حقيقة الديمقراطية وأسسها
القس لوسيان جميل
المقدمة: المقال الذي اقدمه لقرائي الأعزاء كنت قد وعدتهم به في المقال السابق بعنوان: بين خدمة الديمقراطية واستخدامها. في ذلك المقال كنت قد تكلمت عن الديمقراطية كإحدى الثوابت الأنثروبولوجية التي تنمو وتترعرع مع الانسان، اذا عرف ان يخدمها جيدا ويربيها في نفسه، لكي تأتي أكلها: كرامة وعزة وحرية وسيادة شخصية واجتماعية. غير اننا من الآن نقول ان الديمقراطية لا تنفصل عن المنظومة الاجتماعية برمتها.
الديمقراطية كنقيض للثيوقراطية: غير ان مصطلح الديمقراطية (حكم الشعب)، كما جاء في اعقاب الثورة الفرنسية، كان نقيضا للثيوقراطية التي تعني حكم الله، وحكم رجال الدين طبعا، في حين ان مفهوم الديمقراطية، بمعناه الانثروبولوجي الواسع العميق، يتجاوز كثيرا المفهوم الذي ساد العالم الغربي، بعد الثورة الفرنسية، وكم بالأحرى يتجاوز معنى التعددية الحزبية الذي يراد له ان يكون رديفا لمفهوم الديمقراطية، لأمر في نفس يعقوب، لاسيما ونحن نعرف ان التعددية الحزبية ليست سوى صيغة من صيغ الديمقراطية، في احسن احوالها، اما في احوالها الأخرى، فلا يمكن للتعددية الحزبية سوى ان تكون كاريكاتيرا للديمقراطية، ولاسيما التعددية المستوردة، او التعددية العدوانية المفروضة بالقوة العسكرية على الشعوب.
المعنى الواسع للديمقراطية: غير ان الثورة الفرنسية، لم تكن اول ثورة على الدولة الدينية، كما انها لم تكن الأخيرة، لأن هذه الثورة قد سبقتها ثورات دينية أخرى، ومنها الثورة على الدولة الدينية اليهودية، وعلى رموزها، وكبديل لها. اما ثورة البروتستانت فقد كانت ثورة الطبقة البرجوازية ضد الاقطاع، على الرغم من انها كانت ثورة على مستوى البنى الفوقية الدينية، وكانت بذلك ثورة ممهدة للثورة الفرنسية التي قلعت الاقطاع وركائزه من جذوره.
حقبة الستينيات: ثم حلت حقبة الستينيات، هذه الحقبة الثورية التي اعتبرها البعض ثمرة للجدل الثوري الذي ابتدأ مع الثورة في روسيا وفي البلدان الأخرى. غير اني، وان كنت ارى كثيرا من الصحة في هذا الافتراض، الى اني، مع ذلك، أميل الى النظر الى حقبة الستينيات، بكونها حقبة مستقلة تشكل نقيضا ديمقراطيا وجدليا للرأسمالية العالمية وقيمها وأخلاقها، ولاسيما الأخلاق التي لا تبالي بالإنسان، سواء كانت الرأسمالية اللبرالية ام رأسمالية الدولة.
ويقينا ان ثورة الستينيات من القرن العشرين، لم تكن ثورة على صعيد البنى التحتية حسب، لكنها كانت ثورة على صعيد البنى الفوقية ايضا، بكافة ابعادها، ومنها بنى السياسة والقانون والأخلاق، وأيضا بنى الايمان واللاهوت والطقوس الدينية. وهكذا كانت تلك الثورة، ثورة ديمقراطية متكاملة. من جهة ثانية نعرف ان حقبة الستينيات كانت بكل تأكيد حقبة عالمية، حيث كان الصراع الجدلي يدور فيها بين الماكينة وبين الانسان، اي بين العمال وبين ارباب العمل، في الغرب الصناعي كله، مع كل ما كان ينتج عن ذلك من صراع على مستوى البنى الفوقية، الأمر الذي ظهر بجلاء على مستويات كثيرة، ولاسيما على مستوى المفكرين، وعلى مستوى التنظيمات الشبابية، والحركات النقابية العمالية المختلفة.
النظام العالمي الجديد: اما النظام العالمي الجديد فلم يكن ثورة، بأي معنى من معاني الكلمة، بل كان مجرد تغيير وردة رجعية وعودة الى التعسف الرأسمالي وهيمنته ووحشيته المتحللة من كل الضوابط. غير ان النظام العالمي الجديد الذي كان حنينا الى الماضي التعسفي، لقي مؤيدين كثيرين في الغرب، حتى من بين الشباب، وذلك لأن هذا النظام، ومع غموضه المتعمد، اشعر الشعوب الغربية بأنها ستكون المستفيدة الأولى من هذا النظام، وأن هذا النظام سيضعها، جنبا الى جنب مع القوة الأمريكية، على رأس العالم كله، ولاسيما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي اثر تأثيرا كبيرا على العالم كله، وحتى على الكنيسة، ولاسيما الكنيسة الكاثوليكية، التي تخلت عن ديمقراطية المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني وتوجهه الانساني وصارت من جديد تفرض الايمان بقوة السلطة وعنفها، على المنتسبين اليها، في مجالات كثيرة. علما بأن كنائس كثيرة لم يكن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني قد وصل اليها اصلا، ولاسيما كنائسنا الشرقية الميالة الى التعسف بطبيعة تركيبتها السلطوية الطائفية، ولذلك تحللت هذه الكنائس بسرعة فائقة من القليل الذي كان عندها من مطالب المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وعادت الى اسمالها التراثية القديمة البالية، القومية منها وغير القومية، مما يتعلق بلاهوت غربي روماني وبطقوسه وتعبده الروحي، الذي القاه الغرب نفسه في سلة المهملات، منذ زمن بعيد.
الحاجة الى نظام عالمي آخر: وهكذا اصبحنا الآن بحاجة ماسة الى نظام عالمي جديد آخر، لكي يبدأ العالم عملية الخروج المدروس والجدلي من نظام العولمة الذي عاث في الارض فسادا. وهذا يعني ان يقوم العالم، ومن ضمنه الكنائس، وربما جماعات الله الأخرى، بصياغة ونسج ديمقراطيته من جديد، بعد فشل النظام الجديد في تحقيق اماني الشعوب، المادية والأخلاقية. ولكن هنا تبقى لي كلمة اقولها في هذه الفقرة، وهي ان الديمقراطية لا تتأثر بالعوامل الاقتصادية ولا بالنضال من اجل الحصول على هذه الديمقراطية حسب، لكنها تتأثر بعامل آخر من عوامل الديمقراطية، ألا وهو الانسان الذي يصنع الديمقراطية، حتى ليمكننا ان نقول: قل لي من انت اقول لك اي حكم سوف تحقق، لأن الاناء ينضح بما فيه.
