تخيلوا معي أنكم تقرؤون صفحة إعلانات الوظائف، وقرأتم هذا الوصف غير الجذاب تماماً للصفات التي يتعين توافرها في الشخص المطلوب للاضطلاع بوظيفة ما:"مطلوب شخص متعدد القدرات، لإدارة وإصلاح شؤون دولة مساحتها 6.6 مليون ميل مكعب(معظمها غير مأهول) ويقطنها سكان يتناقص عددهم على نحو خطير، ولديها مؤسسة عسكرية حل بها الضعف، وتعاني من مشكلات بيئية واجتماعية هائلة، وخلافات إثنية داخلية، وجيران عديدين حاسدين، بسبب التحولات سريعة الإيقاع، والتي قد تحمل في طياتها أضراراً في توازنات القوى الآسيوية والعالمية". مهلا... ليس هذا هو كل شيء، إذ يجب أن يكون ضمن المواصفات المطلوبة- كما أتخيل:"يجب أن يتسم من يرغب في الالتحاق بتلك الوظيفة بشخصية عنيدة للغاية، وأن يكون مفتقراً للخيال (أو متمتعاً بقدر أكثر مما ينبغي منه)، لأن هذه الوظيفة تتعلق بإدارة روسيا.



ربما لم تكن مثل هذه الأفكار المتشائمة موجودة لدى كثير من المراقبين- الذين شاهدوا حفل تنصيب "ديمتري ميدفيديف" رئيساً لروسيا في التاسع من مايو الجاري-: فالمناسبة حظيت بترحيب أهل موسكو، وباحتفاء من جانب القسم الأعظم من وسائل الإعلام الوطنية، والجماعات القومية الجيدة التنسيق، علاوة على أنها شهدت عقب انتهاء مراسم تنصيب "ميدفيديف" بفترة قصيرة مراسم تعيين "فلاديمير بوتين" نفسه في وظيفة الرئيس"الأعلى" لوزراء روسيا قبل أن تنتهي باستعراض عسكري تقليدي في الميدان الأحمر.



وهذا الفيض من الثقة الذي شعر به هؤلاء المراقبون لا يتعلق فقط بالخليفة السياسي للرئيس السابق "بوتين" الذي يحظى بنسب تأييد داخلي، تجعل القادة الغربيين- مثل "بوش" و"ساركوزي"- يتوارون في الظل خجلاً، وإنما يتعلق بأمور أخرى تستند اليها قوة الدولة الروسية من أهمها كميات البترول والغاز الطبيعي الهائلة التي تنتجها، أو تحتفظ بها في أراضيها، والتي تمنحها مع وصول سعر برميل البترول إلى 120 دولاراً، قوة تفاوضية هائلة في تعاملاتها مع الدول التي تعتمد عليها اعتماداً مباشراً في استيراد النفط مثل أوكرانيا، وألمانيا، والمجر، كما توفر لها قوة رافعة كبيرة مستمدة من التدفقات المالية الناشئة عن أرباح بيع البترول. ولا يقتصر الأمر على ذلك حيث نجد روسيا تتمتع في الوقت الراهن بنفوذ ظاهر، ولها كلمة مسموعة في شتى الموضوعات المتعلقة بالسياسة الخارجية، من كوريا الشمالية شرقاً إلى البلقان غرباً. وإذا ما نظرنا إلى الوضع بمجمله، فسندرك أن روسيا قد عادت مرة أخرى إلى الساحة. طالما أن الأمر كذلك، فما الذي يجعلنا متشائمين للغاية بشأن مستقبل روسيا؟ الإجابة تكمن في التوقعات طويلة الأمد المتعلقة بهذا المستقبل. فمع مرور شهور عام 2008، قد يبدو لنا حسب الظاهر، أن وضع روسيا جيد نسبياً على الرغم من كافة المعطيات المبينة أعلاه، لكن الحقيقة هي أن عادتنا الصحفية الخاصة بالتركيز على آخر الأنباء القادمة من موسكو أو القوقاز، تحول بيننا وبين تبين جوانب القصور البنيوي الخطيرة المتعلقة بوضع هذه الدولة العظمى.



