إبتكار أردني بإمتياز: أسياخ شواء اللحمة في مواجهة الإعتصامات.. حكومة البخيت المتفاجئة أكثر من الشعب
بسام البدارين
2011-07-19
أفلتت كاميرا محطة بي بي سي العربي من واقعة تحطيم الصحافة ومعداتها في ساحة النخيل وسط العاصمة الأردنية الأسبوع الماضي لسبب واحد ويتيم فقط وهو أنه لم يسمح لها أصلا بدخول موقع الحدث من البداية فإضطر فريق بي بي سي لإختيار زاوية بعيدة نسبيا على قمة أحد الأدراج وإصطادت'لقطات جيدة مهنية وأفلتت بالوقت نفسه من {العلئة} حسب المفردة المصرية .
ومن سمح لهم بدخول الميدان إحتراما فيما يبدو لنزاهتهم المفترضة في التغطية أو لأسباب أخرى هم فريق محطة الجزيرة وفريق محطة العربية.. بطبيعة الحال لم يكن من الممكن تمييز أعضاء الفريقين عندما وقعت الواقعة فتعرضوا كغيرهم لكل أنواع البهدلة التي حصلت في الميدان.
ومن الواضح ان الزي البرتقالي الذي خصص للمراسليين الصحفيين'في واقعة ساحة النخيل أصبح وبالا عليهم فمن ضرب خص تحديدا أصحاب الزي البرتقالي الموصوف لتوه من الشرطة بغرض مساعدة الصحفيين وتسهيل مهام النغطية.. لذلك أصبح الإنطباع العام عند الضحفيين الضحايا: ألبستمونا زيا برتقاليا لحمايتنا فإكتشفنا بأن الهدف تمييزنا عن المعتصمين لنتلقى الضربة الأولى.
في الأعماق ثمة تفسير آخر لتكرار ظاهرة ضرب الصحفيين في الأردن رغم أن القصر الملكي أول من يستنكرها فوزير الداخلية المعارض السابق مازن الساكت مثلا يعتقد بأن وجود 250 صحفيا دفعة واحدة في موقع إعتصام واحد كان مفاجأة من العيار الثقيل للسلطات ..
الوزير لم يقف عند هذا الحد بل إتهم الصحفيين بالتقدم في الصفوف الأمامية والتحول لجزء من الإعتصام خلافا لأخلاقيات واجبهم.
والهدف من هذه النظرية الميتافيزيقية واضح جدا وهو الإيحاء بأن الصحافة تورطت في لعبة المتهم الأول بالتحريض على الإعتصام المفتوح الشيخ زكي بني إرشيد فقد تبين وفقا لهذه النظرية بان إرشيد ورفاقه نجحوا في حشد الصحفيين ورائهم في ساحة إعتصام واحد ومحدود .. تلك بطبيعة الحال مصيبة على الحكومة والحل كان بتأديب هؤلاء الصحفيين الذين إستقطبهم بني إرشيد.
.. هذا المنطق يكرس بني إرشيد بطلا عملاقا وأقوى من وزير الداخلية وحتى من الدولة الأردنية برمتها فكيف يستطيع رجل واحد فقط مطرود من جنة الإعلام الرسمي والإعلام الليبرالي أن يحشد جيشا من المراسلين الصحفيين خلف فكرته فيما تفشل الدولة الأردنية كلها في إستقطاب ولو خمسة كتاب وصحفيين بالعدد يدافعون عن موقفها وروايتها .
زي برتقالي
إذا صاحبنا إرشيد سوبرمان وأصحاب الزي البرتقالي من المراسلين الصحفيين يستحقون {البهدلة} لإنهم ركضوا ورائهم حسب التفسير الحكومي البائس كالعادة حيث تقول الوقائع بان من تسبب بوجود هذا الحشد من الصحفيين في موقع ساحة النخيل هو تلفزيون الحكومة الأردنية اليتيم.. كيف حصل ذلك؟.
الجواب بسيط ظهر رئيس الوزراء على شاشة محطته ليحذر بأنه لن يسمح بإعتصام مفتوح في عمان ونقل تلفزيون الحكومة مرارا هذا التصريح المدهش فتشكلت قناعة لدى مراسلي الفضائيات وهم كثر أصلا بأن التهديدات الرئاسية تؤسس لمشهد حي لا يمكن تفويته فذهب الجميع للساحة لرصد او لنقل ما يحصل وساعد في التحشيد وزيرالإتصال الناطق الرسمي عبدلله أبو رمان الذي حمل {قنوة} علنا وقال بأن الحكومة ستقمع أي محاولة للإعتصام المفتوح.
