمانيين على العراق , وعدم رغبتهم في اندلاع حرب مع القاجاريين والذين وان كانوا لا يشكلون خطرا عسكريا حقيقيا على اسطنبول الا انهم انتزعوا من العثمانيين امتيازات لرعاياهم في العراق . كما كان ذلك يعكس محاولة اسطنبول لتهدئة الشيعه في العراق ازاء سياسة محمد علي التوسعيه من مصر , وفي مواجهة التغلغل الاوروبي المتعاظم ابان القرن التاسع عشر . كل ما سبق اعطى الشيعه الفرس افضليه على الشيعه العرب في العراق وفي مدن العتبات المقدسه , وجاءت الاتفاقيات لتعزز موقعهم الاقتصادي – الاجتماعي , وسهولة توافد الزوار , ونظّمت حركة نقل الموتى من ايران الى مدن العتبات المقدسه , وايضا جعل من الصعب على العثمانيين ان يمارسوا سيطره فعليه على النجف وكربلاء اللتين ظهرتا بوصفهما معقلي الاسلام الشيعي في العراق .
مدن العتبات المقدسه .. النجف .
يولي المؤمنون الشيعه احتراما دينيا عميقا لمدن النجف وكربلاء والكاظمين وسامراء, المقدسه التي تحدّد شكل تطورها بين القرن السادس عشر والقرن العشرين برغبة الدولتين العثمانيه والأيرانيه في السيطره على شؤون الشيعه في العراق .
وكان الأبرز تأثيرا بينها " النجف " التي أخذت منذ أوائل القرن العشرين تمارس تأثيرا دينيا وسياسيا هائلا يتخطى حدود العراق بكثير . واذ تقع النجف على بعد حوالي 120 كم جنوب بغداد, فانها أفلتت من السيطره الحكوميه الفعاله طيلة شطر كبير من العهد العثماني . وكانت في اغلب الاحيان مقر المجتهد الشيعي الاكبر, ويوجد فيها مرقد علي بن ابي طالب, واجتذابه الكثير من الزوار الشيعه .
واعتبرت مقبرة المدينه الكبيره ( وادي السلام ) أقدس وقمة مايتمناه المرء من الاماكن للدفن فيها بين المؤمنين الشيعه .
تغيرت حظوظ النجف كثيرا بمرور الزمن, وكان من أشد مشاكلها, شح المياه, وانكشافها للغزوات المتكرره من العشائر العربيه, مشكلتين من أشد المشاكل حده على امتداد تاريخ المدينه حتى القرن التاسع عشر .
ورغم اهتمام شاهات ايران وخاصه " طهماسب " بمشكلة المياه وشق قناه ثانيه للمدينه من الحله, لم تحل هذه المشكله . وهناك عريضه من مجهول موجهة الى السلطان العثماني في اواخر القرن السادس عشر يعرض المشكلتين ويقوا أنه لم يبقى في المدينه الا ثلاثون دار بينه خطيب الجمعه وسدنة الحضره وخدامها مع قله من الافراد الاخرين .
ولاحظ الرحاله البرتغالي " بيدرو تيكسيرا " الذي زار النجف في عام 1604 ان المدينه كانت خربه تقريبا , وكان عدد السكان 500 شخص تقريبا . ورغم القيام بشق عدة أقنيه فانها كانت تهمل وتجف, حتى 1802 حين أنجز شق القناة الهنديه . وبمعاهدة " أرضروم ", بعد الحرب الايرانيه – العثمانيه (1821 -1823 ) وتحسن العلاقات النسبي , تحسن وضع المدينه لتتحول منذ اربعينيات القرن التاسع عشر الى الى المركز الاكاديمي الشيعي الرئيسي على حساب كربلاء التي تناقصت أهميتها . كذلك ساهمت القناة الهنديه في الاتصالات الاقتصاديه – الاجتماعيه والدينيه بين النجف والعشائر المحيطه معجلة بتشيعها .
وعلى الرغم من ان عدد سكان النجف الشيعه لم يتجاوز الثلاثين الف نسمه, في اوائل القرن العشرين, فان تدفق الزوار كان يضاعف هذا العدد مرتين في أغلب الأحيان . ولم يشكل الفارسيون الا ثلث سكان, ويفسر موقع النجف على حافة الصحراء التأثيرات العشائريه القويه على المدينه . وقد وجدت سمات النجف هذه تجسيداتها في حقيقة أن عوائل عربيه هامه من العلماء في المدينه, نسبت أصولها الى عشائر مجاوره . وهكذا تكون عائلة " كاشف الغطاء " قد انحدرت من ال علي, احد فروع بني مالك التي تنتمي الى اتحاد المنتفق . والأكثر من ذلك أن النجف حتى عام 1918 كانت واقعه تحت نفوذ كتلتين عربيتين : الزغرت والشمرت وكان النجفيون يرجعون أصل تكوينهم الى العقد الاول من القرن التاسع عشر حيث كان المحاربون يجندون من بين سكان المدينه تحت قيادة المجتهد الشيخ جعفر كاشف الغطاء, لحماية المدينه من هجمات الوهابيين .