مصطلح الديمقراطية في ايامنا: غير انه لا يشترط في الثورة ان تكون حقبة ثورية عالمية، ولا ان تكون قفزة نوعية مباغتة، لكي تكون ثورة حقيقية، ولكن يكفيها ان تكون ثورة جدلية، تسعى الى تجاوز مرحلة بائدة ولى زمانها، على مستوى البنى التحتية والبنى العليا، باتجاه سيادة الشعب وانتقاله الى مرحلة جديدة من الديمقراطية بمعناها الانساني الذي ذكرناه، وباتجاه كرامة وحرية الانسان، وليس باتجاه استعباد الانسان باسم اغلبية مهووسة، كما نلاحظ ذلك في بلداننا العربية والعراق في مقدمتها. وهكذا يمكننا ان نسمي ثورة جدلية، اي انتقال من حالة الاقطاع الى حالة جديدة، ولاسيما في بلد يشكل ما تنتجه الارض الزراعية فيه، الدخل الأساسي للمواطن. كما يمكننا ان نسمي اي نضال للتخلص من الهيمنة الاستعمارية او من الاحتلال، او من الهيمنة السياسية الامبريالية والاقتصادية نضالا ديمقراطيا، فيما يمكن ان تتحقق الثورة الديمقراطية بالخلاص من حكم يستند الى أيديولوجيات شمولية Totalitairesومعتقدات غيبية، سواء كانت هذه الأيديولوجيات دينية ام اجتماعية، او ان يتحقق شيء من الديمقراطية من خلال تحقيق الحريات العامة في البلد بشكل جذري، دون وصايا من دين او من مذهب، وهيمنة جماعة على أخرى، بأية حجة كانت. هنا لا اقصد احترام خصوصيات الأقليات الدينية حسب، لكني اقصد ايضا احترام حريات ابناء الدين الواحد في كل ما يخص خياراتهم الشخصية التي لا تضر الآخرين، لكي تعني الديمقراطية التمتع بالحريات الشخصية ايضا، شرط ان لا تتعارض هذه الحريات مع حرية الآخرين. فهل نرى يا ترى شيئا من الديمقراطية المذكورة عند اي مكون من المكونات التي ساهمت في احتلال العراق، ام ان هذه المكونات جمعت كل تعسف اسيادها في كافة المجالات؟
الديمقراطية والنظام العالمي الجديد: اما في ايامنا، وبعد ان انكشفت للعالم كارثة الاحتلال، صار اي نضال ضد هيمنة وتعسف النظام العالمي الجديد نضالا ديمقراطيا، سواء كان هذا النضال سلميا ام غير سلمي، وسواء كان هذا النضال ضد طغاة العالم وديناصوراته مباشرة، ام كان ضد اعوان هؤلاء الطغاة وشركائهم، او بالأحرى ضد مرتزقتهم وسراكيلهم، ومن يعمل بالنيابة عنهم. لذلك نتوقع ان يتخلى العالم عن النظام العالمي الجديد ويسعى الى نظام عالمي اكثر انسانية، والى نظام كنسي يكون مواصلة وتحديثا للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، المعقود في الستينيات من القرن العشرين، من اجل مواكبة حركة العالم الديمقراطية.
الشياطين لا يحاربون أنفسهم: اما ان تأتي امريكا وتقول انها تحارب التعسف في العراق وتقدم الديمقراطية للعراقيين، كما ادعت، فنقول لها ان الشيطان لا يهدم كوخه، ولا يمكن في يوم من الأيام ان يكون ديمقراطيا، لا هو ولا اعوانه الصغار، لأن الديمقراطية الحقيقية لا تسمح باستباحة عالم الضعفاء، وقلب نظامهم حكمهم بالقوة، الى نظام لا يستفيد منه غير الشياطين الكبار والصغار.
ديمقراطية الدبابات: اما الذين جاءوا على ظهر الدبابات الأمريكية، او جاءوا وراءها، وأعطوا ثلاثة ارباع ثروات العراق للمحتل لقاء كرسي تافه وعدهم به، ولقاء سماحه لهم بنهب الباقي من ثروات العراق، فعليهم ان يعلموا انهم لم يعطوا ثمن الاحتلال من مالهم وخيراتهم الخاصة، لكنهم اعطوا هذا الثمن من اموال الشعب، بعد ان استولوا عليها بالقوة المسلحة. وهذا امر لا نجد له مثيلا إلا في انظمة التعسف، وليس في اي نظام يدعي انه يريد ان يؤسس حكما ديمقراطيا.
أعداء الديمقراطية: توخيا للاختصار يقودنا تحليلنا الانثروبولوجي الى عدو واحد للديمقراطية يشمل كل الأعداء الآخرين الذين لا يتسع المجال للكلام عنهم بالتفصيل. اما هذا العدو فيكمن في ظاهرة ممانعة ومقاومة المادة للتغيير، اللهم إلا اذا كان ذلك من خلال علة (سبب) مناسب وكاف. وهكذا نقع هنا في المبدأ الفلسفي والأنثروبولوجي الذي يقول ان لكل حركة محرك، وأن لكل تغيير علة مناسبة تحدثه. علمـا بأن هذا المبدأ لا يشمل الأمور المادية فقط، ولكنه يشمل الأمور الانسانية ايضا، لا بل يشمل الأمور الروحية ايضا. اما بعد هذا فنستطيع ان نضع قانونا يحدد العلاقة بين المادة والديمقراطية، حيث سيقول لنا هذا القانون انه: كلما عظمت مقاومة المادة كلما ضاق مجال الحصول على الديمقراطية. كما صار المجهود المطلوب لتحقيق الديمقراطية اكبر، والعكس صحيح طبعا. لذلك لا نستغرب ان ينشأ صراع بين المادة المقاومة للتغيير وبين من يحاول ان يخترق قوة هذه المادة، سواء كانت مادة فيزيائية ام مادة اجتماعية ام مادة انثروبولوجية. علما بأن من يستطيع اختراق قوة الممانعة التي ذكرناها، يصبح سيد هذه المادة، سواء كان عدوا مستلبا، ام كان مالكا للمادة يخضعها لكي تصبح هذه المادة في خدمة انسانيته. من هنا لا نستغرب ان يشبه المفكرون مقاومة المادة ومقاومة الطبقات الاستغلالية الحاكمة بجاذبية الارض التي تحتاج قوة هائلة لتجاوزها واختراقها. نضيف الى هذا كله حقيقة ان الانسان ارادة ومشاعر ونوازع وليس عقلا، إلا بقدر ضئيل، مما يعرقل قدرة الانسان على السيادة العقلانية المنظِمة ويبقيه ضحية الصراعات، حتى تقنع الأحداث والآلام انسانها على التأمل العقلي والعمل على ايجاد حلول متوازنة تمكنه من التعالي فوق مشكلة الارادات المتعددة.
