برج الحمام
لم يكد يدفع باب البرج حتي أحس بحركة الأجنحة وهي تتهيأ , الرفرفات الخفيفة التي اعتادها كلما دخل البرج , أضاء النور فاندفعت الحمامات إليه بغتة , غرق في طوفان الحمام المتدافع يحط علي رأسه وكتفيه , راقب الحمامتين الملطيتين الثقيلتين وهما تتشبثان بساقيه , بمنقارهما تخمشانه في لطف , حمام الوزار دائما يحتل كتفيه , دائما ما يدفع أي نوع آخر عن الوقوف في هذا المكان , الهزار يطير حوله فاردا ذيله المروحي كنحلات سعيدة , ظلت الحمامتان الزاجلتان في مربضهما هناك تديران رأسيهما يمنة ويسرة , , وضع كيس القمح و الأرز , وبدأ بالماء , أمسك بالأسقية وأراق السؤر المتبقية , ملأ الأسقية بالماء , ظلت الحمامات تراقب , يعرف أنها عطشي ولكنها ظلت تنتظر , مد يده في بطء إلي جيبه وهو يراقبها جميعها , كلها لفتت رأسها وأعطت إحدى عينيها , أخرج يده خالية , رفرفت كل الحمامات حانقة , ابتسم في مكر وهو يراقبها وهي تخرج من وكرها , الحمامة البرية الوحيدة , تأملها وهي تمد رأسها ورقبتها البنية , مد يده إلي جيبه مرة أخري , أخرج كيس السكر , سمع الرفرفات الأليفة تهدر , ورآها وهي تخرج بكامل جسمها من وكرها , رنا للبياض الذي يجلل جسمها وأخذ يدقق في الجناحين الغارقتين في اللون البني , شاقه صمتها وبحثها بعينيها .
كانت قد أتت فجأة , جاءت بصحبة الحمامتين الزاجلتين عصر يوم , رآها تحلق معهما حول البرج , كان غارقا في أفكاره ولم ينتبه إلي أنها حمامة برية , إلا بعد أن حطت أعلي البرح , دخلت الحمامتان الزاجلتان من إحدي عيون البرج وظلت هي واقفة , عادت الحمامتان الزاجلتان للظهور من العين وطارتا فتبعتهما , داروا دورة في الفضاء وابتعدوا حتي حدود حدائق البرتقال , صفق الصفقة المعتادة , الصفقة التي تألفها حماماته وتأتي إليه ولو من بعد ميل , الرمز الخفي الذي يربطه بهم جميعا , رأها تعود معهما , فتح باب البرج وانتظرها , دخلت من إحدى العيون بعد الزاجلتين , حطت معهما علي السقاية , و راحت تعب في شراهة , عندئذ توهم أن الزاجلتين أوحتا إليها بسر ماءه السكري .
تجئ علي فترات متباعدة , كلما دخل البرج تفقدها , تروح عيناه إلي الوكر الذي اتخذته لنفسها في أعلي البرج , يعرف أنها اختارت هذا الوكر العالي بعناية كي لا تطالها يده , يكون سبيل الفرار متاحا لها لو حاول الإمساك بها , يخرج السكر أولا لكي يسمعها بهجة الحمائم علها تخرج , بعد قليل يعرف أنها لم تأت .
فكر أن الطريقة الوحيدة في استبقائها أن يكون لها ( وليف ) , ولكن أني يكون له أن يأتي لها ( بوليف ) , هي حمامة برية , حمامة أشجار حرة , لا تأتي مثل هذه الحمائم وتسكن الأبراج إلا ومعها ( وليفها ) , عندئذ تبقي وتستقر وتألف المكان , سأل أصدقائه من أصحاب الأبراج , فسألوه عن جنسها فلما ذكر لهم أنها أنثي فكروا قليلا وقالوا له أن ما يقوله مستحيل , لابد أن يكون ذكرا , يأتي ليتذوق ماءه السكري ويعود لعشه , الأنثي تألف العش دائما , لا تترك ( وليفها ) أبدا , الزواج بين الحمائم زواج مقدس أبدي لا ينحل إلا بالموت , برقت الفكرة في رأسه , ربما , ربما ..
عندما كان يأتي بنوع جديد إلي البرج كان يأتي بهم أزواجا يترك لهم حرية اختيار الشريك , يحبسهم لمدة في الحظيرة الصغيرة ويغلق العين الوحيدة من الخارج و يظل يراقب الألفة التي تدور , عندما يتأكد من ألفة كل شريك لشريكه , يفتح العين الوحيدة ويمنع الطعام والشراب عن الحظيرة , يروحون إلي البرج الكبير وقد عرف كل طريقه المشترك , أما هذه فكانت لغزا , أتت وحيدة وتعود وحيدة , تمر الأيام ولا يجدها حين يتفقدها , ينساها , وفجأة تظهر مطلة من الوكر العالي ثم تعود للاختفاء يوما أو أيام .
