قوالب الثلج
(قصة قصيرة)
رائد قاسم
تجد نفسها في الأعلى... ضباب كثيف يحجب نور مقلتيها... أصبحت بعيدة عن كل من حولها ... تحاول الاستغاثة فينعقد لسانها ... تستسلم لقدرها، إلا أن الضباب سرعان ما ينقشع ليظهر بعده نور شديد تسمع من خلاله أصوات بشرية منكرة... ينجلي النور لتجد نفسها محاطة بطاقم من الأطباء والممرضات اللاتي يسارعن إلى تهنئتها بعودتها إلى الدنيا....... أطفالها الثلاثة يتسابقون في الدخول إلى حضنها بدموع غزيرة ولهفة عارمة... زوجها يقبل خديها والدموع منهمرة من عينيه.... تعود إلى غيبوبتها مرة ثانية ... تستقر حالتها وبعد عدة أيام تعود إلى منزلها ....
- ماذا قال لك الطبيب بشان حالتي؟
- لا تقلقي يا عزيزتي، انه مرضك المزمن الذي رافقك طوال عمرك.
- ولكن هذه المرة تبدوا مختلفة، لقد كنت قريبة جدا من...
يحتضنها بشغف...
- لا تعودي لمثل هذا الكلام مرة أخرى، كل شي سيكون على ما يرام.
- ( بوجل ) حقا.
- بالطبع، فكري فقط بأطفالك وبأيامك المقبلة، دع عنكِ ما عدا ذلك.
يمسك بأطفاله ويجلس زوجته على كرسيها المتحرك ويذهب بهم إلى الملاهي ، هناك تشاهد أطفالها وهم يلعبون ، تغمرها سعادة عارمة، ترى الناس من حولها وهم في بهجة وسرور ، تشعر بقوة تسري في جسدها ، تغادر كرسيها المتحرك وسط تصفيق الناس من حولها ، يشجعها زوجها ويحتضنها أطفالها .. تمشي وتبتسم ابتسامة غناء وكأنها تغني للجمال من حولها.. يتقدم نحوها احد المعجبين..
– سيدتي ارجوا أن تقبلي مني هذه الوردة الحمراء.
تأخذها منه بوجه باسم مشرق..
يتأمل في وجهها مليا، ينظر في عينيها...
- سيدتي العلة في الجسد لا في الروح، عندما تنامين تتحرر روحكِ من جسدك ِ ، فلا تشعرين بمرضك إلا عندما تستيقظين ، ولكن عندما تكون علتك في روحك فانك تشعرين بها في يقظتك ونومك .
.. تعود إلى شقتها، وهي مبتهجة، تواصل علاجها، تظهر تقدما في مراحل العلاج...
- دكتور هل ستشفى؟
يخلع نظارته وينظر له بوجم...
- كل شي بمشيئة السماء، إنها تقاوم بشراسة والنتائج جيدة.
***
تتمكن من ترك كرسيها المتحرك .. روحها ترتبط بجسدها أكثر، تزداد قوة ونظارة، تعود لممارسة الكثير مما تركته سابقا. السكينة والاطمئنان يغمران أسرتها مرة أخرى ... في ليلة عيد الميلاد تخرج مع عائلتها لشراء هدايا العيد الجميلة....ثم تتناول وجبة عشاء شهية ...
- الحمد الله يا حبيتي لقد رجعت لك نظارتك وعاد زهوك.
- كل هذا بفضل الله ثم بفضل وقوفك معي يا زوجي الحبيب.
يعودان إلى مسكنها، يقلبان في الهدايا...
- أوه هذه اللعبة مكسورة.
- لا عليك أرجعها بعد العيد .
- ولكني أريد إهدائها لابن أختي.
- وماذا ستفعل؟
- سأذهب لإعادتها .
- ولكن.
- لا تقلي نصف ساعة وأعود.
يقبلها ثم يخرج مسرعا... تشعر بإحساس غريب يسري في جسدها....انقباضه في صدرها، الدنيا تمتلئ بغبار كثيف ..تسير للشرفة بصعوبة بالغة، ترى زوجها وهو يركب سيارته... تناديه ولكنه لا يسمعها... صداع عنيف... ضغط رهيب يسري في أنحاء بدنها... تنادي على أطفالها ولكنهم أصبحوا بعيدين عنها ... تلتفت يمينا وشمالا فترى ورود حمراء تحيط بها من كل صوب. تبتسم تم تغفوا...
***
نبضات قلبه مضطربة..... شعور غريب ينتابه لأول مرة. انقباضات صدره تتماوج، يرى ذلك الرجل الذي أهدى زوجته وردة حمراء قبل عدة أيام... يقترب منه بصمت..
- هل تعتقد بانها ستشفى؟
- قد تطبع الروح النقية جسدها العليل، ولكن الجسد يبقى مجرد آلة.
- ماذا تقصد؟
- جسد الإنسان ليس سوى رداء للروح وهذا الرداء قد يتعرض للتلف وتنتهي مهمته في أي وقت.
... يتصل على زوجته محاولا الاطمئنان عليها ولكن من دون جدوا. ينتابه قلقا عظيم.. يهرول بسيارته مسرعا...
- كلا سأدخل بشكل طبيعي، لا أريد أن أشعرها باني كنت قلقا عليها..
.. يفتح الباب بهدوء . يناديها بحنان .. ولكن منزله يظل ساكنا إلا من أنفاس بعيدة لأطفاله النائمين. يناديها بصوت يزداد هيجانا ولكنها تظل صامتة..
.. يبحث عنها في أنحاء البيت فيراها ملقاة على الأرض وقد برد جسدها، يحتضنها والدموع تنهمر من عيونه المتورمة كالطوفان... يئن ... يصرخ ... يبكي .. يخاطبها بقلب مفجوع ونفس مرتاعة ....
- عودي إلى جسدك يا حبيتي، أعدك باني سوف افعل المستحيل ليكون صالح لسكنك فيه، أرجوك امنحيني فرصة واحدة فقط..
يغسلها بدموع عينيه ثم يحملها في تابوت ويضع فيه قوالب من الثلج، يأخذ أطفاله معه ويمضي بهم في درب طويل.
-أبي ما بال أمي لا تستيقظ من نومها ؟
- لا تقلقوا يا أبنائي، أمكم نائمة بسبب الحمى، ضعوا عليها قوالب الثلج باستمرار حتى تنخفض حرارتها وتستيقظ لتضمكم في حضنها.
يضعون علي جسدها المزيد من قوالب الثلج على أمل أن تغفوا من صحوة نومها وتضمهم في حضنها على جري عادتها، إلا أنها ظلت نائمة بينما كان زوجها يذرف دموعه الحبيسة بين فترة وأخرى حتى نهاية الطريق.