واقع الديمقراطية الحقيقي: وهنا، وتوضيحا لبعض الأمور، نشير الى حقيقة انثروبولوجية تقول بأن المادة، اية مادة كانت، حتى لو كانت هذه المادة مادة انثروبولوجية، بكل اشكالها، انما تشكل البنية التحتية للديمقراطية، في حين تنتمي الديمقراطية نفسها الى البنى العليا. وبما ان البنى التحتية والبنى الفوقية تشكل منظومة واحدة، فان هذا يعني وجود علاقة جدلية وعلاقة نسبة بين البنى التحتية وبين البنى الفوقية، وهذه العلاقة هي نفسها التي نجدها في كل الفضائل وفي كل الثوابت، وفي كل الأمور الروحية الأنثروبولوجية. فكما هناك علاقة بين المادة والروح، حيث يزداد الروح حيثما نقصت المادة، والعكس صحيح، كما يقول الاب اللاهوتي والفيلسوف وعالم الاحاثة الكبير تيار ده شاردان، فان هذه العلاقة نفسها نجدها في الديمقراطية وفي الثوابت الأخرى المذكورة.
ثوابت الدول والديمقراطية: بما اننا تكلمنا عن المادة كقوة لا تتحرك ولا تتغير ولا تقهر ولا يعلى عليها، إلا من خلال قوة أخرى يمكنها ان تتكفل بهذه المهمة، فلن نكون مخطئين اذا قلنا ان سيادة العقل، كقوة منسقة ومنظمة، وبالتالي سيادة الديمقراطية، انما تتعلق بقوة وضعف القوة المادية اولا، كما تتعلق بقوة الانسان الذي يستطيع ان يوازن بين المادة والروح. ولكن، مهما كان من الأمر، علينا ان نعرف ان القوة المادية تبقى هي السائدة والسيدة، في اغلب الأحيان، وأن الانسان بشكل عام يبقى عاجزا عن المواكبة وعن السيطرة على المادة التي ينتجها، مدة من الزمن تطول او تقصر، حسب المادة التي يواجهها، الأمر الذي يؤثر على الديمقراطية كثيرا، في اي مكان من العالم.
نكتفي بعينتين فقط: وبما ان موضوع هذه الفقرة واسع جدا، نضطر الى الاكتفاء بعينتين فقط: الواحدة نأخذها من عالم الأقوياء وعلى رأسه أمريكا الباغية، والأخرى نأخذها من عالم الضعفاء، وتحديدا من العراق، كنموذج لدولة لم تستطع ان تحافظ على سيادتها وعلى نظام ديمقراطيتها. اما العينة المادية الأولى لهذا الثابت، والتي لا تسمح لأحد المساس بها، فهي الماكينة، او بالأحرى هي غابة من الماكينات التي تغطي كل مساحة أمريكا والدول الصناعية الأخرى، مع كل ما يتعلق بهذه الماكينات من مستلزمات قوة وصمود هذا الثابت الذي اسميناه الماكينة. أما في العراق، فلا يوجد اصلا مثل هذا الثابت الذي اسميناه الماكينة، لكن بالتأكيد توجد للعراق، ولغير العراق، ثوابت أخرى، علينا احترامها والحرص عليها، وان كانت اكثر عرضة للاستباحة وللتغير.
تساؤل مهم: ويكمن تساؤلنا على الوجه التالي ونقول: ترى من يحكم في امريكا وفي الدول الصناعية منذ زمن طويل: أهي الماكينة ام الشعب؟ ويأتي الجواب بلا تردد، ان الماكينة هي التي تتحكم ببنى هذه الدول التحتية والفوقية، وعلى حسب قوة اية دولة منها. فهي تتحكم باقتصاد هذه الدول، وبسياستها الخارجية والداخلية وبأخلاقها وعلاقاتها وبديمقراطيتها، لكي تبقي للشعب حاشية صغيرة من امكانية التغيير والسيادة الديمقراطية، كما تبقي له نوعا من الحرية الفردية التي تشعر الناس بأنهم احرار، جنبا الى جنب مع الرفاهية التي تقدمها هذه الدول لشعوبها، حتى وان كانت رفاهية مبنية على جماجم الشعوب الضعيفة. ومع كل هذا يمكننا ان نقول باختصار، ان هناك ثغرات في جدار الماكينة يمكن ان تخترقه جهات عديدة، صديقة كانت ام عدوة، لكي تضع شيئا من العبث او الديمقراطية في المجتمع الوطني وفي المجتمع الدولي، بعد ان تذوق مرارة توحش الماكينة.
مادة الدول الضعيفة وديمقراطيتها: من بداية هذه الفقرة لابد ان نعترف بأن ما تملكه الدول الضعيفة من ثوابت لا يمكن زعزعتها، لا تضاهي ثابت الماكينة ابدا. وبما اننا حددنا كلامنا بالعراق، نرى ان اقوى ثابت مؤثر في العراق هو نفطه، فضلا عن خيراته الأخرى. ولكن من الآن لنعترف بأن هذا الثابت الذي يمكن ان يبني العراق عليه سيادته وديمقراطيته، هو اضعف من ثابت الماكينة. ولذلك كان العراق دائما عرضة للاختراق والابتزاز. نعم كان هذا الثابت مع التأميم قد اخذ فعلا نوعا من طابع الثبات، غير انه الان صار عرضة للاستباحة، ليس فقط عن طريق الدبابات ولكن ن طريق اهل البلد أنفسهم. ولذلك اصبح بناء الديمقراطية على هذا الثابت امرا بعيد المنال، وان كان غير مستحيل.
عبارات ختامية: في مقال لي عنوانه: نفطك ثم نفطك، كنت قد قلت بأن على المجاهدين والمناضلين، ان يبنوا اسوارهم حول نفطهم قبل ان يبني المحتل اسواره الخاصة حوله. ومن هنا نفهم ان ديمقراطية العراق لا يمكن ان تقوم إلا بعد ان ينتزع المجاهدون والمناضلون نفطهم وسائر خيراتهم الوطنية من المحتلين والعملاء، بكل الوسائل المتاحة. وإذا كنا نريد الديمقراطية حقا، علينا ان نعرف ان اية ديمقراطية لن تتحقق ما لم يضع الشعب لنفسه ثوابت لا يختلف عليها، ويبني كل سياسته ونضاله عليها، لكي تبقى التفاصيل من مهمة السياسيين، وهكذا تكون هذه الثوابت المنارة التي تنير طريق الوحدة والحرية والديمقراطية، وسبيلا للعمل الوطني الجاد، لكل الشعب.