كان الزغرت متحالفين مع عائلة كاشف الغطاء, في حين ارتبطت الشمرت بالملالي الذين كانوا سدنة مرقد الامام علي منذ اوائل القرن السادس عشر, وانتزعت الكتلتين المدينه من سيطرة العثمانيين خلال الحرب العالميه الاولى وتقاسموا السيطره على أحيائها الأربعه, ففي حين ان السيد مهدي وحجي عطيه وكاظم صبي من الزغريتييت حكموا أحياء الحويش والعماره والبراق, فان حجي سعد الشمرتي تولى ادارة حي المشرق . وتبوأ الشيوخ الأربعه هذا المركز, حتى 1918 حين تحطمت سلطتهم على أيدي البريطانيين .
ويتضح طابع النجف العشائري من مضمون دستور " حيّ البراق " الذي وضع بعد ان تولى الشيوخ الأربعه ادارة المدينه في عام 1915 . وتحول ولاء ابناء العشائر التقليدي لعشيرتهم وشيخهم, في النجف الى ولاء متين يدين به سكان البراق الى حيّهم وشيخه كاظم صبّي . يضاف الى ذلك ان رابطة الدم والتشديد على الشرف والاشاره المتكرره الى ديّة القتيل بوصفها العنصر الذي ينبغي استخدامه في حل النزاعات كانت تبين مدى هيمنة الاعراف العشائريه على الروح المدنيه النجفيه حتى زمن متأخر هو القرن العشرين
كربلاء .. الكاظمين و سامراء .
على النقيض من طابع النجف العربي القوي فقد اتسم تركيب كربلاء الاثني وثقافتها بوجود جاليه فارسيه كبيره جدا في المدينه . وفي مطلع القرن العشرين قدر عدد سكان كربلاء وكلهم تقريبا من الشيعه بحوالي 50 الف نسمه يشكل الفرس منهم 75 % على الأقل . وتقع كربلاء على بعد حوالي 55 ميلا جنوب بغداد .
ولاحظ زوار غربيون انها لم تكن باي حال ترتدي مظهر مدينه عربيه بل كانت عمارتها وأسواقها تعكس التأثيرات الفارسيه . ويوجد في كربلاء مرقد الحسين, نجل علي والامام الشيعي الثالث, ومرقد العباس, أخ الحسين غير الشقيق . ويعرف الحسين بين المؤمنين الشيعه بانه" سيد الشهداء" لأنه قتل متحديا وراثة يزيد بن معاويه للخلافه . وقتل الحسين مع العباس ونفر من صحبه في معركه وقعت في سهل كربلاء عام 680 , وأصبحت المعركه واستبسال الحسين وجماعته الصغيره استبسالا بطوليا أهم حدث في التارخ الشيعي والميثولوجيا الشيعيه . وظهرت كربلاء بوصفها مركز التفاني, وخاصه للمؤمنين الشيعه الفارسيين . فالتقاليد تبارك ماءها وترابها, وتعد المؤمنين بالثواب والأجر من زيارتهم للمدينه ومن الدفن في مقبرتها (وادي الايمان) التي لا تفوقها قدسيه الا مقبرة النجف .
ويبدو أن كربلاء تمتعت بامدادات من الماء أفضل نسبيا من النجف . أمر السلطان العثماني سليمان الأول العام بشق قناة الحسينيه لنقل الماء الى كربلاء, ولكن سنوات من الأهمال أسفرت عن شحة الماء في المدينه, وعلى غرار النجف, قيل عن كربلاء أيضا ان الزوار عزفوا عنها بالكامل تقريبا في أواخر القرن السادس عشر .
ولم تتمتع كربلاء بامدادات منتظمه من الماء الا بعد بناء سد في صدر قناة الحسينيه شيده والي بغداد العثماني حسن باشا (1704 – 1723), وتساعد هذه التطوارات على تفسير السبب في ظهور كربلاء اولا بوصفها أهم مراكز الدراسه الشيعيه في حوالي العام 1737, وليس النجف . لتحل محل اصفهان التي تراجعت بعد الأحتلال الافغاني للمدينه ثم هجرة العلماء الفارسيين الى العراق .
وخلال شطر كبير من الفتره المملوكيه كانت ادارة كربلاء بايدي " سنّه " من بغداد يعينهم المماليك, ومع ازدياد حكم المماليك ضعفا, نجحت تنظيمات محليه تدريجيا في تولي السيطره الفعليه على المدينه, ضامّه اليها ملاك الاراضي وعوائلها التجاريه . وتحالف الزعماء العرب المحليين مع علماء كربلاء, وكانت المدينه بحسب وصف تقارير بريطانيه "جمهوريه شبه أجنبيه ذات حكم ذاتي", مما أثار قلق العثمانيين الذين استأنفوا الحكم المباشر للعراق 1831 , وسعوا الى زيادة المركزية في البلاد . وأدت مقاومة كربلاء ضد العثمانيين الى قيام الوالي نجيب باشا باحتلالها العام 1843 . مما أسفر عن ثلاث نتائج رئيسيه :
أولا , في حين تم اخضاع كربلاء , انصاعت النجف بسلام الى شروط نجيب باشا , مما سمح للمدينه بالاحتفاظ بموقعها الاقتصادي – الاجتماعي والسياسي .