.. بهذه الحالة من هو السبب المباشر في جمع الصحفيين وحشدهم حتى لا يستغرب معالي وزير الداخلية الصديق مازن الساكت .. الشباب الذين قالوا أنهم سيعتصمون أم الحكومة التي خاضت تلفزيونيا معركة دعائية لفتت نظر المداوم والنائم معا لإن شيئا ما سيحصل.
مرة أخرى إنشغل الساسة الأردنيون بتحديد موقف الكاميرات والفضائيات من أحداث البلد فقد لاحظ بعضهم بأن شريط الجزيرة الإخباري ورغم تعرض مراسل المحطة في عمان ياسر أبو هلاله للضرب كان {حنونا} إلى حد ما ولم يركز كثيرا على قمع ساحة النخيل فيما بقي الموضوع السوري بالصدارة.
بالمقابل ظهرت العربية محايدة إلى حد الضجر وهي تعرض تقريرا يتيما عن مسار الأحداث في الوقت الذي غاب فيه المشهد عن الجزيرة في فترات البث المسائي لكن مرة جديدة تمكن الأردنيون من إنتاج مشاهد مثيرة يظهر فيها رجال الدرك وهم يضربون عن جنب وطرف صحفيين ومواطنين ليضاف مشاهد طازجة إلى سجلات أرشيفية مماثلة عن أحداث الدوار والأغوار ومباريات كرة القدم
فلا زالت هراوات الدرك تحتل الصدارة في إنتاج أسوأ مشاهد ولقطات تلفزيونية مميزة جدا في الإساءة لسمعة البلاد في الداخل والخارج.
والغريب أن نسبة كبيرة من منظري الموقف الحكومي والرسمي يظهرون على شاشة الفضائية المحلية ليعلنوا إستيائهم من اللقطات التلفزيونية المثيرة التي تسيء للبلاد .. المعنى أن الجميع يعتبر هذه المشاهد التي تتجول في الفضاء مجانا مسيئة لكن لا أحد يريد أن يسأل عن مبررات إنتاجها وعن حقيقة ما يحصل في الميادين.
نقيب الصحفيين طارق المومني وهو رجل في قمة الإعتدال والتعاون مع السلطة قال:
إعتداءات الصحفيين منهجية وليست محض صدفة .
هش ونش وسيخ لحمة
والكاتب الصحفي نبيل الغيشان وهو من خصوم الإعتصامات المفتوحة والإسلاميين وكل ما يخلخل المسيرة طرح سؤالا لوجستيا: ما الذي يحصل .. لماذا يتجمع عشرة رجال أمن لضرب زميلة صحفية ؟.. ما الذي دفع رجل أمن للإمساك بسيخ مخصص لشوي اللحمة أو سلم حديدي ومطاردة المعتصمين؟.
وسيخ اللحمة هنا له دلالة إجتماعية ورمزية فالأردنيون يطلقون على حالات وحفلات الشواء {هش ونش} والهش يعني إستخدام قطعة كرتون لإنتاج كمية كافية من الهواء فوق أسياخ اللحمة التي تتدلى على صندوق الفحم المشتعل اما {النش} فلا املك بصراحة تفسيرا مانعا له وهو على الأرجح يتعلق بخطف اللحوم ثم إيداعها بسلاسة في الفم لملء الجوف والتمتع باللذة إياها.
بالقياس يصبح تحويل أسياخ اللحمة التي تحدث عنها غيشان لسلاح حيوي متخصص بقمع الإعتصامات وملاحقة الكاميرات إختراعا أردنيا بإمتياز فالمقصود التلويح الأمني بالسيخ لهش المعتصمين بمعنى تفريقهم في مساحة أوسع ثم تأتي مرحلة ال{هش} وهي التي تعني زرع أي جزء من السيخ الحديدي على جلد المعتصم الهارب لإلتهامه ونيال من يتمكن من الإفلات من حفلة الشواء القمعية هذه ففي بلادنا يقولون{ الهريبة ثلثين المراجل}.