تلكيف – محافظة نينوى - العراق
19- 7 - 2012
Fr_luciendjamil@yahoo.com
الديمقراطية بين العالمية والعولمة
شبكة البصرة
القس لوسيان جميل
http://www.albasrah.net/pages/mod.php?mod=art&lapage=../ar_articles_2012/0812/jamil_040812.htm
المقدمة : اعزائي القراء! مما لا شك فيه ان لفظة العالمية تعني نسبة صفة او حالة او عمل الى عالم الانسان. فيقال مثلا، فكر عالمي وحضارة عالمية وتنظيم عالمي، كما يقال حرب عالمية وسلم عالمي الخ... غير اننا نسمع الى جانب مصطلح العالمي والعالمية، مصطلحا آخر هو مصطلح الدُولي والدولية، وهو مصطلح قريب من مصطلح العالمي والعالمية، لكنه لا يشمل كل حضارة العالم، وانما يخص التنظيم السياسي الدولي فقط.
المفهوم اللفظي للعالمية: في اللغة الفرنسية القريبة في هذا المجال من اللغات الاوربية الأخرى، نجد مفردة mondial وتعني ما له صلة بالعالم Le monde، المنسوخة من مفردة ال Mundo اللاتينية. اما مفردة mondialisation فهي اسم يدل على اعطاء بعد او اهمية عالمية لأية حالة او حدث، كما تعني حالة من يكتسب او اكتسب اهمية او شهرة عالمية، كما جاء ذلك في احد القواميس. فما هي حقيقة العالمية يا ترى؟
حقيقة العالمية: على الرغم من ان العالمية مفهوم جامع لأبعاد كثيرة متماثلة تتبع قواعد مشتركة واحدة، الا اننا سنحصر كلامنا بالمفهوم الحضاري للعالمية، كي لا نشتت القارئ بأمور كثيرة. وفي الحقيقة سرني جدا ان اجد على صفحة" كتاب عراقيون من اجل الحرية "، عنوانا يعود للأخ احمد ابو رتيمة يقول بأن الحياة ديناميكا وليست استاتيكا. غير اني اود ان اقول للقارئ الكريم بأن ما كتبه الأخ المذكور قد تحول عندي، منذ زمن بعيد أساسا لمنهجية لاهوتية مكتوبة تؤمن بصيرورة وسيرورة العالم التدريجية من الفها الى يائها، الأمر الذي يعني بأن العالم ليس ديناميكيا متحركا حسب، لكنه عالم يسعى الى هدف" ذاتي " مرسوم في طبيعته، لا يقبل العشوائيـة، سواء كان هذا العالـم هو الكون الكبير Macro cosmos، او كان هو الكون الصغير micro cosmos، كناية عن عالم الانسان، او عن الانسان نفسه، في حين اعتقد ان العالم البنيوي المجهري micro structure لا يختلف كثيرا في ديناميكيته عن العالمين المذكورين. غير اننا سوف نحصر كلامنا، في هذا المقال، بعالمنا الحضاري وبطبيعته وببعض قواعد حركته، من اجل مقارنتها، في مقال قادم، بواقع آخر يسمى العولمة، وباللغات الاوربية يسمى globalisation.
طبيعة عالمنا الانساني: في اعلاه شددنا على الطبيعة المتحركة لعالمنا، حتى يمكننا ان نقول مع الفيلسوف اليوناني القديم هيروقليطس، بأن الانسان لا يسبح في عين ماء النهر مرتين، مع ان النهر يبقى هو هو لا يتغير. اما التاريخ فيقدم لنا عالما ثابتا في جوهره، متعددا في الصور التي يظهر بها، هذه الصور التي نجدها متماثلة هي الأخرى، بسبب ارتباطها ببنيتها الوجودية الواحدة. فمادة التاريخ، في الحقيقة واحدة وثابتة، وهي لا تفنى ولا تستحدث، لكن صورها متنوعة ومتعددة.
المادة في مختلف صورها: وهنا ودون ان ندخل في تفاصيل طبيعة الكون او العالم البنيوية structurale، متعددة الأبعاد، Multidimensionnelle، فضلا عن طبيعته الجدلية المتحركة Dialectique فإننا سنؤكد بشكل خاص على حركة المادة في مختلف صورها المتعاقبة، كما نرى ذلك في فلسفة ارسطو ايضا، كي ما نستطيع ان نتتبع خطوات هذه المادة وهي تتحرك بحسب القواعد المذكورة متجهة صوب اكتمالها غير المحدد وغير المعروف الى يومنا هذا نسبيا. ولكن مما بدأنا نعرفه، هو ان العالم يسير نحو عالميته، اي نحو وحدته العالمية، ربما مع بقاء بعض الخصوصيات لكل مرحلة حضارية من المراحل. لذلك يكون من المهم ان نؤكد على حقيقة ان مسيرة العالم ليست مسيرة عشوائية، كما يظن البعض، ولا هي مسيرة تنهي التاريخ في نقطة معينة، دينية كانت ام حضارية.
قاعدة بنيوية فرعية: ولكن، وبعد ان حددنا بإيجاز شديد طبيعة المسيرة الحضارية العالمية سنسلط انظارنا بشكل خاص على حالة من حالات البنيوية التي تتكلم عن البنى التحتية Infra structures وعن البنى الفوقية Supra structures. علما بأن هذه الظاهرة ظاهرة انثروبولوجية لا نجدها الا عند الانسان، ربما مع وجود ما يماثلها، وليس شبيها لها، في عالم المادة الخام وكذلك في عالم الأحياء، قبل مرحلة الانسنة، الأمر الذي يشير من الآن الى اننا امام عالم لم تظهر" طبيعة مكنوناته " الا على مراحل متباعدة، سواء على شكل خطوات وقفزات متتالية، او حسب سيرورة مستمرة لا تنقطع ابدا، بحسب قواعد لسنا بصددها الآن، مما يفهمنا ايضا ان العالمية تعني فيمـا تعنيه بروز مكنونات العالم المادي وتحققهـا التدريجي في اي مكان، بعد اكتمال شروط هذا التحقق، ومنها قدرة هذه الامكانات على العبور من حالة امكانات كامنة En puissance الى حالة قدرات متحققة بالفعل. En acte، بحسب تعبير الفلسفة الارسطية. اما الأب تيار ده شاردن Le père Teilhard de Chardin فيضع قاعدة عامة تبين تحقق امكانيات العالم بقوله، بما معناه: حيث يزداد الروح تنقص المادة، والعكس ايضا هو صحيح، مما يعني ان مسيرة الروح مسيرة تصاعدية وشبه حتمية نحو الروح، حتى وان اصابت هذه المسيرة انتكاسة احيانا، وقدرت القوة المادية ان تعطل مؤقتا هذه المسيرة، كما يحدث في العالم في هذه الأيام.