ثانيا , احتلال كربلاء ساعد النجف على الظهور بوصفها مركز العلم الشيعي الرئيسي منذ أربعينيات القرن التاسع عشر مع رحيل وانتقال الطلاب والعلماء اليها من كربلاء .
ثالثا , في أعقاب الانباء التي بلغت ايران عن الاحتلال الدموي لمدينة كربلاء, مارس القاجاريون ضغوطا فعاله على الحكم العثماني لمنح الفارسيين في العراق حصانات . مما أدى الى تحطيم السطوه العربيه وازدياد النفوذ الايراني , لتقع المدينه تحت تأثير فارسي متزايد, وسيطرة العائلات الفارسيه " كمونه " على شؤون المدينه . حتى العام 1917 تاريخ سيطرة البريطانيين عليها .
في حين كانت المدينتين الأخرتين: الكاظمين وسامراء بوضع مختلف نظرا لقرب الكاظمين من بغداد السنّيه, وسكان سامراء كلهم من السنّه تقريبا .
الكاظمين , وتنبع أهميتها من ضريحها الذي يضم مرقد الامام السابع, موسى الكاظم, وحفيده محمد الجواد, الامام التاسع . وكان عدد سكان المدينه الواقعه على بعد ثلاثة أميال شمال غرب بغداد, قد قدّر في اوائل القرن العشرين بثمانية الاف نسمه سبعة الاف منهم من الشيعه . والقسم الاعظم منهم من العرب في حين كان عدد الفرس ألف . وتعزز توجه الكاظمين القوي نحو بغداد في عام 1870 عندما ارتبطت المدينه بالعاصمه بخط ترامواي تجره الخيول . وهكذا كانت سيطرة العثمانيين على المدينه أكبر منها في النجف وكربلاء .
سامراء , وتضم مرقدي الامام العاشر, علي الهادي, وابنه الامام الحادي عشر, الحسن العسكري, كما ويعتقد أنها مسقط رأس الامام الثاني عشر, محمد المهدي, الذي يعتقد الشيعه بغيبته وعودته .
تقع سامراء على بعد 66 ميلا شمال بغداد وكان عدد سكانها حوالي 8500 نسمه في اوائل القرن العشرين . وأغلبهم من السنّه قبل ان ينتقل المجتهد الكبير محمد حسن الشيرازي اليها من النجف العام 1875 .
وأثار انتقال مجتهد شيعي كبير الى المدينه قلق العثمانيين الذين واجههم امتداد المذهب الشيعي بصوره مفاجئه الى المنطقه الواقعه شمال بغداد . والحق أن تدفق الأموال والطلاب الشيعه والزوار على المدينه ثم ممارسة الشعائر الدينيه علنا, عرّض السكان السنّه في سامراء الى تأثيرات شيعيه متزايده . ولا بد ان يكون دور الشيرازي في الاحداث التي أدت الى "ثورة التنباك" في ايران (1891 – 1892 ) قد أذكى مخاوف العثمانيين من حضور الشيعه المتزايد في هذا الجزء من العراق .
ومنذ اواخر القرن التاسع عشر أخذ المسؤولون العثمانيون والعلماء السنه في العراق واسطنبول على السواء يوجهون نداءات متكرره الى اسطنبول للحد من انتشار المذهب الشيعي في العراق .
أقام العثمانيون مدرستين جديدتين في سامراء أولهما (المدرسه العلميه السنيه) عام 1898 وسلمت ادارتها الى شيخ من شيوخ الطرق الصوفيه هو محمد سعيد النقشبندي . كما عين العثمانيون سنيا ليكون سادن المرقد الشيعي مشددين بذلك سيطرتهم على شؤون الشيعه في سامراء . وتضاءلت أهمية سامراء بدرجه كبيره بعد وفاة الشيرازي في عام 1895 . ففي غضون عام من موته رحل غالبية تلاميذه الكبار عن سامراء الى النجف التي أعادت فرض موقعها المتفوق . وحسم تدهور أحوال سامراء بانتقال تلميذ الشيرازي والمجتهد الهام المرزا محمد تقي الشيرازي من سامراء الى كربلاء في عام 1917 . وفقدت المدينه ما كان لها من امكانيه في أن تصبح معقلا شيعيا داخل العراق .
يكتب وليد مهدي:
هل الشيعة ُ حقا ً… صفويون..إيرانيون ؟
يكثر اللغط هذه الايام حول هذا الموضوع بالتحديد ، ومثلما حاولت الكنيسة الكاثوليكية ذات الجذور الرومانية طمس اي معلم ٍ للحضارة اليونانية في عهود الامبراطورية الرومانية المسيحية….التي اعتبرت اليونان حضارة وثنية جهدت على تغييبها بكل وسيلة تحت جدث الماضي غير المشرف ، حسدا لما اثرته تلك الحضارة في قيمها التي استمد منها عالمنا المتحضر الكثير…للعداوة التاريخية المعروفة بين روما واثينا…، قامت الحضارة الاسلامية بنفس الدور …تجاه حضارة الخمسة الاف سنة في ارض ما بين النهرين…بل واستزادت في حنقها وعصبيتها الجاهلية الى الحد الذي جعلت المؤرخ الاسلاموي يكتب عن اهل العراق على انهم ” مجرد” عجم كانوا منضوين تحت حكم الفرس….خصوصا في العهد الحديث حيث اعتبر هؤلاء القوميون وبهوس مرضي فاضح كل موروث العراق القديم شعوبيا فارسيا مجوسيا …وهذه الايام يجري هذا التنظير على قدم وساق في الصحف والاصدارات المتعددة خصوصا على صفحات الانترنت التي تكتب وبعناوين بارزة….نعم انهم صفويون !