قبل ذلك بأسابيع إستخدم الأمن الأردني تكتيكا فريدا فقد وزع الماء البارد والعصائر على المعتصمين ويوم ساحة النخيل إستخدم الأمن كل ما هو متاح ليس لتفريق المعتصمين والصحفيين بل لملاحقتهم'وضربهم في لحظة إنفعال تضررت بها سمعة المملكة كما قال الكاتب الصحفي فهد الخيطان.
لاحقا وكما يحصل في كل مرة زار رئيس الوزراء الذي قمع المعتصمين والصحفيين الجرحى من الصحفيين فقط ووعد بتشكيل لجنة تحقيق ووحده مدير الأمن العام حسين المجالي تصرف بسرعة وقبل غيره فأمر بإيقاف أربعة من رجاله يشتبه بأنهم ضربوا الصحفيين وتحويلهم للمحاكمة ..الدرك لم يفعل ذلك ولا حتى الحكومة فقد عدد الكاتب الصحفي خالد محادين عشرين حادثا شكلت من أجله لجان تحقيق ولم يتم الإعلان عن نتائج التحقيق في أي منها.
ولاحقا أيضا صدر الأمر بمعالجة الصحفيين المصابين على نفقة الديوان الملكي في محاولة لإحتواء الفوضى الذي تسبب بها قرار أمني ميداني حتى وزير الداخلية مازن الساكت لا يعرف كيف إتخذ ومن إتخذه ولماذا؟... هنا يمكن ملاحظة ان وزير الداخلية البعثي السابق يمتنع عن تقديم إستقالته ويقول بكل صراحة بأن الحكومة تفاجئت بمسار الأحداث.
وذلك لا يعني إلا حقيقة واحدة مؤسفة وهي أن الحكومة ليست الجهة التي نفذت سيناريو قمع الإعتصام سواء بأسياخ اللحمة أو بغيرها فمن الذي فعل؟.. سواء أكانت هي أم جهة أخرى ليس من اللائق أدبيا ولا سياسيا إلا أن تتقدم الحكومة بإستقالتها ومن غير المعقول أن {تتفاجيء} الحكومة مثلنا نحن المساخيط والمراقبين والسذج البسطاء بالأحداث وكأن ساحة النخيل مكان يقع في قلب كوستاركيا وليس في قلب العاصمة عمان.
كاميرا على السطح
على أحد أسطح مخيم البقعة للاجئين الفلسطينين في الأردن تواجدت كاميرا واحدة فقط أمام ضيف المخيم رئيس مجلس النواب فيصل الفايز خصصها أصحاب الدعوة لتوثيق حوارهم مع الضيف ورغم ان القدس العربي خصصت تقريرا لتغطية المناسبة والحوار النادر الذي دار فيها إلا أن بعض الوقائع الطريفة خرجت من سياق التغطية الرسمية للمشهد.
وهنا يمكنني إستذكارما قاله أحد الفنانين وهو رسام من أبناء المخيم سبق للفايز أن إفتتح معرضا له .. فال الشاب للفايز: أنا أركز في رسوماتي على حالة اللجوء وأكرسها وعندما إفتتحتم دولتكم معرضي قبل فترة وقفت أمام بعض اللوحات وطرحت علي السؤال التالي: يا أخي أين الأردن في رسوماتك ؟.
.. فكرة الفنان اللاجيء كانت بسيطة فأولويته هي فلسطين وتحريرها والعودة ولكن العمل السياسي والحزبي في الساحة الأردنية مغلق على المواطنين اللاجئين فكيف سيشعر اللاجيء بالعنصر الأردني في حياته ومسيرته ؟.
قبل ذلك بسنوات وعندما كان الفايز رئيسا للحكومة سجلت معه القدس العربي حوارا شهيرا سألني فيه الرجل: يا أخي لماذا لا يغني أطفال مخيم البقعة للأردن وللهاشميين ؟... يومها إجتهدت بالإجابة التالية : دولة الرئيس لا يفعلون ذلك لإنه لا أحد في الدولة الأردنية يزورهم أو يتعامل معهم كمواطنين.«'لاحقا أكثر الفايز من زياراته للبقعة حتى أصبح رئيسا فخريا للنادي التابع للمخيم .. رغم ذلك لم يتغير الأمر كثيرا فقد وقف أحد اللاجئين المثقفين ليقول: نحن محرومون من العمل السياسي والحزبي الأردني ومحرومون أيضا من التعبير عن هويتنا كلاجئين .
مدير مكتب 'القدس العربي' ـ عمان
نقلا عن:
القدس العربي.