البنى التحتية والبنى الفوقية: غير ان ما يمكن ان يحدث في حالة تغيير البنى التحتية هو ان البنى الفوقية لا تتغير دائما مع تغيير البنى التحتية بشكل حتمي. اما ما يفسر ظاهرة عدم المواكبة هذه، على مستوى البنى الفوقية، فيعود الى طبيعة البنى الفوقية نفسها والى قدراتها الخاصة والى شفافيتها، والى نقائها ودرجة تخلصها من شوائب مادتها وترسباتها. وهكذا اذا افترضنا ان قانون الأب تيار ده شاردان لم يستطع ان يقول لنا ما هو محرك الروح الذي يدفعه الى التصاعد على حساب المادة، فان قانون الجدل قد يرينا اسباب حركة العالم، بصورة اوضح. ولكن ربما هناك تفسيرات اخرى انثروبولوجية تستطيع ان تكشف لنا بشكل أوضح سر تحرك الانسان نحو العالمية، كما سنرى ادناه.
الحاجة الأنثروبولوجية مفتاح التفسير: اذا كانت الحاجة ام الاختراع، كما يقول المثل العربي، فان الحاجة الأنثروبولوجيـة، كما يقول بها العالم النفسي ماسلو، او يقول بها غيره، قد تكون فعلا المحرك الأساسي لانبثاق الروح ولتحرك الانسان نحو اهدافه الانسانية التي يحتاجها. مع اننا نعرف ان الانسان لا يحصل على حاجته بشكل اجباري محدد déterminé لكنه يحصل على هذه الحاجة وفق قوانين متعددة تعود الى الانسان نفسه، كما تعود الى طبيعة الحاجة المطلوبة، وفي اغلب الأحيان تعود الى قانون، لا نسميه قانون الصدفة، وان كان فيه كثير من الصدفة، لكننا نسميه قانون الاحتمالات. Loi de probabilités. اما قوانين تحرك المادة فلها تنوعها وخصوصيتها التي لا نستطيع الكلام عنها في هذا المقال. اما قانون الحرية البشرية، كقدرة انثروبولوجية، فهو الآخر يحتاج دراسة خاصة لا مجال لنا لعملها هنا.
العالمية هدف انثروبولوجي مستمر: فالإنسان يتطلع الى ان ينمو نموا طبيعيا سلسا، لكن معوقات كثيرة ممكن ان تمنع هذا النمو، فيشعر الانسان بالاستلاب والضياع، كما انه يسعى بقدر او بآخر الى ان يستعيد حريته المقيدة، كما كانت الأحذية الفولاذية تعيق نمو القدم، في الصين القديمة. غير ان الطبيعة في نهاية المطاف تصل الى غاياتها الأساسية، ولا تهمها كثيرا التضحيات الكثيرة التي يعطيها البشر على طريق التقدم الجدلي، او عن طريق ظهور الروح بشكل اقوى وأجلى.
طبيعة مسيرة الانسان نحو العالمية: لقد تكلمنا عن طبيعة الروح الصاعدة وعن قوانينها، كما تكلمنا عن طبيعة الجدل المبنية على نوع من الصراع بين القديم والجديد وعلى التضحيات التي يتطلبها هذا الصراع، سواء كان صراعا جدليا حقيقيا ام كان صراعا مصطنعا. ولكن يبقى ان نفهم شكل هذه المسيرة البنيوية الجدلية التي تسير بالإنسان نحو عالميته، هذه العالمية التي قد توقفها وتعيق حدوثها، مضادات دينية او طبقية او اجتماعية، كما يمكن ان توقفها تحالفات اقوياء العالم، فـي سبيل عرقلة وصول المجتمعـات الى اكتمالها الانساني بحرية.
تفاوت الشعوب في الوصول الى العالمية: نعم هناك تفاوت في وصول الشعوب الى العالمية. اما هذا التفاوت فيعود الى اسباب كثيرة، منها طبيعة الشعب نفسه وطبيعة بيئته، ومنها المعوقات والعراقيل التي يضعها الأعداء في طريق تقدمه، ومنها قربه او بعده الجغرافي والنفسي والثقافي من الشعوب المتقدمة، ومنها الفترة الزمنية التي بدأ منها هذا الشعب مسيرته الحضارية، ومنها المحفزات المادية وغيرها التي تساعد الشعوب على التقدم. مع تأكيدنا على ظاهرة أخرى، وهي ان شعبا لا يستطيع ان يتقدم، وان ببطء، فانه سيتأخر ويتلاشى حتما. اما الملاحظة الأخرى التي نرى ضرورة تقديمها فهي ان مسيرة تقدم الشعوب تأتي بخطوط شبه متوازية تقترب من بعضها كثيرا او قليلا في نهاية الشوط. هذا اذا كانت هناك نهاية منظورة لمسيرة العالم العالمية.
الخصوصية والفرادة: اما الكلام اعلاه فيعني فيما يعنيه ان العالمية تعني تقارب الشعوب الحضاري، وقد تعني التقابس، غير انها لا تعني اندماجا كليا للحضارات مع بعضها، ولا يعني الالتقاء في نقطة واحدة تشكل رأس الهرم وقمته، لأن هذا الالتقاء يعني القضاء الكلـي علـى الخصوصية، وهو أمر لا يمكن ان يحدث، لا في المستقبل القريب ولا في المستقبل البعيد. غير انه يمكن ان يعني بأن جميع الشعوب، او على الأقل المؤهلة منها، يمكنها ان تصل الى عالميتها بقوة وبكمال مرضٍ، دون ان تفقد خصوصيتها.
العالمية والحرية: من المؤكد ان المصطلح الذي نحتاجه عند كلامنا عن العالمية ليس هو مصطلح الديمقراطية، لكنه مصطلح آخر شبيه به، وهو مصطلح الحرية. اما الحرية هنا فليست الفوضى التي تسمح لكل انسان بأن يفعل ما يشاء، لكنها تعرف بأنها امكانية ان يسير الانسان في سبيل تطوره الفردي والاجتماعي من دون عائق ذاتي داخلي او عائق خارجي. ولعل مثل الحذاء الحديدي الذي كان الصينيون القدماء يلبسونه لأطفالهم في عمر معين، لكي لا تكبر ارجلهم اكثر مما يجب، حسب تصورهم، يفيدنا في فهم معنى الحرية والحرية المكبوتة والمستلبة. لذلك نقول ان كل ما يمنع تقدم الانسان الفكري والحضاري والإنساني يناقض الحرية ويستلبها، باستثناء عمل الشر الذي يدخل تحت بند آخر، حيث لا يحرر الشر اصحابه بل يكبلهم بسلاسل الشهوات غير المرتبة، ومنها شهوة استلام الحكم السياسي بأي ثمن، ولاسيما اذا جاء هذا الحكم عن طريق الميكيافلية التي تعني ان الغاية تبرر الوسيلة.