ان هؤلاء القوميين كعادتهم ..لايتوانون عن ” عنترياتهم ” الفارغة مغيبين دور الامة ممجدين دور فرد واحد مستبد في رسم التاريخ..، لقد جعلوا من اسماعيل الصفوي بعبعا تمكن من زرع كل هذا الخبث في حدائق حضارتهم ، فبعد ان رسموا لنا صورة العراق بعد تحريره ( او احتلاله ) من قبل الجيش الاسلامي ايام الخليفة عمر وكانه بقعة مهجورة هيأ الله جنانها لقبائل الصحراء التي استوطنتها..مغيبين حقائق تاريخية ثابتة كانت تتحدث عن ( سبعة ملايين ) انسان كانوا يسكنون العراق قبل الفتح الاسلامي [4] في حين كان غالبية سكان العراق في تلك الفترة من النساطرة المسيحيين مع اقليات من اليهود والصابئة المندائيين والمانوية ، بعد كل هذا ..راحوا ينسجون التاريخ كما يحلو لهم …وعلقوا اخطاء عصبيتهم في فقد الاسلام والدولة على شخوص معدودين كان لدور ( الشيعة الروافض ) الدور البارز في التامر معهم لاسقاط الحضارة الاسلامية وتدنيس فكرها الطاهر المقدس وهم :
ابن العلقمي….واسماعيل الصفوي ، ونظرا لاهمية الشاه اسماعيل في هذا المبحث فسنحاول التعريج على اهم المفاصل في حياته من جوانبها ذات الصلة بالموضوع فقط لعدم امكانية التوسع اكثر في هذا المقال المقتضب .
من هو اسماعيل الصفوي؟
اسماعيل الصفوي…ذي الجذور ” التركية” …مؤسس الدولة الصفوية في ايران( حدود 1503 للميلاد )..تؤكد اثار سلوكه الى انه كان بكتاشيا في الاصل…اي يتبع الطريقة البكتاشية وهي طريقة صوفية اسس فكرها رجل صوفي علوي النسب اسمه الحاج محمد بكتاش ولي الذي جاء الى تركيا من خراسان …في بداية تاسيس الجيش الانكشاري التركي في عهد السلطان اورخان الذي سمع باخبار الحاج بكتاش وكراماته …قرر السلطان الانتفاع بهذا الشيخ ليكون ابا روحيا لجيشه الانكشاري الذي كان غالبيته من الجنود الذين تربيهم الدولة التركية بعد خطفهم صغارا من مناطق غير اسلامية وتنشئهم منذ الصغر تنشئة عسكرية ..واصبح الجيش منذ ذلك الحين مرتبطا بالطريقة البكتاشية واخذ الناس يطلقون عليهم اسم اولاد الحاج بكتاش [5] .
ان من يتتبع تاريخ اسماعيل الصفوي جيدا قبل تاسيسه للدولة الصفوية يجد بانه يتحدر من عائلة دينية اذربيجانية متصوفة لاعلاقة لها بالسياسة..فقد كانت الطريقة الصفوية مزيجا من التصوف والمذهب الاثنا عشري ( الجعفري ) شانها شان البكتاشية التركية حيث يذكر الدكتور بيرج الذي اختص بدراسة البكتاشية قصة عن احد مشايخ البكتاشية خلاصتها ان السلطان سليم العثماني والشاه اسماعيل الصفوي كان كلاهما من اتباع الطريقة البكتاشية وقد حدث مرة في شبابهما انهما كانا جالسين معا بحضور ” بالم سلطان ” الشيخ البكتاشي المشهور فاتفقا فيما بينهما على انهما حين يصلان الى الحكم يسعيان نحو توحيد المسلمين في عقيدة واحدة…والمفروض انها العقيدة البكتاشية ..فلما وصلا الى الحكم فعلا كتب اسماعيل الى سليم يذكره بوعده فاجابه سليم معتذرا بان وزراءه من السنة وهو مضطر للتباطؤ في تحقيق وعده ، فكان هذا الاعتذار سببا لغضب اسماعيل واشتداد العداء بينهما [6] يقول الدكتور علي الوردي في ذلك :
لاندري مدى صحة هذه القصة ، انما هي على اي حال تعطينا وجهة نظر البكتاشيين وتشير بعض القرائن التاريخية ان السلطان كان يخشى ولاء الانكشاريين للشاه اسماعيل وكان يخشى ان ينقلبوا ضده اثناء المعركة للتشابه العقائدي بينهم وبين الشاه..!!
