في الوقت الذي تتحرك فيه قوات الرئيس بشار الأسد تدريجيًا لقتل المعارضين، تجنبًا لإحداث صدمة في المجتمع الدولي، يراقب السكان عمليات الإعدام الهادئة بخوف ولا يسعهم سوى أن يقوموا بإحصاء الضحايا.
بدلاً من "صباح الخير" و"كيف الحال" أصبح السؤال اليومي للسوريين "كم بلغ عدد القتلى اليوم" وذلك بعد أن تحولت المجازر إلى عمليات قتل وقنص ممنهجة تنفذ في الأقبية والساحات المظلمة. واقتحمت القوات الموالية للرئيس بشار الأسد ضاحية داريا في أواخر آب (أغسطس) الماضي، لكن بدلاً من أن الاشتباكات والعمليات العسكرية، شهت البلدة تكتيكاً مختلفاً يعتمد على عمليات القتل الجماعي.
وعلى عكس مجزرة حماة التي ارتكبتها قوات الأسد الأب قبل ثلاثة عقود في مدينة حماة، والتي خلفت أكثر من 20 ألف قتيل في ثلاثة أسابيع، تحولت آلة القتل إلى حملة قتل بطيء تحقق أهدافها بتأني ودقة، إنما تتجنب تسليط الضوء على مجازرها.
وبعد فيديو مجزرة حولا في شهر أيار (مايو) الماضي، والتي أدت إلى مقتل 108 أشخاص معظمهم من الأطفال، كانت هناك ضجة دولية وجيزة، وقامت عدة دول غربية بطرد السفراء والديبلوماسيين السوريين. وبعد أقل من أسبوعين، شهدت بلدة القبير مجزرة أودت بحياة 78 شخصاً، ومنع مراقبو الأمم المتحدة من زيارتهم البلدة في الأيام الأولى.
وفي هذا السايق، نقلت صحيفة الـ "لوس انجلوس تايمز" عن محمد شحادة، ناشط في داريا قوله إن "القتل الجماعي محاولة ليس فقط لسحق المعارضة ولكن أيضاً لضمان أن الأجيال القادمة لن تفكر يوماً بأن تثور على الحكم"، مشيراً إلى أن أعمال القتل باتت تتم بواسطة القنص أو الإعدام الجماعي.
ويقول شحادة في إشارة إلى تقصير المجتمع الدولي في ردة فعله تجاه العنف في سوريا "إنه تكتيك ذكي من جانب النظام، فبذلك لن تكون هناك صدمة من قبل المجتمع الدولي. لكننا نشهد أن العالم لديه خط أحمر واسع للغاية".
وتقدر المعارضة أن الحملة الوحشية التي يشنها الأسد حصدت حتى اليوم أكثر من 27 ألف قتيل، وهذا العدد آخذ بالارتفاع. من جهته، يقول ابو كنان، الناشط في داريا إن عمليات القتل تزداد سوءاً، مضيفاً: "عندما نزلنا للشارع لأول مرة، قتل ثلاثة. وبعد ذلك بدأت مداهمة المنازل وقتل 10 أشخاص. اليوم قتلوا أكثر من 700 سوري في داريا وربما في المرة القادمة سيقتلون ألفاً آخرين".
وتنفست داريا الصعداء في الأشهر الأخيرة، وليس بسبب قوة الثوار القتالية بل ببساطة لأن الحكومة سحبت قواتها تدريجياً للقتال في مكان آخر. وبدأ القصف في داريا يوم الاثنين في أواخر آب (أغسطس)، ورد الثوار بمساعدة ميليشيات المعارضة من الضواحي الأخرى. لكن القتال كان ضعيفاً لأن الثوار هاجموا الدبابات والعربات المدرعة ببنادق الكلاشينكوف والقذائف الصاروخية.
وكان الناشط أبو معاوية ينام في من منزل أحد الأصدقاء واستيقظ في الساعة السابعة صباح السبت وقال ان الجنود كانوا على وشك شن غارة على الحي. فتح أبو معاوية نافذة في الطابق الثاني للقفز، لكن الجنود كانوا قد انتشروا في الشارع.