موقفنا من العالمية: فالعالمية اذن، وبناء على ما تقدم، لن تكون في يوم من الأيام، امرا يجب الحذر منه، طالما ان العالمية هي الحرية، بمعناها الايجابي العميق، وهو ال" ديمقراطية " بمعناها الموسع المماثل للحرية. غير اننا علينا ان نفهم ايضا ان الحرية والديمقراطية والدخول في العالمية، ليست مكاسب مقفلة نمتلكها، لكنها دعوة مستمرة موجهة الى كل انسان والى كل شعب ليسعى باتجاهها، بصفتها اهدافا مثالية عليا، نؤمن بها اولا ونتمناها (نرجو الحصول عليها) ونحبها، ونسير في سبيلها وباتجاهها على الرغم من الصعوبات التي تواجهنا في هذا السبيل. انها حقا الباب الضيق الذي يدعونا السيد المسيح، وتدعونا انسانيتنا، ان ندخل منه، وهي السبيل الموحش الذي يجب ان لا نخشى السير فيه، حسب مقولة الامام علي بن ابي طالب، رضي الله عنه.
رواد العالمية: ويقينا، سوف يجد كل انسان روادا سبقوه في طريق العالمية، من داخل بيئته الخاصة ام من خارجها، كما سيجد من بين هؤلاء الرواد من يملك موهبة فرز العالمية الحقيقية من اشباهها، وكذلك موهبة التمييز بين الحركات التاريخية الأصيلة وبين الحركات الغوغائية التي يراد فرضها باسم العالمية، وأحيانا باسم الله، على الناس. وهنا يهمني ان اقول لقرائي الأعزاء بأن وظيفة جميع انبيائنا الكبار كانت تكمن في معرفة مشيئة الله الحقيقية، في صميم حياتنا البشرية، وهي تتوجه نحو عالميتها، وفي اعلانها للناس صافية خالية من اي تشويه. اما رواد العالمية الآخرون، ولنسمهم بالأنبياء الصغار، مثل الفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين واللاهوتيين المبدعين والمواكبين لحركة تطور الحياة الانسانية، ومنها حياتهم الايمانية، والعلماء الكبار الذين عرفوا الناس بالحقائق العلمية التي تبعدهم عن المعتقدات الغيبية، والذين درسوا دراسة علمية حقيقة الانسان من جميع اوجهها، فإننا يمكننا عدهم منارات في خدمة اخوتهم، يساعدونهم في طريق العالمية، هذا الطريق الذي هو السبيل الوحيد لتقدم الانسان من حالة قديمة الى حالة جديدة يتمناها.
العالمية وتقارب الشعوب: في نهاية هذا المقال، والذي سيتبعه مقال آخر مكملا له لا يسعنا سوى ان نؤكد على ان العالمية، وليس العولمة، تقرب الشعوب من بعضها، دون ان يخسر اي شعب شيئا جراء مسيرته العالمية، في حين ان العولمة وكما سنرى في مقال قادم تبعد الشعوب عن بعضها، وتعادي بعضها بعضا.
القس لوسيان جميل
تلكيف – محافظة نينوى – العراق
Fr_luciendjamil@yahoo.com
يتبع...
شبكة البصرة
السبت 16 رمضان 1433 / 4 آب 2012
الديمقراطية بين العالمية والعولمة
(المقال الثاني)
شبكة البصرة
القس لوسيان جميل
عزيزي القارئ! في المقال السابق تكلمنا عن العالمية بصفتها حالة انثروبولوجية ناتجة عن ظهور الروح التدريجي في مادة الكائن البشري، هذا الروح الذي يحول الكائن البشري الى انسان، ثم ينقله من مرحلة انسانية الى اخرى اكمل منها، بحسب قواعد ذكرناها في المقال الأول. ومما لا شك فيه ان الجدلية هذه، كيفما نظرنا اليها، تبدو هي المسؤولة عن جميع الصور المكونة للمراحل الحضارية الانسانية التي عرفنا بداياتها، في حين لا زلنا لا نعرف بدقة طبيعة نهايات هذه المراحل الانسانية، بعد سقوط النظرية الماركسية التي كانت تبشر العالم بسيادة السلام الشامل، حسب زعمها، مع انتهاء عهد الطبقية وظهور العالم الجديد: حيث يعمل فيه كل بقدر طاقته ويأكل كل بقدر حاجته.
خطوط ومسارات ظهور الروح: وفي الحقيقة نحن نجهل كيفية ظهور الروح، كما نجهل حقيقة تصاعده المستمر، وذلك لأن ما هو روحي يقع في مجال الأنثروبولوجيا، الذي تختلف قواعده عن قواعد المادة المعروفة اختلافا بينا، على الرغم مما بينهما من تماثل. لذلك صرنا مضطرين الى الاكتفاء بمشاهدات واقعية تُطلقُ عليها تسمية الظاهرة التي تجب دراستها بتواضع وعلمية، حيث ترينا هذه الظاهرة، كيف يظهر الروح ظهورا تصاعديا وبنيويا وجدليا، على شكل مسارات متشعبة Ramifiés، تماثلية، تقع في بنية كبيرة واحدة، لا يمكننا الفصل بين ابعادها الكثيرة والمتشعبة الا فصلا ذهنيا، من اجل الدراسة والتحليل فقط، حيث يمكننا ترتيب هذه المسارات بحسب اسبقية تواجدها الزمني في حياة الشعوب.
1 - المسار البيولوجي والعالمية: وعليه نبدأ دراستنا بالمسار البيولوجي، الذي يبدأ بمرحلة الانسنة التي تسير بالإنسان باتجاه مفتوح، قد يمكننا ان نحدد بداياته، لكننا نجهل نهايته. غير ان ما يمكننا ان نقوله هو اننا نعرف، بحسب نظرة بنيوية، بأن هناك ترابط وتأثير متبادل، بين البنى التحتية البيولوجية للإنسان، وبين بناه العليا العقلية والروحية والحضارية، اذ ان التغيير الذي يحصل في جسد الانسان يؤثر على روحه وفكره، اي على عقله ومشاعره وحضارته، كما ان التغيير الذي يحصل في عقل الانسان ومشاعره وحضارته، يؤثر بدوره على جسده، وهكذا دواليك، حيث يسير الانسان من حالة انسانية بدائية الى حالة اكمل ثم اكمل ثم اكمل، باتجاه نهايات مفتوحة، كما ذكرنا. غير ان هذه القاعدة البنيوية التي تكلمنا عنها، قد يصيبها خلل وتشويه احيانا كثيرة، وذلك بسبب مقاومة المادة وتمردها على الروح احيانا، حيث لا يحصل الانسان على ما يريده من المادة الا بمشقة: بعرق جبينك تأكل خبزك (من سفر التكوين)، في حين ان البنى الفوقية تفشل احيانا اخرى في مواكبة التغييرات التي تحصل في مادة الفرد او المادة الاجتماعية، ويبقى الانسان، فردا او مجتمعا، متعلقا بإصرار بما كان قد تعودَ عليه من أيديولوجيات وعادات وتقاليد وسلوكية. وبديهي اننا، على هذا المستوى، لا نتكلم عن الديمقراطية، لكننا نتكلم عن الاستلاب والتحرر، كون الاستلاب والتحرر مرتبطين بسلامة الانسان فردا كان ام جماعة وبسلامة بيئته وبقوة قدرته على" تدجين و انسنة " بيئته، وهو يسير باتجاه العالمية.
