عبدالله بن محمد بن ابراهيم
عضو اللوبي رقم 3
المشاركات: 411
الانضمام: Oct 2010
|
قصة قصيرة: وفاء للمعلم. هل اعجبتك؟
الامس مات
منذ شهراو ينيف كنت في السيارة مع معلمي الكبير السيد وائل .س. و آخرين و كنا نتجاذب اطراف الحديث حول العمل, والحياة و همومها و اساليب تصريفها فذكرت فيما ذكرت اني اشكره جزيل الشكر على الفرصة التي اتاحها لي بالعمل في البلد الحبيب الجزائر علما ان ذلك لم يكن من ضمن مخططاتي في الحياة. فباغتني بسؤاله:
- وهل تخطط لحياتك؟ فاجبت:
- نعم
- و كيف تفعل ذلك؟
- الامر بسيط, اضع هدفا نصب عيني واعمل على الوصول اليه.
- و كيف تعرف انك تتجه نحو هدفك؟
- الامر ايضا بسيط, كل يوم و قبل ان انام اراجع افعالي و احاسب نفسي و اتساءل: هل ان ما قمت به كان صحيحا؟ و هل يقربني ذلك من هدفي؟ يعني...احاول ان اكون موضوعيا في تحديد اخطائي و احاول ان اتفاداها ان لم اكن قد وقعت فيها بعد, واتراجع عنها و اتلافاها مباشرة ان استطعت, اما اذا كنت قد تماديت فيها فاني اعود عنها تائبا و احاول اصلاحها.
- عظيم , وهل تدون ذلك؟
- لا, انما هو التفكير.
و حقيقة الامر انه و منذ ان كنت يافعا, لم يمض علي يوم الا فيما ندر, الا و كان عندي هدف اصبو اليه. و قد كنت دؤوبا في السعي لتحقيق اهدافي. اؤمن بالله و قضائه و قدره, خيره و شره, الا اني اؤمن ايضا بالسعي و العمل وبان النجاح والفشل رهن بحسن السعي او سوئه. لذلك , ومنذ ان كنت صغيرا, كنت اؤمن بتنظيم الامور و المثابرة عليها و القيام بها في اوقاتها لكي تجد طريقها الى النجاح لا الى الفشل. كنت انجح في تحقيق اهدافي في اغلب الاحيان, الا اني كنت افشل ايضا, وكنت ارتكب الاخطاء و التي ما زلت اصححها حتى اليوم كما اني ارتكبت العديد من الخطايا والتي ليس اقلها معاقرة الخمر ولكن اكبرها كان عقوق الوالدين, و لكني والله يعلم, اني قد تبت الى الله وفي كل يوم استغفر الله العظيم و اتوب اليه و حسبي الله و هو نعم الوكيل.
وقد راجعت اليوم فيما راجعت حديثي ذلك مع معلمي فوجدت انه لا ضير في كتابة ما يجول بخاطري و ذلك لان "الكبر عبر" كما يقولون و ها انا قد بدات اخرف, فذاك اضمن كي لا انسى, و لكي ارمم لغتي العربية التي لا بد انه قد نالها ما نالها على قلة الاستذكار و المداراة, و لا اقول الاستعمال.
لا اقول ان هذه هي اولى كتاباتي, لا, و لكنها المرة الاولى التي احاول فيها ان اكتب خواطري و يومياتي. و على ذكر اولى كتاباتي فاني و الحمد لله لا ازال اذكر الكثير من كتاباتي الاولى و التي كانت فروضا مدرسية في ذلك الزمان. وكانه عالم آخر و زمان آخر.
كنا قد انتقلنا حديثا من تل الزعتر الى بعلبك هربا من الاحداث كما كنا نقول في ذلك الزمان, او كما يقول الكبير غسان كنفاني زمن الاشتباك, و ما ادراك ما زمن الاشتباك! و هناك تسجلت و اخوتي في مدرسة الشمس لان الناظر فيها كان ابن خال ابي. ولحسن حظنا ان مديرها الاستاذ صبحي .ب. كان صارما و يمسك زمام الادارة جيدا في زمن يصعب فيه الالتزام. فبعد ان كنا قد تاسسنا في مدرسة جسر الباشا الرسمية و التي لا ازال اذكرها بالكثير من الحنين و الخير, وفقنا الله الى مدرسة لن تجد الكثير من مثيلاتها في زمن الاشتباك. و هناك تعرفت الى معلمي الاول الشهيد حمزة الحسيني رحمة الله عليه.و كان الى جانب كونه معلمي الاول, الصديق الاول الذي تعلمت منه الحياة اكثر من اي انسان آخر.
