هل نحن آدوات ام ذوات؟
سعيد ناشيد
اعتقدت البشرية طويلا أن الله لم يخلق الجمهور إلا ليجرّ عربة الإمبراطور، ولم يخلق العوام إلا لبيعة الإمام وطاعة الحكام، ولم يخلق النساء إلا لإمتاع الزوج ورعاية الأبناء، ولم يخلق البشرية جمعاء إلا لتعبده وتمنحه الدعاء. وبالجملة التأكيدية، فإن الإنسان مخلوق مكلف بمهمة، بل لعله مجرد أداة لإنجاز وظيفة محددة قبلا ومسبقا، وليس ذاتا حرة ومستقلة وقادرة على تحديد اختياراتها الوجودية والوجدانية.
هذا هو تصور العالم القديم.
بين العالم القديم والعالم الجديد فارق كبير، يتحدد ليس فقط في وعي الإنسان بأنه صانع للتاريخ، وإنما يتحدد أيضا في مستوى وعي الإنسان المعاصر بذاته. فداخل العالم القديم -أيا كانت تسميته- يتم التعامل مع الإنسان كمجرد وسيلة لتحقيق غايات مرسومة سلفا. أما داخل العالم الجديد، فيدرك الإنسان وجوده كذات تمتلك السيادة على نفسها، لا مجرد موضوع خاضع أو تابع لمشيئة ذات أخرى، ومن ثمة يتعين وجود الإنسان -في العالم الجديد- من حيث هو غاية في ذاته لا مجرد وسيلة لغايات أخرى يطيعها ويخدمها.
القدرة على امتلاك الوعي بالذات هي الفيصل بين العالمين القديم والجديد، وهي الشرط الوجودي والوجداني للوعي بالحرية وبالكرامة. وقد مرت الحداثة الغربية بمرحلة الوعي بالذات كمرحلة سابقة وممهدة للوعي بالحرية، لكنها كانت أيضا مرحلة ثورية في تاريخ الوعي الإنساني. يمكننا القول أن جذور الوعي بالذات تعود إلى سقراط عندما قال: اعرف نفسك بنفسك. وأينعت مع ديكارت في صيغة أنا أفكر/ أنا موجود. ومباشرة بعد ديكارت جاءت مرحلة الوعي بالحرية، بدءا من سبينوزا الذي اعتبر أن الحرية هي الغاية الحقيقية لتأسيس الدولة، ثم كانط الذي يعتبر الحرية شرطا تأسيسيا للأخلاق، وهيجل الذي يعتبر التاريخ ما هو إلا تاريخ الوعي بالحرية، وصولا إلى سارتر الذي يؤكد أننا محكوم علينا بالحرية.
بمعنى من المعاني، يكون تاريخ الحداثة هو تاريخ تطور الوعي بالحرية.
في العالم القديم، عادة ما كانت الحرية تأتي في أدنى سلم القيم؛ فقد كانت هناك أولويات تسبق الحرية، مثل الأمن والغذاء والبقاء والاستقرار. وليس يخفى أن بعض القيم، بصرف النظر عن تقليديتها، كانت ولا تزال تمثل نوعا من الشرط الإنساني، مثل كرم الضيافة، والعفو عند المقدرة، وكظم الغيظ، ونحو ذلك، وهي قيم إنسانية قديمة لكنها باقية. غير أن قيما أخرى كثيرة، وبصرف النظر عن بعض منافعها في العالم الغارق في القدم، إلا أنها تعيق تطور قيمة الحرية.
ربما، وبشيء من التوضيح، يمكننا القول ان ثلاث قيم مركزية تنتمي إلى العالم القديم، أعاقت تحقق الوعي بالذات ومن ثمة تأخر الوعي بالحرية، وهي إن لم يتم تداركها اليوم بالإصلاح الديني واللاهوتي الواجب، فأبواب النكوص قد تبقى مشرعة:
1ـ مفهوم الطاعة: حيث تتلاشى ذاتية الفرد أمام مشيئة ولي الأمر، الذي هو الأب أو السلطان أو الزوج أو الشيخ أو المرجع أو الزعيم أو الله.
2ـ مفهوم الجماعة: حيث تتلاشى ذاتية الفرد أمام مشيئة الجماعة، أكانت عائلة أو قبيلة أو عشيرة أو طائفة أو حزبا أو نحو ذلك.
3ـ مفهوم القدر: حيث تتلاشى ذاتية الفرد أمام مشيئة الله.
قد يبدو العالم القديم أكثر مدعاة للطمأنينة وراحة البال في بعض الأحيان، لكنه عالم تنعدم فيه سبل حرية الإنسان. في حين أن إنسان الحداثة قد اختار أن يضحي بقليل من الوعي السعيد مقابل الكثير من الوعي بالحرية. وربما يكون هيغل قد حسم الموقف حين قال: الشعوب السعيدة لا تصنع التاريخ.
إنسان الحداثة سيد نفسه، وهو الصانع الوحيد لغايته. تلك مشكلة يعانيها، لكنها مشكلة تعنيه.
([) كاتب وأكاديمي مغربي