2- المسار الايماني الروحي: على الرغم من ان مسار الانسان الديني الايماني، شأنه شأن المسيرة الحضارية، متواصل لا تقطيع فيه، الا اننا من اجل الدراسة، يمكننا ان نتكلم عن صيغ وصور الايمان المتعددة المتعاقبة حضاريا وجدليا، وليس زمنيا، منذ ان بدأت عملية الانسنة لدى الانسان، وبدأت الجماعات البشرية تكون لنفسها رموزا تقدسها، بسبب حاجتها الأنثروبولوجية العميقة والمرحلية الى هذه الرموز. اما خطوط مسيرة الرموز الايمانية، فقد لا تلتقي مع بعضها في يوم من الأيام، كما لا تلتقي مع المسارات الانسانية الأخرى، غير ان هذه الخطوط، وان كانت متوازية بطبيعتها الحضارية، وطبيعة الزمن الذي بدأت فيه مسيرتها، الا انها، حتى وان لم تلتقي في نقطة جامعة واحدة في يوم من الايام، سوف تميل نحو بعضها البعض تدريجيا، حتى تصير هذه المسارات على شكل حزمة متلاصقة البنى والأبعاد، الأمر الذي يجعل من الخلافات الدينية بالتدريج امرا تاريخيا عفا عليه الزمن، لأن الناس سوف يتعلمون على ان يجتمعوا حول ما يوحدهم. طبعا هنا ايضا لا نتكلم عن الديمقراطية، لكننا نتكلم عن الحرية التي تؤخذ ولا تعطى مجانا، وعن المعوقات التي يمكن ان تعرقل مسيرة الانسان العفوية نحو كمال انسانيته ونحو عالميته، محمولا على اجنحة ايمانه الديني، فضلا عن اجنحة انتماءاته الأخرى، عندما يكون هذا الايمان حيا وفعالا، ولا يكون مجرد انتماء.
3 - مسار الانتماء الاجتماعي: في الحقيقة، قد يكون مسار انتماء الانسان الاجتماعي، من أهم المسارات في حياة الانسان، وذلك لأن هذا المسار يشكل اساسا لحياة الانسان الاجتماعية، مثلما يشكل المسار البيولوجي (الحياتي) اساسا لحياة الانسان البشرية. غير ان هذا المسار الاجتماعي يبقى خفيا غير منظور، بعد مضي حقبته البدائية، وبعد ان يكون قد ادى للإنسان البدائي خدمة لا يمكن الاستغناء عنها، مثلما لا يمكن ان تستغني دار عن اسسها، حتى وان كان هذا المسار قد فقد جميع ملامحه القديمة، في الدول المتقدمة، وفقد كثيرا من ملامحه في غالبية الدول النامية.
وعموما يمكننا ان نضع العائلة والعائلة الأبوية الكبرى Patriarcale كحلقة وصل بين الحيوانات الاجتماعية المتطورة والإنسان، غير اننا مع العشيرة والقبيلة نكون امام انسان اجتماعي منظم تنظيما عقلانيا رفيع المستوى، يستطيع ان يحمي افراد قبيلته بنجاح، على كل المستويات. اما الأمة الدينية فهي تطور اجتماعي نوعي، ومع ذلك نستطيع ان نضع الأمة الدينية كحلقة وصل بين المجتمع القبلي وبين المجتمع الديمقراطي الذي يليها بعد سقوطها. ومن هنا، وبناء على طبيعة هذا المسار، يمكننا ان نؤكد بأننا هنا ايضا، لا نستطيع التكلم عن الديمقراطية، لكننا نستطيع التكلم عن نوع من الرضا والقبول بالوضع القبلي، او وضع الأمة الدينية، طالما كانت القبيلة او الأمة الدينية ترعى الانسان بالعدل والمحبة والإنصاف.
4- المسار الأممي والدولي: بدءا اود ان اقول للصديق الذي علق على مقالي السابق مقترحا تبديل مصطلح العالمية بمصطلح الأممية، بأن العالمية شيء والأممية شيء آخر تماما، حتى وان كان بين الحالتين نوع من التماثل. فالأممية في الواقع، خطوة في طريق العالمية، وليس العكس صحيحا، لأن العالمية هي اشمل وأوسع من الأممية وأعمق جذورا في جبلة الانسان، بمعنى ان العالمية تشمل حياة الانسان كلها، وليس حياته كأمة فقط، الأمر الذي يجعلنا نقول ان الوصول الى الأممية لا يعني الوصول الى العالمية بشكل حتمي. وهنا يطيب لنا ان نقول لصاحب المقترح، بأن العالمية اقل خطورة على حرية الانسان من الأممية، وذلك لسبب واضح، هو ان العالمية تسير بالإنسان في طريقه الطبيعي، اي بحسب رغبة الانسان الداخلية نفسها، في حين يخضع الانسان الذي تقوده الأممية، لعنف غير مشروع احيانا كثيرة، تسببه مصالح اقوياء العالم، هذا العنف الذي يظهر في ايامنا فيما يسمى النظام العالمي الجديد.
المسار الطبقي الاقتصادي: من الناحية النظرية، علينا اولا ان نعترف بأن النضال الطبقي الاقتصادي هو الذي يحتل مكان الصدارة بين المسارات الاجتماعية الأخرى، منذ فترة المشاع والى يومنا هذا. غير اننا نتكلم هنا عن المسار الطبقي الاقتصادي في واقع ايامنا وفي التاريخ القريب الذي مضى. فمنذ الثورة الفرنسية والثورات الاوربية الأخرى، وعلى الرغم من ان العالم الغربي دخل حقبة الديمقراطية، بمعنى حكم الشعب، الا ان العالم الغربي دخل حربين عالميتين فقد اثناءهما عدة ملايين من البشر، كما تم تدمير مدن بأكملها وشاعت المجاعة بين سكان دول رأسمالية لم تستطع ان تعيش مع بعضها بسلام، كما ان هذا العالم تعرض لمشاكل اجتماعية واقتصادية كثيرة وإضرابات واسعة، مما يدلل انه كان محروما من الديمقراطية، على الرغم من ادعاءات الغرب عكس ذلك.