الصف الخامس ابتدائي الشعبة ج , كان ذاك الصف الاول لي في مدرستي الجديدة, و كان حمزة معلم اللغة العربية فيه. بعد ان تعرفت اليه جيدا و اصبحنا اصدقاء عرفت منه انه كان يود لو درس الرياضيات, لكنهم لم يمكنوه من ذلك لانهم اوكلوا هذه المهمة الى احد ابناء العائلات ذات النفوذ, مما اضطره ان يقبل بالامر تلافيا لاي اشكال ممكن مع ذلك المعلم. ابديت شدة دهشتي للامر, ليس لاني كنت لا ازال صغيرا انما لاني كنت اعلم ان حمزة كان شاعرا, فلماذا يرغب في تعليم الرياضيات؟.
كان معلمي حمزة شابا في التاسعة عشراو العشرين من عمره, و كان يافعا حتى لتكاد تعتقد انه لا يزال تلميذا في هذه المدرسة, على الاقل هذا ما اعتقدته عندما التقيت به للمرة الاولى في المدرسة.كان طويلا رقيقا, ابيض الوجه, اشقر الشعر, واسع العينين جميلهما, دقيق الانف اشمه, يزين وجهه الجميل اصلا, بلحية خفيفة و شاربين لم يكن يحلقهما اذا ما ازال اللحية.و كان صبورا, هادئا, مؤدبا, كما كان حالما, طموحا, و شاعرا رائعا, علمني تذوق الشعر و فهمه و قراءته و الاحساس بمعانيه. من حيث الشكل فان اشبه الناس به هو الممثل راسل كرو, اما من حيث المضمون فلا اعتقد ان احدا يشبهه اكثر مني.
ابتدات صداقتي بحمزة في الصف الثاني التكميلي. كان استظهارنا الاول قصيدة للشاعر عبد الوهاب البياتي بعنوان "من ذكريات طفولتي". و الاستظهار هو ان تحفظ القصيدة ومن ثم ان تستطيع القاءها عن ظهر قلب, هذا لمن لا يعرف. و قد املاها علينا املاء, لانها لم تكن مدرجة في المنهج الدراسي, الا انه كان يحب تلك القصيدة و قد اورثني هذا الحب بحيث اني كنت و لا ازال اتاثر ايما تاثر عند استذكارها, كما انها كانت القصيدة الاولى التي علمني بها تحسس الشعر قبل القائه, والا كان الامر كتسميع درس العلوم او الجغرافيا.
بعد ان املى علينا القصيدة و شرح لنا معاني مفرداتها, قال لنا ان الوقت قد حان لكي نبدا بمادة الانشاء. و الانشاء لمن لا يعلم, هو ان يطرح عليك موضوع يجب عليك معالجته كتابيا بطريقة ادبية, لكي يستطيع المعلم من سبر اغوارك اللغوية, هذا اذا كانت موجودة طبعا. بشكل ابسط, ان تصبح اديبا صغيرا على اساس انك لن تصبح اديبا كبيرا مهما فعلت! اليس لكل قاعدة استثناء؟
و طرح علينا اول موضوع للانشاء: ماذا علق في ذاكرتك من طفولتك؟ كنا لا نزال اطفالا, حتى حمزة كان طفلا كبيرا لا اكثر. لكن الموضوع كان مثيرا بحيث انك لا تستطيع الا ان تتذكر ما سلف عليك من زمن. و الحق يقال ان طفولتي كانت كطفولة كل اترابي من اقاربي الذين هجروا القرية بعد المشاكل العائلية التي دارت فيها سنة 1968. الا ان ذاكرتي كانت من الشدة بحيث اني كنت اتذكر كل حياتي بالتفصيل و لا ازال حتى لحظتي هذه استعرض حياتي و خاصة طفولتي كلما مررت بحال عصبي شديد. لا اذكر حرفية ما كتبته في ذلك الموضوع و لكني اذكر جيدا ما اوردت فيه من ذكريات طفولتي. كان ذلك الموضوع موجعا لي فقد تضمن رحلة معاناة لعائلة ضعيفة شردت من ارضها, حتى انتهى بها المطاف الى تل الزعتر. كانت