ذكريات تداعت بعد مشاهدتي لمشهد مبارك وهو على سريره في قفص الاتهام..
الشماتة فعل دنيء وأنا لا أفعله...لن أشمت إطلاقاً في رجل عجوز على سرير أياً كان..
ولكني أبتغي عدلاً ...ابتغي ألا تذهب دماء الضحايا سدى....ولو رضيت أنا فكيف ترضى من فقدت إبنها وسندها في الحياة...هل يرضى هو؟...أبتغي درساً للبشرية...مصر تحاكم فرعونها عندما أجرمت
يداه..إن لم يكن خشية الله رادعة فخشية الحر واجبة...
جلست طويلاً على النت أبحث عن سابقة لما حدث...إعتقال الرئيس ومحاكمته مدنيا...خلع ديكتاتور ..ومواجهته بما اقترفت يداه.....
مشاعر مختلطة مرت بي...فتركت المحاكمة وذهبت لأسبح لأكثر من ساعتين مستعيداً سيناريو الأيام السابقة....أنا من هواة السباحة لمسافات طويلة لأنها رياضة وتأمل.... أول ما دار في ذهني، بعد يا عيني شكله غلبان، هي كيف نحن بنفسياتنا المتعبة والمخنوقة والمكسورة من تلوث القاهرة وزحام دروبها ...والصراع اليومي الذي يجبرك في اليوم على إبتلاع الإهانة والسكوت عن الظلم عشرات المرات..مازلنا قادين على الرفض والعند...حتى نحقق ما لا أجد سابقة له في التاريخ الحديث حتى الأن...أعدم الثوار تشاوشيسكو وموسوليني ولكن لم تكن أبداً محاكمة مدنية مثل هذه...
موشيه كاتساف هو الأخر لم يكن رأس الدولة الفعلي الذي إقتلعه الشعب من جذورة في كل مكان في مصر ...
تداعت الذكريات على رأسي...ليست ذكريات الثورة...بل ذكريات ما قبل الثورة...ذكريات جيل من الشباب ..كانوا يوماً هم الوحيدون المصدقون تماماً في إمكانية ذلك..
فكرت طويلاً في طول الرحلة التي قطعها هذا الجيل....الذي يكتب التاريخ بلا كاتالوج أو تجارب سابقة...بلا أي توجيه سديد..فأسلافه هم من أوصلوه إلى هنا..وأقصى ما يتمنون أن يبقى الحال على ما هو عليه....وهو لذلك ملام أياً فعل...وملعون لو فعل و ملعون إن لم يفعل...
جيل عنيد و عنيف، على عكس طبيعة المصري المعتادة، جيل كرامته تؤلمه ...جيل لا يتنازل ولن يحقق لنفسه شيئاً...بل هو أكثر جيل سيضر....لأنه وقود التغير وهو يعرف ذلك جيداً..ولكنه يصمم أن يستشرف المستقبل ويرفض أن يعيش لحظته"المستقرة"، وهنا أيضاً خصلة جديدة على المصريين تماما........
تتداعى فلاشات ولقطات سريعة لمحطات في رحلة هذا الجيل من الناشطين شهدتها شخصياً والتي بدأت في أوائل الألفية الثانية ...
بعض أصوات المعارضة تنطلق كاسرة تقديس الرئيس.جريدة الشعب التي أغلقت وحل حزب العمل كله..التظاهرات الصغيرة أمام نقابة الصحافيين...جريدة العربي الناصري...ندوات علاء الأسواني في وسط البلد...
كنا شباباً متمرداً ....كفر بكل الثوابت...وأدمن "وسط البلد" بمقاهيها وأتيليهاتها وخماراتها وسينيماتها ومسارحها..
شباب يساري الموقف من الفقراء...إسلامي الموقف من إسرائيل ...عروبي الموقف من أمريكا ...ليبرالي الموقف من الفن..ثوري الموقف من الحياة.....
كنا كلنا طلبة جامعة وقتها..كانت محاولاتنا المستميتة بالخروج بالمسيرة من الجامعة تكسر دوماً قبل الوصول إلى السفارة الإسرائيلية القابعة على بعد مائة متر من بوابة الجامعة،
أتذكر إبان الإنتفاضة الفلسطينية الثانية عندما تظاهرنا حوالي خمسون فرداً تنديداً بالموقف المصري الرسمي...أتذكر عندما منعنا من مغادرة أسوار "القصر العيني...كلية طب" إعتصمنا
ومنعنا العميد والأساتذة من الدخول في خطوات ثورية عشوائية بلهاء
ثم فهمنا أن القصر العيني أيضاً مستشفى حكومي كبير ففككنا الإعتصام..بالإضافة طبعاً إن شارون ليس صديقاً لعميد الكلية مثلاً
أتذكر إنتخابات إتحاد الطلبة ومعسكرات إعداد الطلبة وكونك الحزبي الوحيد "التجمع اليساري" في وسط بحر من شباب الحزب الوطني... أتذكر الشطب والقهر ..
كانت أولى نجاحاتنا وظهور لنا في عام 2003 عندما ميدان التحرير للمرة الأولى عام لمدة يوم....وضربنا يومها كالكلاب الضالة
أتذكر إني أصبت إصابة بالغة يومها ...
الضغط يشتد علينا...الألاف يتساقطون في قطار الصعيد وفي العبارة وفي مسرح بني سويف...
نذكر كل يوم بأننا من أبناء شعب لاقيمة له....
كفاية وعلاماتها الصفراء والتي قادنا فيها ونظمنا جيل أكبر...ولكننا كنا عصب الحركة..
كنا الداعم الأساسي لأيمن نور وحلم التغيير في 2005...
أتذكر التظاهر ضد المحاكمات العسكرية "التي كانت تطبق فقط على "الإخوان المسلمين"، أعدقائنا الدائمين..
أتذكر كسرتنا عندما نجح مبارك، كما كان متوقعاً من الجميع سوانا
أتذكر تحركنا بدون قيادة سياسية تماماً في السادس من أبريل 2008 ...وكيف ذهبنا إلى المحلة للتضامن مع الإضرابات العمالية...وكيف نقلنا الصورة إلى الإعلام الغربي حتى ملأت
أحداث المحلة الأسماع والأبصار ..
أتذكر إشتعالنا مرة أخرى ضد التوريث الذي يسبه الشعب ويتجاهله وهو قادم لامحالة يطرق على الأبواب..
أتذكر خالد سعيد الذي منحنا تعاطفاً شعبياً وقضية نحشد من أجلها.. وأنحني إجلالاً لعظيم فعل لعنته على قاتليه....أتذكر كيف أحطنا بأمن مركزي بأضعاف أعدادنا.. أمام أمن دولة"لاظوغلي" المرعب..
أذكر من حوالي سنة البرادعي واستقباله وموضوع فتحته في هذا النادي وأنا عائد من المطار بعد أن استقبلته أرتعش أملاً وتأكداً....وأخاف أن تبوح كلماتي بحماستي كي لا أبدو حالماً مخرفاً..
الكثير جداً من المشاعر المختلطة..
كل ما أستطيع قوله الأن...شكر الكل دماء الشهداء ولكني أيضاً لن أنسى أن أوجه تحية لرفاق مسيرة عسيرة..