وهناك جانبا قصور يناديان أي دارس من دارسي الاتجاهات الجيوبوليتيكية. أولهما، كان كاتب هذه السطور أول من ذكره في مقالات دبجها خلال السنوات القليلة الماضية حول التدهور الديموغرافي المذهل في المجتمع الروسي؛ فهناك عدد قليل من النقاد في خارج روسيا يدرك أنها سكانياً تضمر شهراً بعد شهر وعاماً بعد عام.



كان عالم السكان الكبير، المتخصص في دراسات الاتحاد السوفييتي السابق، والأستاذ بجامعة "جورج تاون" "موراي فيشباخ" أول من نبه لتلك الحقيقة منذ 30 عاماً خلت، لكن كثيرين منا ظلوا غير مدركين لها إلى حد كبير، حتى الشهر الماضي، عندما حاول "نيكولاس إيبرستادت" الباحث بمعهد"أميركان انتربرايز" و"هانز جروث" عضو مجلس الإدارة المنتدب لشركة فايزر- سويسرا، توصيل هذه الحقيقة لأذهاننا من خلال مقال نُشر بصحيفة "وول ستريت جورنال" تحت عنوان "روسيا تحتضر". السبب،الذي حدده الاثنان لذلك الاحتضار يدعو للفزع في الحقيقة ويتمثل في الارتفاع المخيف في نسب الإصابة بأمراض القلب والجهاز الدوري، وكذلك الإصابات الناتجة عن أسباب أخرى، والارتفاع الكبير بالتالي في نسبة الوفيات ليس بين كبار السن، وإنما في أوساط الرجال ممن هم في سن العمل،مما جعل عدد الروس حالياً يقل بعدة ملايين عن عددهم أيام الاتحاد السوفييتي.



وإذا ما ابتليت دولة ما بتناقص عدد سكانها القادرين على العمل، فإنها تُبتلى أيضاً ببقاء مساحات أكبر مما ينبغي من أراضيها بدون سكان. الحقيقة الواضحة أن أحوال السكان الروس المتناقصين بشكل تدريجي، ستكون أفضل بكثير لو كانت مساحة الأرض التي يعيشون عليها تعادل فقط خُمس مساحة الأراضي التي تسيطر عليها بلادهم في الوقت الراهن.



وإذا ما نظرنا إلى الوضع الحالي في روسيا على ضوء هذين العاملين فائقي الأهمية، واللذين سيؤثران من دون شك على قدرة روسيا التنافسية في المدى الطويل، فإن المنافع الحالية المتدفقة جراء ارتفاع أسعار البترول والغاز ستبدو لنا أقل تأثيراً. ليس هناك من شك في أن تلك المنافع قد أعطت "بوتين" وستعطي "ميدفيديف" فرصة هائلة للإنفاق على إعادة تأهيل البنية التحتية الروسية، وعلى التعليم، وعلى تطوير القوات المسلحة، بمعدلات لم يكن ممكناً تصورها لولا عوائد البترول.



لكن من الواضح أن أي مجتمع يعتمد في بقائه على سلعة واحدة، لا بد وأن يصبح تلقائياً منكشفا للغاية، إما بسبب تناقص أهمية هذه السلعة الواحدة، وقيمتها في السوق العالمية، أو ظهور عقبات أو ظروف تحول دون تدفقها الحر إلى أسواق الاستهلاك، أو نضوبها. صحيح أن إنتاج البترول في روسيا لم يصل بعد إلى طاقته القصوى، كما يقول البعض أو ربما يكون قد وصل إليها كما يقول البعض الآخر، إلا أن جميع التقارير المتعلقة بهذا الموضوع، تشير إلى أن مواقع حقول البترول الروسية والمناخ السائد في المناطق التي توجد بها تلك المواقع، وطبوغرافيتها، تجعل من استخراج البترول بحاجة إلى استثمارات هائلة.