تلك اطول رحلة قمت بها في حياتي واظن اني منها لن اعود. على كل, كانت تلك الرحلة جل ما ذكرته من طفولتي في موضوعي ذاك, و لا ازال اذكر اني انهيت الرحلة باستئجارنا لتخشيبة من المختار رحمة الله عليه. اما التخشيبة, لمن لا يعرف, فهي عبارة عن كوخ حزين مبني من بقايا قطع خشبية و صفائح معدنية رصفت على غيرما تنسيق لكي تقي لاجئيها حر الشمس و عويل الريح و شآبيب المطر, الا انها لم تكن تفعل. عانينا في تلك الفترة فقرا مدقعا, ابيضا ناصعا ثابت اللون, لا يحول و لا يبوخ. ولا ازال اذكر جيدا ان اخي سيفوا, والذي كان ما زال رضيعا, مات في ذلك الكوخ, عفوا لم يمت, بل قتله الفقر.على كل حال, اتذكر جيدا اني ختمت موضوعي ذاك بجملة لفتت نظر حمزة بشدة. و كانت هذه الجملة اقرب ما يكون الى:" وكنا في الشتاء ننام على وقع اروع الالحان, من اروع سيمفونيات يعزفها المطر على سطح كوخنا المهموم". اني اعترف ان تلك الجملة هي لا بد اقوى جملة كتبتها في حياتي, كما انها تمثلني خير تمثيل. فبعد رحلة مليئة بالعذاب لاطفال لا ناقة لهم ولا جمل في مشاكل عائلية لم يكن باستطاعة عقلهم الصغير ان يفقهها , وبعد تتويج رحلتهم تلك بالوصول الى التخشيبة تلك, و التي لا غطاء فيها ولا وطاء, اليس من المستغرب ان نجد ان هذا الطفل يستطيع ان يرى الجمال وسط كل ذلك الالم و العذاب! انها قوة الروح وحلاوة الحلم وسحر الامل. كنت ولا ازال احب تلك الموسيقى, الموسيقى التي كان المطر يعزفها كرمى لعيني لكي تنام ملء جفوني.و لا بد ان ياتي يوم ابني فيه تخشيبتي وانام فيها قرير العين نوما طفوليا لا تشوب احلامه الشوائب.
بعد ان صحح حمزة المواضيع كان, و هو يعيدها الينا, يقرا اسم التلميذ و العلامة ومن ثم يعطيه ورقته. الا انه احتفظ بموضوعي حتى الاخير. وعندما قرا اسمي وقفت كباقي التلاميذ,فقال لي:
- اين علامتك يا جميل, من منا يعطي العلامات؟ تعال الى هنا يا جميل,تعال تعال, قف عند اللوح.
فامتثلت لامره. فسالني:
- انا اعرف يا جميل انك شاطر, لكن قل لي هل انت من كتب الموضوع؟
- نعم يا استاذ.
- هل انت اكيد من ان احدا لم يساعدك
- اكيد يا استاذ
- اكيد اكيد؟
- نعم اكيد يا استاذ
فوقف مذهولا و التفت الى الصف و قال :
- انتم تشهدون اليوم يا شباب ولادة الكاتب العربي الكبير الاستاذ جميل العرسالي.
وقد قال هذه الجملة و في لهجته من الجد ما منع قردة الصف كلهم من ان يبتسموا. ثم التفت الي وقال:
- اقرا موضوعك بصوت عال. خلهم يسمعون.
تاثرت جدا بلهجة حمزة تلك, و اعتقد اني لن انل في حياتي تشريفا اكبر من ذلك, على الاقل ككاتب. و قرات. و قرات كما لم اقرا من قبل و لا من بعد.و كان الالقاء مذهلا. صمت الصف صمتا كاتما, و لم يكن يسمع الا صوتي وبعض تاوهاتي و انفعالاتي الى ان انتهيت من الموضوع و صمت انا ايضا. استمر الصمت للحظات ثم بدا حمزة بالتصفيق, ثم انفجر الصف كله بالتصفيق... كان ذاك اليوم حدثا هائلا في حياتي, لم انسه يوما و لن انساه.
منذ ذلك اليوم ولدت الصداقة التي ربطتني بحمزة و قربتني منه.