واضطر إلى الإختباء وصديقه في علية المطبخ وتواروا خلف الجرار القديمة وإطارات الصور الكبيرة، من دون لمس الأغراض المغبرة حتى لا تفضح مكانهم. بقي الاثنان في العلية لمدة ساعة ونصف تناول فيها الجنود الإفطار في منزل الأسرة ثم رحلوا بعد ان نهبوا المنزل.
يقول أبو معاوية إن القوات هددت بأسر الابن الصغير للعائلة ذا لم يفصحوا عن وجود الثوار، لكن الأم بكت وتوسلت فرحلوا من دون خطف الصبي أو تفتيش العلية. "بصراحة، هذه اللحظات لا تنسى، كنا ممدين في العلية والرعب يملؤنا. كنا نشد شعورنا كلما سمعنا صوتهم يقتربون من المطبخ. كنا نتصبب عرقاً ونتلو الصلوات".
في تلك الليلة، تراجع الجنود من الشوارع فبدأ سكان داريا بعد الجثث. ويقول النشطاء انه تم العثور على أكثر من 72 جثة في إحدى الطوابق السفلية، إلى جانب 50 أخرى في المنزل المجاور، كما أعدم 35 شخصاً في ساحة الحرية في البلدة.
ويقول حسام، أحد سكان البلدة "لم نصدق آذاننا عندما سمعنا عن وجود 200 جثة. ما هذا العدد؟" مضيفاً أن أحداً لم يصدق حتى شاهد مقاطع الفيديو. وقال النشطاء غن القوات الحكومية والشبيحة عادت إلى البلدة في اليوم التالي وداهمت العديد من المنازل، مكررة نمط الإعدام ذاته. وحاول العديد من السكان الفرار لكن تم إطلاق النار عليهم في الطرقات. وفي تلك الليلة، عثروا على جثث المئات من القتلى.
وأعدم معظم القتلى في المدينة في الطوابق السفلية، بعيداً عن أعين تسجيل كاميرات الهواتف النقالة التي ساعدت في توثيق سفك الدماء خلال هذا النزاع. وعلى الرغم من أن عملية القتل نفذت بصمت وسرية، تمكن احد الناجين من الإعدام الجماعي من الفرار من أحد الطوابق السفلية حيث يقول أن 72 شخصاً أعدموا بالرصاص.
ونقلت الصحيفة عن أبو براء، احد الثوار في البلدة، قوله إنه شاهد الجنود يسحبون رجلين في الشارع، ثم قتلوهما رمياً بالرصاص في الجزء الخلفي من الرأس. وأضاف: "اطلقوا عليهم المار من دون ان ينبسوا بشفة".
ورداً على اتهامات النشطاء بمسؤولية الحكومة عن عمليات القتل، ردت الأخيرة بالقول ان "الإرهابيين" نفذوا هذه المذابح، في إشارة إلى المعارضة. وأجرت منظمة هيومن رايتس ووتش مقابلات مع أكثر من اثني عشر شخصاً من السكان والنشطاء، وقامت بتحليل صور الأقمار الصناعية قبل وبعد الهجوم المستمر منذ اسبوع.
وقال أوله سولفانغ، باحث طوارئ في هيومن رايتس ووتش، إن القوات الحكومية أو المليشيات الموالية الأسد كانت وراء كل عمليات القتل، مشيراً إلى أنه لم يجد أي دليل على أن الثوار من الجيش السوري الحر كانوا مسؤولين عن أي من حالات القتل.
ووقف أبو كنان على السياج الذي يفصل الشارع عن المقابر الجماعية حيث دفن أكثر من 502 شخصاً. أخرج رأسه من سيارته وسأل أحد الشبان: "كم العدد اليوم".، فرد الأول قائلاً: "ستة عشر". ما وراء الجدار، تحوي خمسة سواتر ترابية جثث أكثر من 600 شخص. وتم دفن نحو 100 آخرين في المقبرة في جزء آخر من المدينة.
وفي بدايات الثورة السورية، قال المعارضون أن الأسد لن يرحل قبل أن يسقط 10 آلاف قتيل. أما اليوم، فباتوا يتمنون لو اقتصرت أعداد الضحايا على هذا الرقم فقط.
http://www.elaph.com/Web/news/2012/9/762...ntry=Syria