دروس الحرب: غير ان الحربين العالميتين، كانتا درسا مهما للرأسماليات المتحاربة. وعليه فقد كانت من نتائج دروس الحرب المؤلمة ان جلست الرأسماليات الغربية على طاولة المفاوضات واستقر رأيها على التحالف من اجل تقسيم الدول الضعيفة فيما بينها، ونهب خيراتها، دون ان تكون هناك حروب مدمرة. وهكذا انشأت هذه الرأسماليات الأمم المتحدة ومجلس الأمم وغيرها من المنظمات الدولية الي كانت غايتها مساعدة هذه الرأسماليات على العيش بسلام مع بعضها البعض، وعلى ردع كل جماعة تناهض هيمنة تلك الرأسماليات، من ضعفاء العالم. غير ان المنظمات الدولية، ومنظمة دول عدم الانحياز نفسها، ربما استطاعت ان تمنع الحروب العالمية الكبيرة، لكنها لم تستطع منع تقسيم العالم الى كتلتين جبارتين تحاول كل كتلة منهما التوسع على حساب الكتلة الثانية، من خلال ما يسمى الحرب الباردة. وهكذا، وعلى الرغم من الصراع المرير الذي جرى بين الشرق والغرب، وعلى الرغم من وصول هاتين الكتلتين الى حافة الحرب الحقيقية اكثر من مرة، فإنهما في الواقع اكتفتا بالحرب الباردة، على امل ان تأكل احداها من جرف الأخرى، متى ما استطاعت الى ذلك سبيلا. وعليه يحق لنا ان نتساءل هنا ونقول: ترى هل نستطيع ان نجد ملمحا من ملامح الديمقراطية في الغرب وفي العالم، مع هذا الوضع الذي اتينا الى ذكره؟ لا اعتقد.
مرحلة الستينيات الحضارية: اذا كان القانون الفيزيائي الذي يقول بأن لكل فعل رد فعل، ينطبق على مجالات حياتية اخرى، ومنها المجال الدولي الاجتماعي والسياسي، فأن الأفعال الخطرة والشريرة التي نتجت عن التناحر بين الشرق والغرب، وبين الأحزاب التي كانت تدعي انها تمثل مصالح طبقات اجتماعية واقتصادية معينة، قد اوهن جميع الأطراف، مما سمح بظهور اتجاه انساني عالمي، منذ بداية " الستينيات " من القرن المنصرم، يعد الناس بحياة لا تعتمد شريعة الغاب، بل تعتمد حقوق الشعوب في الحرية والعدالة والكرامة الانسانية.
وعليه يكون تقييمنا لمرحلة الستينيات بأنها كانت مرحلة ثورية بكل معنى هذه الكلمة، لأن الانسان، والإنسان الغربي بشكل خاص، اراد تجاوز رأسمالية الغرب والشرق معا، مع كل أيديولوجياتهما، وصولا الى مجتمع جديد متحرر من عنف هذه الأيديولوجيات ومن عدوانها. غير ان ثورة الستينات، أخذت منحيين اساسيين، فضلا عن المنحى الطبقي الداخلي. فقد ظهرت دول عدم الانحياز، الى جانب الدول الضعيفة المنحازة الى احد المعسكرين المتناقضين، وظهر ما سمي بلاهوت التحرير في امريكا اللاتينية وفي افريقيا، مصاحبا لحركات التحرير العنيفة هناك، كما ظهرت حركات في دول كثيرة قامت بالإصلاح الزراعي وبتأميم نفطها وخيراتها الأخرى، كما حدث في العراق وفي مصر عبد الناصر مثلا. غير ان حركات التحرير هذه لم تستطع ان تتجذر وتصل الى كل غاياتها الطبقية والتحررية، ليس فقط في المجال الطبقي، الذي كان غائبا في اكثر الدول النامية، ولكن ايضا في مجال التحرر من اي شكل من اشكال الهيمنة.
مرحلة العولمة: غير ان العالم الغربي لم يكن غافلا عما يجري له، كما انه لم يكن قد ابتلع خسائره جراء تحرر الشعوب من استعماره الغاشم، وتحرير ثروات كان قد بنى قوته الاقتصادية عليها. ولذلك ما ان حسمت المعركة بين الشرق والغرب بتفكك المعسكر الشرقي، حتى شرعت الدول الغربية الرأسمالية تنسى خلافاتها وتتجمع فيما بينها، لكي تستعيد امجادها الرأسمالية ومستعمراتها القديمة وامتيازاتها الكولونيالية، بطرق خبيثة ومبتكرة، ومنها الحروب المباشرة وغير المباشرة التي شنتها على عالم الضعفاء، بمؤازرة الانتهازية المحلية. وعليه نفهم ان مرحلة العولمة لم تكن مرحلة تقدمية ولا ديمقراطية ولا عالمية جدلية تهمها حقوق الانسان، بل كانت ردة رجعية، شاءت الظروف العالمية ان تحصل.
خاتمة: عندما يقول المثل بأن الدبور لا يخرب عشه، وان الشيطان لا يخرب كوخه، وأن ثمار الشجرة تكون على شاكلتها، وانه لا يجنى من العوسج عنب ولا من العليق تين، فان هذه الأمثال الانسانية كافية لتقول لنا بأن امريكا لا تعمل من اجل اشاعة الديمقراطية في اي بلد. وفي الحقيقة، ان من يصرح بأن وسيلته لاحتلال العراق كانت الفوضى الخلاقة، اي الفوضى المدمرة، لا يمكن ان يكون ديمقراطيا، كما لا يمكن ان يعطي الديمقراطية لغيره. ومن يرى سلوكية المحتلين في العراق وفي ليبيا، لا يمكن ان يكون سوى لص قذر لا يستحق الاحترام، لأن اهتمامه بسرقة نفط كان اكثر من اهتمامه حتى بمن عاونه على احتلال بلده. ولذلك عندما يسمع انسان وطني شريف كلمة الديمقراطية والحرية على لسان احد المحتلين او احد أتباعهم، فانه يتقزز منها، كما يتقزز الانسان عند مروره بجانب جيفة.
وعليه نرى ان مكان الشعوب الضعيفة لا يمكن ان تكون في خندق المعتدين المتعسفين الناهبين لخيرات العالم، بل في الخندق المقابل تماما، كما كانت منذ الثورات الاولى في الربع الأول من القرن العشرين وحتى سقوط الاتحاد السوفييتي. غير ان هذا الكلام قد يحتاج يوما مقالا خاصا به، قد يكون عنوانه: ما بعد العولمة، او النظام العالمي الجديد الحقيقي. لأن مثل هذا النظام الجديد يمكنه ان يحقق ثورة حقيقية تسيرها قوانين العالمية نحو التحقق.
تلكيف – محافظة نينوى – العراق
11-8-2012
Fr_luciendjamil@yahoo.com
شبكة البصرة
السبت 23 رمضان 1433 / 11 آب 2012
يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط