ظاهرة وفاء سلطان... الوعي للجميع
مصباح الحق
ليسمح لي الأستاذ نبيل شرف الدين باستخدام عنوان مقاله المنشور في موقع إيلاف في 8 مارس (آذار) 2008 مع تغيير كلمة واحدة تفي الدكتورة وفاء سلطان قدرها. فقد أنبرى الأستاذ نبيل شرف الدين بالتهكم على الدكتورة وفاء سلطان، وتبرع بكمية لا بأس منها من عبارات الاستخفاف والتحقير على شخصية مرموقة مثل الدكتورة، وحاول يائساً تضليل القراء بإرواء الغرور لديهم بقوله أنها "ضارة لليبراليين والعلمانيين وأهل العقل قبل غيرهم". ونحن نسأل ما وجه الضرر الذي توجهه امرأة أبت أن تكون خاضعة لتعاليم "سماوية" تحط من قدرها وتجعلها بمستوى الحمار وتزج بها في الجحيم، وكل ما يمكن استعمالها هو حرث للرجال، وتسمح لبعلها أن ينكح غيرها بعقود وبدون؟ ما وجه الضرر الموجه لهؤلاء النخبة من الليبراليين والعلمانيين الذي قد تصيبهم د. وفاء سلطان به عندما تقول لهم بلغة واضحة أن الإسلام طاعون فاتك ويجب التخلص منه؟ هل هو أهمية الحوار والنقد بدلاً من النقل وإغلاق العقل، أم التسليم بخنوع وذل لما يسمى بالمقدسات، وإن كانت بجوهرها تعلمنا احتقار الآخر وقتله واضطهاده؟ وهل رجال الدين هم المختصون بفهم رسائل الله وتوزيع المفاهيم على البشر حسب الملائمة؟ وأي إله ضعيف وهزيل هذا الذي يحتاج لفقهاء يعبثون بآياته لكي يصفوا للناس جرعات السم العقائدي؟
كل العقائد الدينية تحمل بذور التشدد والإقصاء للآخر، وكل عقيدة لها من يذكيها لمآرب دنيوية وضيعة، لكن الإسلام يكاد يتفرد كعادته بالمآرب الميتافيزيقية ويحث معتنقيه على نبذ الحياة وما فيها للفوز بحور العين والغلمان. عندما يقول محمد على لسانه الله بأن الحياة لا تسوى أي شيء والمجاهد يجب أن يقتل غير المسلم ليدخل الجنة، فهل يعقل لأي "ليبرالي وعلماني" أن يقبل تعاليم ذلك الله؟ أين العقل ودوره هنا؟ تأتي وفاء سلطان وغيرها من العقلانيين لتنوير خفافيش الظلام ووعاظ السلاطين والمتشدقين بالدين المقدس لتقول لهم أن لا مقدس سوى الإنسان. فهل ما تقوم به من جهد لتنوير الإنسان- بكل أطيافه- يعتبر من أشياء "نحن في غنى عنها تماماً"؟ إذا هنيئاً لك يا أستاذ نبيل شرف الدين ما أنت عليه من وعي وحصافة.