ثمة شاهد اخر على جذور الشاه اسماعيل البكتاشية الانكشارية :
كان الجيش الانكشاري التركي معروفا بطقوس الطبخ المقدسة…حيث يقدس الجيش الانكشاري حسب تعاليمه البكتاشية قدور الطبخ ولا يفارقونها حتى اثناء حروبهم لابل انهم يدافعون عنها دفاعا مستميتا اذ هم يعتبرون ضياعها اكبر اهانة لهم …واذا ارادوا اظهار عدم الرضا من اوامر رؤسائهم قلبو القدور امام بيوتهم ..ويسمون ضابطهم الاعلى ” شوربجي باشي ” اي طباخ الحساء او الشوربة …وقيل ان السبب في ذلك هو ان الانكشاريين يعتبرون انفسهم متنعمين بمائدة السلطان فلا جذور لهم الا الدولة ..!
وهي صورة تقارب الى حد بعيد تقديس الشيعة اليوم في كل من العراق وايران ولبنان لقدور الطبخ وما يطبخ فيها ” ثوابا” في عاشوراء وبعض المناسبات الدينية الاخرى…التي اضيفت على المذهب الاثنا عشري في عهد الشاه اسماعيل الصفوي .
ان عقيدة الجيش الانكشاري البكتاشية كانت من اهم اسباب قوته التي بثت الرعب وفتحت اوربا التي كلما توسع الجيش فيها بالفتوح زادت اعداده من الاطفال المخطوفين من ” بلاد الكفر” ..!
هذه العقيدة التي انبثقت من واقع التصوف الاسلامي واثرت في فكر الدولة العثمانية…وفكر الشاه اسماعيل الصفوي الذي تطور التصوف عنده الى الحد الذي بات فيه خاضعا لــ” قوى” روحية غيبية جعلته ينفذ اوامرها بنشر التشيع بقوة السيف في فارس ..!
فهو كان يعتقد بان هاتفا غيبيا هو الذي كان يرشده الى اعماله سيما وهو رجل صوفي بالاساس والمتصوفة تؤمن بالكشف او الالهام الغيبي ولذلك كان يخبر مريديه انه لايتحرك الا باوامر الائمة الاثني عشر [7] وربما كانت جميع الامور المستحدثة التي ادخلها اسماعيل في التشيع الايراني قد انبعثت من هذه النزعة الصوفية ، فليس بامكان احد فرض مثل تلك الامور دفعة واحدة دون ان يسندها للكشف ودعوى الالهام الروحي..ومن ضمنها سب الخلفاء الثلاثة .
ولهذا السبب فان شق الخلاف كبير بين السنة والشيعة..الذين تم احتسابهم ” ايرانيين ” مع ان جذور عقيدتهم عراقية تمتد الى عصور فجر السلالات السومرية الاولى..مرورا باكد وبابل الدولة العالمية العظيمة كما وصفتها التوراة ، انتهاءا بالدولة العثمانية وتاثيرها ” الصوفي ” في الفكر الاسلامي وتزواج هذا التاثير برواسب ومعتقدات فكر العراق القديم ليظهر المذهب الجعفري بالشكل الذي نراه عليه الان..!
فواقعة كربلاء ربما لم تستمر سوى ساعة واحدة …الا ان الشيعة جعلوها عشرة ايام في عهد الشاه اسماعيل …والان نسال :
لماذا عشرة ايام ..؟ ولماذا هذا المط في طول فترة التعزية …لتتحول الى كرنفال سنوي ؟
لقد كانت السنة البابلية تبدا باحتفال كرنفالي يشارك به عامة الشعب بمن فيهم الملك…وكانت تعمل فيه ” التشابيه ” على طريقة الشيعة اليوم باقامة مراسم عزاء الحسين…الا ان الذي ينوح عليه اهل بابل كما كانت تؤكد الرقم المسارية كان ” الاله ” مردوخ او بعل حيث تندفع عربته بلا سائق وسط الجماهير التي تضج بالعويل والنواح بمنظر شبيه الى حد بعيد بمنظر فرس الحسين وهي تندفع بلا فارس في مشهد يثير عواطف الشيعة ويهيجها…. [8]!
هل إسماعيل الصفوي…أو الشيخ الكركي الموالي للصفويين هو الذي ابتدع كل هذه البدع…ام ان جذور هذه التقاليد بقيت ملاصقة لذهنية العراقي على مر التاريخ لتظهر بصورة مستعارة من جديد مرتدية الحلة الاسلامية التي عرفت فيما بعد بالمذهب الجعفري..!!
لقد كان الشاه اسماعيل الصفوي…بميوله التصوفية تلك خاضعا لقوة عليا….امرته باحياء هذا المذهب على الطريقة التي نراها اليوم ….فما هي هذه القوة العليا ..؟؟
ساحاول طرح نظرية جديدة الان…فلا اقول ان الرجل كان محتالا في نفس الوقت الذي انفي فيه انه كان على اتصال باي قوة روحية مقدسة …سوى…اللاوعي الجمعي لسكان بلاد ما بين النهرين..!