من الخطأ المراهنة على مورد واحد للدخل، وإلا فليقل لي أحدكم، إذا ما خصمنا دخل البترول والغاز من إجمالي المداخيل في روسيا بوتين فما الذي كان سيتبقى لها؟ ومهما تبقى من موارد اقتصادية لدى بوتين وميدفيديف، فالمؤكد أنهما يواجهان طائفة من المشكلات الإثنية، والخارجية، والجيوبوليتيكية التي تشكل عقبات كأداء أمامهما، وليس من المنتظر أن تختفي من طريقيهما خلال فترة وجيزة.



ومستقبل روسيا الديموغرافي يبدو أكثر سوءاً من ذلك، إذا ما قسنا العامل المتعلق بمعدل خصوبة مواطنيها فقط مقارنة بمعدل خصوبة الإثنيات العديدة التي تعيش داخل حدودها. ولا يتوقف الأمر على ذلك حيث أننا لو نظرنا إلى الجانب الآخر من حدودها، فسنجد أن عدداً قليلاً من بين جيران روسيا (دول البلطيق وبولندا وأوكرانيا وجورجيا) يحبون، أو يثقون في ميول روسيا شبه الإمبريالية، بل ويمكن القول إنهم جميعاً يشعرون بالراحة لتخلصهم من قبضتها وسيبذلون ما في وسعهم لمقاومة أي ضغوط تدفعهم للامتثال للقواعد التي يمليها عليهم الكريملن.



في النهاية لا ننسى أن هناك جارا واحدا، لا بد وأن يكون مرعباً لأي روسي يفكر في مستقبل بلاده على المدى الطويل، وهو الصين. فكل الصفقات التجارية، واتفاقيات نقل التقنية، والجهود الدبلوماسية التي تقوم بها روسيا من أجل إحباط جهود الأميركيين بخصوص برنامج إيران النووي، وغير ذلك من المشكلات وبخصوص العديد من القضايا الشرق أوسطية، والآسيوية لا يمكن أن تجعلنا نغفل عن حقيقة أن الصين تتحول في الوقت الراهن إلى قوة مهيمنة في ذلك الجزء النائي من العالم، وأن الدور الذي قامت به روسيا كقوة هيمنة في ذلك الجزء والذي استمر قرنا أو قرنين، في طريقه الآن للانتهاء.



باختصار، إذا ما حول المرء عينيه بعيداً عن تفاصيل، وأبهة العروض، التي جرت في الميدان الأحمر، وحفلات التنصيب التي جرت في أروقة الكريملن، فقد يجد نفسه أمام السؤال: كيف سيكون الحال في روسيا خلال الخمسة عشر أو الثلاثين أو حتى الخمسين عاماً القادمة؟ بالنسبة لي يمكنني القول إن الاتجاهات الديموغرافية والاقتصادية والجيوبوليتيكية، تجعلني أشعر بالتشاؤم حيال المستقبل الروسي.



تلك هي التحديات الكبرى التي تواجه ميدفيديف وبوتين، وأنني لأتعجب ما الذي يجعلهما يشغلان بالهما بالتدخل في أبخازيا! ولا يخامرني شك في أن الرجلين معاً على قدر من البراعة، يسمح لهما بالتعرف على تلك المشكلات. وبينما يحاول الرجلان تغيير اتجاه الريح وجعله موائماً للسفن الروسية، فإنه قد يكون من الحكمة أن يتذكرا تلك الجملة الشهيرة التي كتبها يوماً المحلل السياسي البارع "كارل ماركس" وهي:"الرجال هم الذين يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يصنعونه كما يحبون، وهو ما يرجع ببساطة أنهم يصنعونه تحت ظروف لم يختاروها، وإنما تحت ظروف، مكتشفة، ومستمدة، ومنقولة من الماضي".



بول كنيدي



أستاذ التاريخ بجامعة "يل"