ويشدد الأستاذ على رأيه بأن المقدسات مرفوعة عن النقاش، حيث يقول: " كما أن المعتقدات لا تصلح أن تكون موضوعاً للمناقشة بالأساس، فضلاً عن أننا كتاباً وصحافيين وباحثين وحقوقيين لسنا علماء في الدين ولا اللاهوت، بل نحن معنيون بالشؤون السياسية، وحتى في معالجتنا للقضايا ذات الصلة بالأديان كحقوق الأقليات الدينية، أو حرية التعبير أو غيرها، فنحن بصدد قضايا سياسية دنيوية، ولسنا بالتأكيد في وارد مناقشة صحة هذا الدين أو ذلك المعتقد وما فعلته ـ وتفعله دائماً ـ وفاء سلطان، أنها تصوب نيران مدفعيتها باتجاه صلب العقيدة الإسلامية مباشرة، ممثلة في النص المقدس وأقصد به "القرآن الكريم"، الذي يؤمن به أكثر من مليار ونصف المليار من البشر" انتهى. كيف لا نضع المعتقدات قيد المسألة وهي التي تتدخل في كل شاردة وواردة من حياتنا؟ كيف لا وهي التي تغسل عقولنا ليلاً نهاراً بالحقائق المطلقة؟ كيف لا وهي التي تدعونا للحراب والتحارب؟ كيف لا والإسلام يلفظ الآخر ويكفره في صلب القرآن ويطلب قتله أو دفع الجزية وهو صاغر؟ كيف لا نفكر بمغزى الناسخ والمنسوخ وهو بدعة سماوية محسوبة على آخر دين قرره الله وختمه؟ كيف لا نتفكر بأمور صحة وجدوى أي دين أو معتقد يشدد على إعلاء اسمه ولو على جماجم الآخرين؟ إن لم تكن مسؤولية الكتاب والباحثين والحقوقيين التصدي لهذه المعتقدات البالية وغير المقدسة بجوهرها، فإن رسالة فولتير عن مسؤولية المفكرين لم تصل إلى مسامع أستاذ نبيل شرف الدين، ومحاكم التفتيش لم تحرك ضميره والهولوكوست لا يعنيه بشيء؟ كل هذه المجازر من صنيع الدين.
الدكتورة وفاء سلطان تعلم تماماً بأن اليهودية مجرد نادي انتساب لا يدخله غير المولود يهودياً – مع استثناءات هامشية- وهي بحد ذاتها مجرد قوقعة في محيط، واليهود بحد ذاتهم سيقمون الدنيا ويقعدونها إذا تمادى حاخاماتهم في بسط معتقداتهم وفرضها على الأمم الأخرى، وهم في المقام الأول معنيون بالتجارة والصناعة أكثر من أي روحانيات وميتافيزيقيات أخرى . والمسيحية كديانة تم تحجيمها وتهميشها في مجال صناعة القرار وصياغة القانون، وفرض عليها قبول حريات الأفراد وتنصاع دائماً لمستجدات الحياة وتطورها الدائم، وذلك بجهود كل الكتاب والفلاسفة المتنورين والعلماء الذين أثبتوا للعقل بأن الدين "أفيون الشعوب"، وأطاحوا بمعاقل الدين جنباً ومضوا قدماً بالاكتشافات والاختراعات التي تزداد يوماً بعد يوم، بينما يستخدمها المسلمون كأنها مذكورة في كتابهم المقدس قبل إيجادها، ويتشدقون بأن الكفار سُخروا لخدمتهم على الأرض وهم مطية لهم إلى حور العين. فقط الإسلام هو الذي يوقف عجلة التطور العلمي بعنجهية واستعلاء لا مثيل لهما، ومن ثم يلوي معاني الكلمات لاستيعاب الاختراعات لصالحه وكأنه سنها في اللوح المحفوظ. "النص المقدس" والمليار ونصف المليار من البشر في ضلال يحتاج ليد وفاء سلطان لإخراجه إلى النور والبحث والتنقيب والغربلة. إذا أردت أن يحترمك الآخر، فلابد لك أن تشعره بالأمان منك أولاً ومن ثم أن تحترم فكره. هل يوفر الإسلام ذلك؟ هل يسمح لأي من غير المسلمين أن يمارس طقوسه في السعودية، معقل الإسلام؟ هل رفعت لافتة (لغير المسلمين) عن الطريق المؤدي إلى مكة.