يقول النص في ملحمة كلكامش :
” صرخت عشتار كامراة في مخاض..كيف انتهت الى طين تلك الايام القديمة..! ”
الملاحظ من شخصية الالهة عشتار التي يرمز لها بكوكب الزهرة هي نفس شخصية الزهراء لدى الشيعة ، وصدى هذا الاسى على الايام الماضيات حاضر المعالم في الفكر الشيعي الذي يصف الزهراء بذات الموقف وهي تتاسى على ايام عاشتها مع ابيها ، ويتعدى هذا الترميز اللاشعوري الشيعي الى شخصية ابنتها زينب كلسان حال ٍ للمنظومة الاجتماعية لسكان ما بين النهرين .
المشكلة في اهل السنة من العرب وغيرهم هي فهم هذه الرموز اللاشعورية للفكر الاجتماعي العراقي القديم بدلالاتها الظاهرية ..!
وبصراحة ، لهم الحق في ذلك ، فبكاء الزهراء وآلامها…وسقوط جنينها كلها تعابير اقتناها الشعب من مصادر تاريخية حقيقية او غير حقيقية ( لافرق ) للتعبير عن هويته الكلية الجامعة التي تتناسب والعمق الحضاري التاريخي .
فلو تاملنا مقولة عشتار….نجد فيها الزهراء وابنتها زينب ، حيث انتهت وبصرخات كانها المخاض…ايامهن القديمة…الى طينة تدعى…تربة كربلاء..حيث قتل الحسين ، الذي تقمص شخصية ( الاله ) مردوخ البابلي وهو يفقد ملكه في اليوم السادس من كرنفال السنة البابلية ، فكان عاشوراء كرنفال الالم والحزن الذي تطور من بابل الى النسطورية المسيحية التي ادخلت عليه المبالغة بالعزاء ومعاقبة النفس …التي كانت معروفة في التقاليد المسيحية القديمة .
هذا اللاشعور العميق ، القديم ، الذي بنى حضارته بالطين…ونقش اولى ابجديات المعرفة بالطين ..هو نفس اللاشعور الذي يقدس تربة كربلاء [9] ( الأرض المجاورة لبابل ) كرمز لاشعوري لهوية انسان ما بين النهرين..
اسماء المدن
كربلاء…هي بالاصل كرب ايل…اي قرية الاله في البابلية
اربيل….هي بالاصل اربع ايل…اي اربع الهة في البابلية
بابل…باب بيل…باب الرب
بغداد…..وهنا تسكب العبرات….حيث صيرها ( العروبيون ) اسما فارسيا…مع انها اصلا
بعل داد……مدينة بعل [10]
منظومة اللاشعور العراقي القديم
تترشح من كل ما سبق ، منظومة سيكولوجية ” اجتماعية ” عامة لسكان بلاد ما بين النهرين ، استعارت هذه المنظومة اسماء ومفاهيم سهلة التقبل في ذهنية العراقي القديم ..فهي الالهة في بابل…والائمة واهل البيت في العهد الحديث..، تطفو هذه المفاهيم وما انتجته من قيم ودينامية فاعلة تحرك المجتمع الذي يحرك التاريخ على بحر لا منتهي من الاحساس بالحزن والاسى ..على فقد رموز المقربين الذين يرمزون لاصالة الانتماء لهذه المنظومة مثل ائمة اهل البيت ، والكره الشديد لاعداء افتراضيين يحملهم الشعب مسؤولية الملاحم التي يندب الشعب حاله بها متاسيا على مر التاريخ..واخص بالذكر شخصية خلفاء الرسول…ويزيد ..والشمر , علما ان مثل هذه الثوابت موجودة في كرنفالات العراق القديم كما اشرنا سابقا وبالاخص مردوخ وهو يفقد ملكه…واضطراب الشعب بالبكاء في تلك اللحظة التي يعمل فيها مسرحة الحدث بممثلين شعبيين ويكون من بينهم المجرمون الذين يعيثون في المدينة فسادا ( يزيد والشمر ) ..!
ماساتنا الكبرى ان العرب لم يفهموها كرموز لمنظومة او شخصية عراقية خاصة لازمت انسان ما بين النهرين لاكثر من ستة الاف عام ..!
العراقيون ( الشيعة ) لم يشاهدوا عمر بن الخطاب ..وقضية عداءه ليست الا اسقاطا Projection او استعارة لابد منها في الفكر اللاشعوري الجمعي العراقي ..؟
تربة الحسين هي الاخرى جزء من هذه الرموز التي تحكي عن دلالات ما ورائية باطنية في انسان ما بين النهرين ، كذلك الحال بالاضرحة المتعددة…والحج الكرنفالي الذي يحدث في ايام كثيرة من السنة لها انما تعكس ثوابتا تجريدية للبعد السيكولوجي العميق لانسان ما بين النهرين والتي نوجزها بالاتي :
1- تعدد المنظومات الكونية التي تؤثر في هذا العالم من خلال العلاقات فيما بينها
اذ يصعب على العراقي تخيل ” الاله ” كموجود اناني آثر ان يتحكم باصابعه زمام كلشيء..مثل اله الصحراء!
لابد وان يكون هذا الاله ( ابسو الاول لدى البابليين والله الواحد الاحد لدى الشيعة ) قد خول سواه صلاحيات واسعة لادارة المملكة السماوية العليا كانعكاس للملكة الارضية ..ففي بابل كانت الالهة…وفي عراق اليوم نقشت اسماء اهل البيت على ساق العرش كما يعتقد الشيعة !
من ناحية التحليل النفسي فان هذا ناتج من طبيعة النظم السياسية التي حكمت ما بين النهرين والتي توحي بوجود ” التخصص الفردي وارتفاع قيمة الفرد ” وهو اهم علامة من علامات حضارتنا المعاصرة في القرن الحادي والعشرين ..، على النقيض من القيم البدوية التي يتحكم فيها الموروث والقيم الجماعية التي تغيب الفرد تحت ظلالها فيظهر المتحكم الاعلى بالكون ( الله ) وكانه غيور لايرضى ان يسود نمط من المفاهيم غير التي وضعها هو ( القبيلة هي التي وضعتها )
2- وجود نظرة ما ورائية رومانسية تظهر عمقا في الاحساس منقطع النظير في الحياة اليومية البسيطة
ويظهر ذلك من طابع الحزن الواضح والمميز لشخصية العراقي حتى في غناءه او قراءته للقران سنيا كان او شيعيا ..!
ويكفي ان تستمع لاي مطرب عراقي لتلتمس طابع الحزن والالم في كلماته وصوته ..!
المشكلة اننا نهمل دائما قراءة الباطن من الطقوس والاعراف ونولي اهتمامنا لظاهرها ومجمل مسمياتها التي خطتها اقلام السلاطين التي كانت تدون واقع الخلاف بين السلطة العثمانية الحاكمة والدولة الصفوية …دون اي اعتبار لواقع التاريخ الحقيقي الذي لايرسمه الا الشعب بمعاناته وتطورات فكره..، فالرقم 12 كان مقدسا لدى البابلين…وكذلك لدى شيعة العراق اليوم ولدى المسيحيين وهو عدد اشهر السنة وعدد الايام التي كان يجري فيها الاحتفال السنوي الذي كان يمر من بوابة عشتار كل عام ، عشتار الهة الحب…او كوكب الزهرة لدى البابليين هي نفسها ولا غير..الزهراء…ومردوخ هو نفسه علي او الحسين ..وكلكامش الذي خرج طالبا للخلود….حاز عليه اخيرا في شخص ” الامام رقم 12 ” المهدي الذي يعتقد الشيعة لحد هذا اليوم انه لازال حيا وسيبقى حتى يملا الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا..؟
مشكلة العراق كما يقول مفكر علم الاجتماع الدكتور علي الوردي هي خضوعه لتصادم عاملين فكريين ثقافيين….الحضارة المتاصلة فيه منذ فجر التاريخ…والبداوة وتقاليد المحافظة التي زحفت عليه من الصحراء…!!
ومهما تكن الاسباب ففي النهاية ، لايمكن نسبة التشيع الى فارس ..او الى تركيا..بل ان التشيع مجرد اسم حركي..لمنظومة ثورية حضارية كامنة في اللاشعور الجمعي العراقي ضد قيم مخالفة لبيئة العراق الاجتماعية الحقيقية…التي كانت تعطي لكل مدينة دينها والهتها الخاصة الحامية..، وكل تلك الطقوس…وكل ذلك التاريخ الذي امتد لاكثر من اربعة الاف سنة قبل المسيح…هل من المعقول انه تبخر هكذا فجاة..ولم يجد الفرس ارضا مسكونة عندما احتلو العراق قبل الاسلام..؟
للاسف…ان المؤرخ الاسلاموي قد ” قتل ” الهوية الحضارية لشعب الرافدين الذي استوطن على ضفتي دجلة والفرات وتمركز في الجنوب خصوصا عندما بين ان الخليفة الثاني هو الذي هجَّــر العرب إلى هناك ..وكأن الأرض كانت خالية الا من الفرس..!
ان اسم كلكامش..مثلا..مشتق من كول ( GOOL أي الورد باللغة الكردية) وكاميش ( اي الثور او الجاموس بنفس اللغة ايضا )..وهذا المخلوق كان مقدسا لدى البابليين..وهناك العديد من الشواهد التي تؤكد عراقية الكورد المرتبطة بتاريخ العراق منذ فجر حضارته الاولى.. وبالتالي فان للعراق هويته الوطنية الخاصة التي حرص المؤرخ الاسلاموي على ” تفريسها ” اي جعلها فارسية …او تكريدها كنسبة غير عربية حتى انتهى الحال…الى بزوغ فجر ما اثارته تلك الاقلام الماجورة.. والمريضة من بدايات تشكل الكيان الكردي في الشمال والشيعي في الجنوب..!
لكون الموضوع في غاية الاهمية والخطورة هذه الايام..لذا قررت ان افرد له ” كتابا ” قد يوفقني الله لاتمامه نهاية هذا العام ..ساحاول فيه التفصيل الوافي لاسس ثقافة العراق القديم وعلاقتها بالفكر المسيحي والفكر الشيعي..الذي يمثل بحق قــِرانا مقدسا بين ( بابل و الاسلام ) ، هذا القـِـران ( بكسر القاف) المنسوب زورا وبهاتانا لفارس ..بل ان فارس هي التي استوحته من ثقافة العراق ، والازمة الحقيقية التي يعيشها العراق اليوم هي :
تغييب الهوية الوطنية…الخاصة…الانسانية…العالمية…التي تكون العروبة جزءا منها..ولا يمكن طي العراق بكل تاريخه كجزء من العروبة..!
فالعراق كيان تاريخي سابق للكيان الحضاري العربي الاسلامي باكثر من اربعة الاف عام…والعروبيون كعادتهم سيعتبرون هذا الكلام محاولة لسلخ العراق عن هويته العربية..والحقيقة..ان العراق بحد ذاته ” هوية” يشرف العرب إنهم جزء منها..من شاء فليؤمن..ومن شاء فـ( .. ) ..فهذا بلد التاريخ وفيه حاضرة الخلافة ” بغداد ” التي حاول المؤرخ الاسلاموي كما يقول سليم مطر تفريسها هي الاخرى ومحاولة نسبة ما فيها من حضارة الى الفرس وبيان دور العرب كقادة حرب…وكأن العراق كان خاليا الا من عرب الصحراء الذين هاجروا اليه…او الفرس الذين أصبحوا تحت الحكم الاسلامي..اما تاريخ شعب الخمسة الاف سنة..وبقاياهم السبعة ملايين انسان..فقد ذهبوا جميعا مع الريح..!
رغم هذا كله…لم تزل بابل تتنفس…ولم تزل زقوراتها ومعابدها تجول مدن العراق بمسميات حركية جديدة..حيث تنتشر الأضرحة والمزارات بشكل كثيف ملف للنظر في المدن الشيعية من جنوب العراق ..لماذا..؟
فكربلاء…هو الاسم الحركي الجديد لثورة الحضارة العراقية القديمة والحديثة ضد جاهلية الصحراء.
في يوم من الأيام…ستعود ( بابل ) للتصريح باسمها الصريح وتحلق عاليا في فضاء الحضارة من جديد….يومها سينطق التاريخ اسمها ويتغنى بها للأبد..ويعود للعراق وجه الحضاري المشرق وتعلي صرحه من جديد ( بعد قطيعة طويلة) هويته الوطنية القومية الموحدة…وعاجلا او اجلا…سيتم ( تعريــــق ) العراق بعد ان تم تعريبه في العهد العربي الاسلامي….و تفريسه …في عهود الظلام العثمانية
وستعود ( جمهورية بابل الاتحادية ) لتحكم العالم من جديد…وتغني للتاريخ والزمن :
انا هي بابل…التي قتلتها التوراة
انا هي بابل التي خنقتها العروبة
انا هي بابل المجد……ام التاريخ والقدر
وليد مهدي
الهوية عراقي
القومية….بـــــــابــــــلــيـــــــــــــــة
unhumededeu@hotmail.com
الهوامش :
[1] سليم مطر، الذات الجريحة ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت .ص 137
[2] وجود أتباع الديانة المندائية في العراق إنما يرتبط ارتباطا وثيقا بالمعتقدات السومرية التي تقدس الماء وتعتبر ألمعرفه الأولى إنما جاءت لأهل العراق القدامى من الماء أو البحار..!
[3] تقاليد الاعتراف الموجودة في المسيحية …موجودة بصورتها الأعم والاشمل في الثقافة البابلية الدينية…حيث كان الملك يعترف بخطاياه أمام الآلهة كل سنة
[4] شارل عيساوي – تاملات في التاريخ العربي / مركز دراسات الوحدة / بيروت 1991
[5] John K .Brige (the bectashi order of dervishes) – Bristol 1937- P.74
[6] علي الوردي ، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، كوفان للنشر (1991) ص 46 .
[7] كامل مصطفى الشبيبي ، الفكر الشيعي والنزعات الصوفية حتى مطلع القرن الثاني عشر الهجري ، بغداد 1966 ، ص 413 .
[8] حنا عبد الأحد روفو ،الأعياد الدينية في العراق القديم وكيفية الاحتفال بها/ مجلة (المثقف الكلداني) التي تصدر عن الجمعية الثقافية الكلدانية – عينكاوة، 2001
[9] تربة كربلاء..قطع من الطين يستخدمها الشيعة للصلاة والتبرك..ويعتبرونها مقدسة لان دم الحسين قد سال عليها، توحي المبالغة في تقديسها إلى اعتزاز أهل العراق بهذا الطين الذي كان مضربا لأمثالهم ورمزا لثقافتهم ومقدساتهم زمن البابليين الذين اعتبروا السماء لوحة أو طينة الآلهة وهي تنقش عليها بالنجوم القدر..ينما يقوم الاله شمش بتدوين ارادته في احشاء الخروف ، انظر ) F. Martin, Textes religieux, p. 109.(.وكذلك الطين والكتابة المسمارية عليه إنما كانت مقدسة لديهم لان كتابة الشيء أو مجرد لفظه تعني خلقه واقعيا.
[10] وبالامكان مراجعة الجذور التاريخية لهذه الكلمات من مصادرها الموجودة في ” الذات الجريحة” للاستاذ سليم مطر.