عندما دخل البرج هذه المرة وجدها علي الأرض تمشي في بطء غريب , استسلمت له بجسها النحيل بمجرد أن مد يده إليها , تحسس بأصابعه رقبتها الباردة , مالت برأسها ورمقته بعينها الكليلة, جس حوصلتها فوجدها خاوية , أسرع إلي علبة الأدوية , أخذ يمزج بضع نقاط من الأدوية بالماء ويزقه في حلقها وهو يراقب عينها التي خالها تتوسل إليه ألا يفعل , أفلتها من يده , ظلت ساكنة علي الأرض للحظات كطائر لم يعرف الطيران بعد , يعرف هذا الإحساس جيدا , خبره كثيرا في صغار الطيور عند محاولة الطيران الأولي , عندما تتعرف علي قيمة الجناح , عندما تتفكر في علاقتها بالهواء , تحسسها طريقها إلي مملكتها الحقيقية , الفضاء العريض , رآها وكأنها قد عافت كل شئ , كأنما كرهت الجناح وكرهت الفضاء وقررت الرحيل عن ذلك الفردوس الجميل والاستسلام للأرض .
آه لو أمكنه استجواب الزاجلتين , هما من أتيا بها , وهما من يعرفان سرها , أشجار الكازورينا والكافور التي تحيط بحدائق البرتقال البعيدة هي المأوي القريب لتلك الحمائم البرية , ربما كان مرضها هو ما منعها من الهروب منه , أتت إليه مستسلمة بعد أن ذاقت ماءه السكري وعرفت طعم حنانه , وضعها داخل قفص السلك . علي الدراجة مضي إلي هناك , راح يدور بها حول حدائق البرتقال , ظلت ساكنة طيلة دورانه بها , توقف وفتح باب القفص , لم تخرج , ظلت ساكنة داخله , مد يده ليخرجها نقرت يده عدة مرات , أخرجها عنوة وقذف بها إلي الفضاء , طارت طير من يخشي الوقوع ثم عادت إليه , توقفت قليلا علي الأرض تنظر إليه ثم رفرفت في غمرة دهشته إلي باب القفص المفتوح حتي استطاعت الولوج فيه , لم يغلق باب القفص وسار بالدراجة جولة أخري حول حدائق البرتقال .
كل يوم يفتح باب البرج يجدها علي الأرض تسير في بطء جوار الحمامتين الملطيتين الثقيلتين , تتسمع لصوت الغواية المتصاعد منهما , تنظر لحميمية الألفة بينهما , تعانق الرقبتين , ضربات المنقار الرشيقة , يمد يده لها فتستسلم له , يجس حوصلتها الخاوية ثم يرمي بها لهواء البرج فتضطرب في طيرانها قليلا وتعود إلي الأرض .
قرر في ذلك اليوم أن يمرن الزاجلتين علي مسافة أبعد , الزاجلتان أهداهما له صديق , أتيا إلي البرج ولم يتعلما الطيران بعد , ألفا البرج وراحا يتعلمان الطيران دون مساعدة أب أو أم , وحدهما يطيران ويعودان , كل أسبوع يبتعد بهما أكثر عن البرج , يطلقهما ويعود فيجدهما في البرج , عندما ابتعد بهما المسافة المطلوبة فتح لهما باب القفص , انطلقا متسابقين , دارا الدورة المعتادة في الفضاء يتلمسان الاتجاهات , في تلك اللحظة رآه من بعيد , ذلك الأشهب ذو الجناحين العاليين والمخالب الحادة والمنقار الفاتك , توقف قلبه عن النبض وهو يراه يشق الهواء في سرعة متجها إلي الزاجلتين , لن يفلتا منه , أسرع يرمي صوت صفقته إلي الهواء , الرمز الخفي الذي يربطه بحماماته , تحيرت الزاجلتان لمن تستجيب , لغريزتهما في العودة للبرج أم للرمز الخفي الذي يتسارع في الهواء , كان الصقر يدنو و وهو يلقي الصفقة وراء الصفقة في جنون , وفجأة انتصر الرباط العميق الذي يربطه بهما وهويا إليه قبل أن يصل الصقر , أودعهما القفص وظل يراقب هذا الأثيم الذي مابرح يحوم في الفضاء يعلن ملكيته التامة له .
انفتحت بصيرته عندما فتح باب البرج وأطلق الزاجلتين , ليري الحمامة البرية النحيفة نائمة علي الأرض , أمسكها بيده فألقت برقبتها إلي أسفل , هز رأسه في أسف , ورآها بالبصيرة التي أخذت تتوهج وهي تطير هي و(وليفها ) ربما كانتا رائحتين أو غاديتين من المطحن القريب من حدائق البرتقال بعد أن التقطا رزقهما , يحلقان معا في اتجاه العش , لا ينتبهان في غمرة ألفتهما لهذا الأشهب القادم ذي المخالب المرهفة والمنقار القاسي , عتدما ينتبهان يكون الوقت قد فات , راحت البصيرة تشتعل وهو يري الصقر يقصدها هي تلك النحيلة البرية , ( الوليف ) يدرك مقصده , يعود من الهروب , بسرع في طيرانه , يجدف الهواء بكل ما أوتي من قوة , ينفي غريزة البقاء , يتصدي لطريق الصقر , فتفوت هي منه , ينقض عليه الكاسر بلا رحمة ويأخذه إلي أعلي إحدي أشجار الكافور بين مخالبه , وهي تطير طيرانا مضطربا لا تنفع معه أية حيلة سوي الجثوم علي الأرض .
( وهاي الغنوة اللي كنت باسمعها وأنا بكتب القصة
)
أعتذر للزميلة الفاضلة / الدرة البيضاء
عن حذف الشريط وإعادته من جديد وطيران مداخلتها , وأرجو أن تعجبها القصة .
كوكو