وهنا يقول الأستاذ مشكوراً: "ففي النصوص المقدسة سواء كانت التوراة أو القرآن أو الأناجيل أو غيرها، هناك متسع لأكثر من قراءة وتفسير، بعضها قد يكون متطرفاً تحريضياً، وبعضها الآخر يكون إنسانياً يقبل الآخر ويتعايش معه، إيماناً بأن الأوطان للبشر جميعاً، والأديان لله." انتهى. هل هذه الفجوة في القراءة والتفسير من إله يريد الرشد والإخاء والسلام للبشر، أم أنها من صنيع بشر زرعوا الضغينة والبغضاء في قلوب البشر باسم الإله؟ الوقوف عند المقدسات ليس احتقاراً لها بل إعلاء للفكر والعقل الذي يميز الإنسان عن ابنه عمه القرد. وتسفيه وإنكار النصوص ليس سلوكاً أحمقاً ولا يقصد به إيذاء مشاعر البشر، بل هو توعية مستديمة عبر الزمن للبشر، والبشرية لم تعد بحاجة لإله أكثر من حاجتها للمزيد من الاكتشافات العلمية والتطوير والرقي في سلم العقل الذي أتاح لنا ما بأيدينا. لو التزمنا بالديانات كلها لم تحركنا خطوة واحدة إلى الأمام، ولبقينا نعتقد بأن الأرض لا تدور وبأن الشمس تختبئ في بئر من طين انقسم الفقهاء في صدد تحديد نوعه.
أما عن ردود الفعل على الرسوم الكاريكاتورية التي لا حاجة أصلاً للتحدث عنها لوضوحها، فهل تكرم السيد نبيل شرف الدين بذكر المليارات من البوذيين عندما فجر الطالبان تماثيلهم، وهل تكرم باستهجان الفعل نفسه من باب القيمة التاريخية الصرفة، أم أنه صنف هؤلاء خارج عن نطاق المقدسات والإنسان؟ هل قتل الكتاب الإسلاميين المستنيرين من باب الجهاد حق ؟ هل تكفير مقامات رفيعة مثل القمني (والذي حاول نفس الكاتب أن يقول له بأن "الرضوخ لابتزاز التهديد ليس حلاً خاصة لمن كان الفكر صناعتهم" في مقاله "القمني يتبرأ من أفكاره") هي من الجهاد والتقديس للنصوص؟ هل حرق الكنائس وقتل الراهبات واختطاف القساوسة ليست ردود بهيمية يدعو لها مشايخ الإسلام. أليس كل ما ذكر من ردود همجية من قلب الإسلام وتعاليمه؟ أليست ظاهرة المعتزلة التي ذكرها الكاتب دلالة على رفض طغيان واستبداد التعاليم الإسلامية؟ أليس الشقاق الطائفي في أي ديانة دليل على ضعف وهشاشة وتناقض الدين بحد ذاته؟
ولتأكيد فكرته عن تطرف الدكتورة وفاء سلطان، يذكرنا الأستاذ نبيل شرف الدين (والمصداقية تعود له) بكلمة كانت تلقيها في مؤتمر للأقباط وتشرح فكرتها عن آيات القتل وضرورة اجتثاثها، وكعادته يحاول زرع فكرة الاستنفار من الدكتورة وفحوى كلامها، حيث يقول: "وحتى لا يفسد المؤتمر تنبه القائمون عليه للأمر فغيروا الموضوع، وأكدوا احترامهم للإسلام، وأن قضيتهم ليست مع الدين، بل مع المتطرفين، وأن غاية ما ينشدونه هو العدل والمساواة وحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر وغيرها من الحقوق السياسية المتعلقة بالمواطنة." انتهى. إذا ما علمنا بأن المؤتمر المقصود كان أصلاً لبحث سبل إنصاف الأقليات الدينية والإقرار بها- وهو ضرب من المحال مع وجود مارد إسلامي لا يرحم طال حتى ممثله في المؤتمر وهو الشيخ أحمد صبحي منصور (الذي تهكم مع جلالة قدره على المفكر الدكتور كامل النجار بطريقة لا تخلو من فظاظة واستغباء دون أن يقارعه فكرياً بسبب إفلاسه) فماذا تبقى من العدل والمساواة وحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر غير حبر على ورق؟ وهل تناسى الأستاذ نبيل شرف الدين بأن من كان يدير دفة المؤتمر هو شاكر النابلسي، والكل يعرف سلبيته في ذلك الدور، مما ساعد على شحن الأجواء بدلاً من التقرب والإخاء.