بعد ان هدا التصفيق سالني حمزة:
- كيف تلقي الشعر؟
- لا اعرف
- هل القيت شعرا من قبل؟
- لا اظن
- طيب, هل حفظت الاستظهار؟
- نعم
- هات اسمعنا
فبدات اقرا الاستظهار. و واقع الامر اني قراته بشكل سيء كمن كان يحصي رؤوس الماشية: السكة السودة العبسة... استوقفني حمزة سائلا:
- اهكذا يلقون الشعر؟ هل هو قطار يسير بوتيرة معروفة على سكته؟ ام انه همهمةاو دمدمة او طنين؟ هذا شعر يا اخي... حرام عليك... لقد كتبه شاعر حساس و صب فيه من ذكرياته ما فعلت في موضوعك...اسمع, بالامس كنا آه من كنا ومن امس يكون, هل احسست بشيء؟ لا, فلنتابع اذن,
بالامس كنا آه من كنا و من امس يكون
نعدو وراء ظلالنا, آه من امس يكون
لا نرهب الصمت الذي تضفيه اشباح الغروب
فوق الحدائق و الدروب
لا نرهب السور الذي من خلفه ياتي الضياء
ولربما مات الضياء و لم يعد, كنا نقول جاء
كنا نقول كما نشاء
حتى النجوم,
كنا نقول بانها كانت عيون
للارض تنظر في فتون
حتى النجوم كانت عيون.
و خيولنا الخشبية العرجاء
بالفحم كنا نرسمها على الجدار
و نرسم حولها حقلا و دار
و نطارد القطط الهزيلة
في الازقة بالحجار.
و في الظلام
ماوى العفاريت الضخام
كانت مدائننا تقام
في الظلام كانت مدائننا تقام
ثم سالني:
- هل احسست بشيء؟ هل اصابتك الرهبة من شيء ما من قبل؟
- نعم. كان بين بيتنا و الطريق زاروب ضيق في الزعتر, و قد كنت اخاف ولوج هذا الزاروب بعد المغيب.
- بدانا نصل, هي تلك اشباح الغروب. اقعد مكانك. في الفرصة تعال الي في غرفة المعلمين و سنحكي.
كنا ننام في الصيف على السطح هربا من حر المساء. ولطالما كنت اتامل النجوم قبل نومي سابحا في فضاء خارجي واسع لا يعلم حدوده الا الله, و كنت اعتقد ان هذه النجوم مصابيح سخرها الله لانارة الظلام و ايناس المستوحدين. و يومها فقط علمت اني كنت على خطا. فالنجوم كانت عيونا للارض تنظر في فتون.
قرع جرس الفرصة. هرعت الى غرفة المعلمين. كان حمزة بانتظاري. قعدت قربه. لم يقل لي كلمة واحدة, بل اخرج دفتره و شرع يلقي القصيدة اياها. كان القاؤه اروع من ان يوصف. كان ساحرا, يلقي الكلمات كما لم اسمع من احد من قبل. و كان كل من في غرفة المعلمين يصغي بانتباه شديد. و حين انتهى انهالت الاستحسانات من كل صوب و حدب.
- الله, الله, ما هذا الحنان؟
- مذهل! هل هي منك يا حمزة؟
- نهارك انس يا معلم, اين كنت في الايام الخوالي؟
- هل غادر الشعراء من متردم؟
لم اكن بطبيعة الحال افهم هذه التعليقات, و لكني صدمت لان حمزة لم يلق القصيدة كما القاها في الصف, بل كان يلقيها كمن يناجي نفسه و يواسيها. كانت نبرته مفعمة بالحنين الى ما فاته من زمن, بل قل ان صوته كان مليئا بالشوق للعودة الى الوراء,الى طفولته, كما لو انه يود ان يعود ليعوض شيئا ما لم يستطع ان يفعله في وقته. احسست بانه كان البياتي نفسه يسترجع ايام الزمن الخالي. لم استطع ان انبس ببنت شفة, و غادرت كما دخلت دون كلام.
لم يكن حمزة محبوبا كثيرا من تلامذة الصف. وكان الاستاذ فوزي الخرفان المعلم الاكثر شعبية.
غير اني كنت اكن لحمزة مودة خاصة. وكان موضوع الانشاء الثاني عن الوطن. وكان ذاك ابداعي الثاني الذي شد حمزة الى ذلك التلميذ اليافع, وراح يعاملني كاديب مستقبلي لا لبس فيه.
وكان يختار في كل حصة من حصص الانشاء تلميذا او اكثر ليقرا موضوعه و يناقشه مع باقي التلاميذ. و قد كنت التلميذ الاكثر نقدا و حوارا في تلك الحصة. كنت احاول ان اكون ناقدا على كل المستويات, ان من حيث القواعد و الاعراب, و ان من حيث تركيب الجملة, و ان من حيث متانة الفكرة. و قد كان ذلك يعجب معلمي و يشد انتباهه الي. حتى انه دعاني الى حضور حصة في الصف الاعلى و الذي كان يدرس فيه اخي الاكبراحمد.
توالت الايام و وصلنا الى آذار, شهر الام و المعلم. فكان موضوعنا فيه ان اي معلميك احب اليك؟ صفه, متحدثا عن مزاياه و نواقصه.
انقسم الصف الى فريقين: البعض اختار الاستاذ فوزي و البعض الاخر اختار السيدة زهرة الجوهري معلمة اللغة الفرنسية. و الحق يقال اني كنت احب الاثنين غير اني كنت الوحيد الذي وقع اختياره على حمزة. وكانت المفاجاة عند توزيع المواضيع. فقد وصل حمزة الى المدرسة هذا الصباح باكرا على غير عادة منه. وكان حليق الذقن, مسرح الشعر, مهندم اللباس, نشيطا, وكل ذلك على غير عادة منه. و اعتقد اني كنت الوحيد الذي يعرف سبب هذا التغيير, و قد صدق ظني. حانت ساعة الانشاء. دخل حمزة الى الصف بكل همة و نشاط. وقف قليلا عند اللوح ثم دنا مني و قال:
- شو, ايعجبك شكلي على هذا النحو يا استاذ جميل؟
فاجبت باهتمام:
- اظنه افضل من قبل قليلا.
فابتسم راضيا و قال:
- قم فاقرا موضوعك.
لم يكن احد يعلم بان موضوعي كان يتناول حمزة. عرفوا ذلك بعدما شرعت في قراءته. وبعد ان انتهيت زال عجبهم لما طرا على تصرفات حمزة من تغيير. كان الموضوع ذاك موجها الى حمزة و فيه نقد طريف و عتاب لما كانت عليه هيئة حمزة من قلة الترتيب والنشاط اللذين كان عليهما, فقد كان يحضر الى المدرسة مشعث الشعر, مرتخي اللحية, غير مغسول الوجه. و كانت قلة النشاط احدى مزاياه. لكنه بعد ذلك تغير, مرة و الى الابد. و لكن للاسف الشديد لم يكن هذا الابد بعيدا فقد استشهد حمزة وهو يواجه العدوان الاسرائيلي سنة 1982, اي بعد ذلك بخمس سنوات. رحمة الله عليك يا معلمي الاول, رحمة الله عليك يا صديقي الاول, رحمة الله عليك, لم انسك يوما في عمري, بل كنت لي خير الصاحب و خير الناصح في كل يوم مر علي حتى الآن.
لا اذكر كيف بدا الامر. لكني اذكر ان حمزة بدا يدعونا الى بيته في بعض الامسيات. كنا رفاق مدرسة و طفولة. كنا, انا و صلاح نصرالله, وعماد شريف, وبعض الرفاق الاخرين نلبي دعوته و كنت استمتع جدا بنقاشاتنا. و قد كانت هذه النقاشات غالبا ما تدور حول السياسة. و قد كنت منذ الصغر معجبا بالسياسة. و كنت كثيرا ما اختلف مع عماد شريف على هذا الامر, فقد كان يلعن الاحزاب دائما, و قد كنت ادافع عن الحياة الحزبية و اعتبر انها نوع من انواع التضامن الانساني و مظهرا من مظاهر الحرية و الحضارة. وقد حصل مرة ان خضنا هذا النقاش في بيت حمزة. لم يتدخل حمزة في النقاش, انما قام بادارته. و في النتيجة بقي كل منا على رايه, الا ان حجتي كانت اقوى. و في نهاية ذلك النقاش طرح علينا حمزة موضوع تاليف حزب. اعجبتني الفكرة و تحمست لها. كان معنا يومها الاستاذ حسين. ز. و للاسف الشديد ظلت الفكرة فكرة ولم تتحول الى واقع. الى اي الاحزاب يا ترى كان حمزة لينتسب اليوم لو انه ما زال حيا؟ اعتقد انه كان ليأسس حزباً وسطاً بين الحزب الشيوعي و الحزب القومي, ذلك لانه كان بطبيعته ثائرا حرا, كريما,يكره الاقطاعيات و يؤمن بالوطن و الانسان ايمانا لا نهاية له. و ها انا ذا, احاول ان اكون ما كان يود لي ان اكونه.اغلب الظن عندي انه لو كان حيا لاسس حزبا لا طائفيا ثوريا,ً اصلاحياً, و اعتقد انه كان ليطلق عليه اسم جبهة ما, كالتحرر و التطوراو ما يشبه ذلك. الا ان الامس مات,
الامس مات
الامس مات
لم يبق من مدينة الاطفال الا ما نشاء
الا السماء
جوفاء فارغة, تحجر في مآقيها الدخان
الا بقايا السور و الشحاذ يستجدي و اقدام الزمان
الا العجائز في الدروب الموحشات
يسالن عنا الغاديات الرائحات
و لربما مرت بهن...
بهن هذي الذكريات
السور و الشحاذ والطفل الذي بالامس مات.
تلك كانت بقية القصيدة. و في احدى الامسيات عدت اليها مع حمزة. فقال :
- عندما تقرا القصيدة, اية قصيدة كانت, عليك اولا ان تفسر مفرداتها, ثم ان تفهم معاني جملها, ثم ان تفهم موضوعها كاملا متكاملا, فان اعجبتك عليك ان تدخل الى روح صاحبها. و عليك ان تتخيل انك انت من كتب هذه القصيدة, ثم عليك ان تلقيها من ذاتك, من نفسك والى نفسك, لا لاحد غيرك. حينئذ فقط ستحس بطعم الشعر و نكهته. اتريد ان اشرح لك القصيدة؟ ربما تجد شيئا لم اجده فيها! هل تريد؟
ثم بدا يشرحها كما قال لي كلمة كلمة, ثم انتقل الى معاني الجمل و تركيبها, ثم راح يشرح القصيدة ككل متكامل. كان الشاعر يقارن في هذه القصيدة الطفل المتفائل الذي بالامس مات, بالشاعر المتشائم الذي يفتقد الى تفاؤل طفولته. فبالامس كانت السماء نجوما مفتونة بالنظر الى الكوكب الحي, اما اليوم فهي جوفاء فارغة تحجر في مآقيها الدخان. و بالامس كان طفلا يرسم خيوله الخشبية العرجاء في الجدار, لم كانت عرجاء يا ترى؟ الا ترى كيف يترنح الاطفال يمنة و يسرة حين يمتطونها؟ صحيح, لقد كانت لا شك عرجاء! اما اليوم فالامس مات. الامس مات. بالامس كان يقيم مدائنه في الظلام, ماوى العفاريت الضخام, لماذا في الظلام؟ الم يكن من الاحسن ان تقام في النور؟ لا. في الظلام حيث لا يراها احد غيرك, الظلام موطن الحلم. هل تراءى لك منام في النهار؟ لا بد انه كان كابوسا. الليل, الظلام هو موطن الاحلام. كل ذلك كان بالامس . اما اليوم فلم يبق من ذاك الامس الا بقايا السور و الشحاذ يستجدي و اقدام الزمان. لم لم يبق كل السور؟ لا, لا يجب ان يبقى, انه الواقع, انه فعل الزمن. و الشحاذ, لم بقي الشحاذ يستجدي؟ انه حال الشحاذين. لاينتهون, و يورثون بعضهم بعضا مواقع الرزق. و اقدام الزمان, لم هي اقدام الزمان؟ نعم, كان الطفل على راس الزمان. و كان العمر كله بالانتظار. اما اليوم فهو على اقدام الزمان, حتى انه يكاد ان يقع تحت تلك الاقدام عما قريب, هذا احساس الكبر. الا ترى كم ان ذلك مشوق؟ الا تحس الآن انك الطفل الذي يطارد القطط الهزيلة في الازقة بالحجار؟ لم كانت تلك القطط هزيلة اصلا؟ لانك طفل و لم تكن لتستطيع ان تلحق القطط السمينة, فهي لا بد كانت اقوى و اسرع منك. هل تشعر يا عبدالله بروح الشاعر؟ هل تشعر انك انت من كتب هذا؟
يبدو يا معلمي ان الزمان ذاك لا يرحم. فكم من اطفال قضوا و هم لا يزالون على راس الزمان؟ و كم و كم من شباب ماتوا بعمر الزهور؟ و انت يا معلمي الم تستشهد و كنت لما تزل في قلب ذلك الزمان؟ لا, لم تنحن وما وطأتك اقدام الزمان ذلك, بل عاد الزمان و رفعك الى راسه طفلا حالما و شاعرا ثائرا مقاوما, تكلل هامته, كما الغار يكلل هامات الابطال.
الامس مات!
|
|