ويقول الكاتب: "...لأن صدام الأديان لن يؤدي إلى أي خير، بل علينا أن نتفادى الانزلاق إلى فخ الطعن في المعتقدات، وبالتالي نعمل على تحييد الجانب المقدس وتنحيته جانباً، لنتحدث فيما هو بشري، أي ما يؤخذ منه ويرد عليه، وهو الشأن السياسي، وليس العقائدي المحاط بهالة من القداسة، لن يقبل معها بوذي ولا مسيحي ولا يهودي ولا مسلم، ولا معتنق أي دين الطعن في سلامة معتقده." ونصرح له موضوع تحييد الجانب المقدس وتنحيته جانباً، وبالتالي عليه أن يركض من مسجد لآخر ويخرس أفواه الشيوخ والمؤمين الزاعقين بنبرات- يبدو معها "الاستايل البعثي" أشرف وأعزب- والداعين لمسخ اليهود والنصارى إلى "قردة وخنازير". وهل آيات القرآن الكريه جداً الطاعنة في معتقدات الغير مستثناة من دعوة الأستاذ نبيل شرف الدين وتصريحه بأن "المعتقدات لا تُناقش"؟ القرآن يفيض بآيات الطعن في جوهر المذهبين اليهودي والمسيحي، فهل نغض الطرف ونتمسك ببدعة الناسخ والممسوخ والتي لن تحل المشكلة؟
وبعد الكلام الجميل عن حق الإنسان في اعتناق أي مذهب أو دين يحلو له، يقول الأستاذ الفاضل "ينبغي على الجميع أن يلتزموا به هو الدستور والقوانين، فمن يتجاوز شارة المرور الحمراء لن نسأله إن كان كاثوليكياً أو شيعياً." وهنا تقفز أسئلة عديدة ومنها: أي دستور وقوانين يتكلم عنها صاحبنا؟ هل هي التشريعات الإسلامية التي تنتهك حرمة الإنسان التي يجب علينا أن نحترمها كشارة المرور الحمراء؟ ألا يرى خروقات وتجاوزات لأي كرامة أو عدل في دستور وقوانين الإسلام؟ ألا يشعر بعدم الإنسانية عند تشريع قطع يد السارق والذي سيصبح عالة على محيطه؟ هل هذا التشريع لا يتصف بالوحشية؟ ألا يدرك بشاعة جلد الزاني ورجم الزانية، أو تقسيم الميراث بالطريقة المكرسة للتفرقة بين المرأة والرجل وبشكل لا يخدم العدل والمساواة؟
وأخيراً، يقول السيد نبيل شرف الدين "أن صناعة الحقد لن تحل أزمة ولن تعالج قضية، ولن تجلب للناس سوى المزيد من الصراع والشقاء والاحتقان، وأن صناعة الكراهية تتناقض مع الأهداف السامية لكافة الأديان، ومع الأفكار الإنسانية النبيلة التي نادي بها الحكماء والعقلاء من البشر." أنتهى. ونحن نقول له أن يتحلى بالجرأة والشجاعة (التي يطالب بها الدكتورة وفاء سلطان) ويختصر لنا الأهداف السامية التي جاء بها الإسلام، غير القتل والغزو والسلب والنهب وهتك العرض والدم باسم إله واحد ذو الفقار. إن الأديان لم تكرس الأفكار النبيلة التي مات لأجلها الحكماء والعقلاء، بل قتلتهم وزرعت الضغينة بين البشر وأعلنت صناعة الحقد فوق كل الصناعات، والدكتورة وفاء سلطان تتعالى على تعاليم الأديان وتنقدها برمتها وتدعو الناس للمحبة والسلام والوئام لغرض الإنسان بعينه وليس بدافع التأمين على الحياة الأخرى وترحيل المخالف عن الحياة الدنيا لأتفه الأسباب، كما حال كاتب هذه السطور.
(
http://www.elaph.com/ElaphWeb/ElaphWrite...310510.htm)