النظام شئ جيد ولكن في بعض الحالات يمكن ان تكون الفوضى افضل. ليس من الغريب ان مجموعة من الوظائف الحيوية تنتجها الصدفة العشوائية، مثلا الوقت الذي سيبدأ فيه جهاز المناعة بإنتاج مضادات للامراض، إذ ان الانتخاب الطبيعي اختار الطريقة الاكثر كفاءة. فعالية هذه الطريقة جعلت العلماء يستنسخونها من الطبيعة لخلق كائناتهم الخاصة.
نحن متعودين على القول ان خصائص جيناتنا مرتبطة بالوراثة والبيئة ولكن هناك عامل ثالث نتجاوزه دائما هو الصدفة العمياء، وهو عامل لايمكن تعويضه. بدون الصدفة لم يكن بالامكان ظهور الانسان كنوع، وحتى لو ظهر لما كان قادر على مقاومة الامراض. ميكانيزم الصدفة يقدم لنا فرصة لاتقارن لنشوء التنوع الجيني الذي يكون الاساس لضمان إستمرار التكاثر وفعالية المقاومة ضد الامراض. في السنوات الاخيرة اكتشف العلماء الدور الحاسم للصدفة في بقائنا على الحياة ويدرس هذا الميكانيزم لاستخدامه في تطوير الانزيمات.
بدون جهاز مناعة فعل لايمكننا البقاء على الحياة، ولكن لولا الصدفة والاحتمالات لما كان بإمكاننا ربح الصراع ضد الميكروبات. عمل جهاز المناعة يعتمد على مضادات الاجسام (التي تنتجها الكريات البيض) التي لها عدة اشكال، كل منها له القدرة على التعرف على نوع محدد من البكتريا او الجراثيم.
كل نوع من المضادات لها خصائصها الخاصة للغاية وردة فعل مميزة مثلا ان تكون ردة فعلها تجاه نوع معين من البروتين على سطح نوع معين من الفيروسات او البكتريا. إذا كان مضاد الاجسام المعني متوفر والبروتين المناسب موجود على سطح البكتريا ، نكون محميين بشكل جيد. ولكن إذا كانت هذه البكتريا قد فقدت هذا البروتين لسبب من الاسباب، مثلا الطفرة، لن تتمكن الاجشام المضادة من التعرف على البكتريا التي تبدأ بالتأثير بدون اي مقاومة ضدها. في مثل هذه الحالة عندما يُهاجم جسمنا من كائنات جديدة غير معروفة لجهازنا الدفاعي سابقاً نحتاج عندها لمضادات اجسام تكون جاهزة على الدوام لمختلف الطوارئ بمافيها الحالات التي لم تواجهها سابقا.
الانتخاب الطبيعي حسم الامر لصالح إنتاج لانهائي لمضادات اجسام منتجة بناء على مبدأ الصدفة، إذ انه اتاح النجاح لجهاز مناعة قائم على مبدأ خلط وإعادة تشكيل الجينات، في عملية تتجدد بإستمرار، في جينات خاصة مسؤولة عن انتاج وإعادة انتاج مضادات الاجسام. قدرة الاجسام المضادة على إعادة التعرف على الاجسام الغريبة تعود الى ستة مقاطع محددة موجودة قرب بعضها البعض على نهايات جينات مضادات الاجسام التي شكلها يشبه شكل حرف Y. بعض التغييرات الصغيرة في واحدة من هذه المناطق او اكثر يؤدي الى انتاج مضادات اجسام جديدة تماما وبالتالي لاتصبح فعالة ضد الاجسام الغريبة التي كانت تعالجها وانما ضد بكتريا او فيروس جديد، والمناطق الستة يمكن ترتيبهم بمختلف الاشكال الممكنة.
من حيث المبدأ يحتاج الامر الى جينين فقط من اجل إعادة تشكيل وإنتاج مضادات اجسام جديدة، وكل واحد منهما يحتوي على شيفرة جينية لثلاث مناطق والتي تسمى V, D, J. غير ان جينات الاجسام المضادة مميزة عن بقية الجينات إذ انها لاتوجد جاهزة للاستخدام على الكروموسومات في DNA كبقية الجينات. من اجل الحصول عليهم يجب على الخلية المعنية ان تقوم بإنتاجهم على حدة من خلال خلط جميع المناطق الضرورية الموجودة في DNA. كقاعدة لهذا الانتاج تحتوي الكروموسومات على 200 شكل مختلف من V واثنى عشر شكل مختلف من D واربع اشكال من J. عندما تحتاج كرية بيضاء ببناء مضاد للاجسام تقوم بقطع ولصق المناطق بحيث ان المناطق يجري اختيارها ويعاد لصقها بطريقة فوضوية.
إذا كان المرء مريض وعلى جهاز المناعة مقاومة جسم غريب محدد تقوم الكريات البيض ببناء التشكيلة VDJ المناسبة لهذا الجسم الغريب بالذات انطلاقا من تجربة سابقة. في وقت الصحة تستمر الكريات البيض بإنتاج الاجسام المضادة ولكن بدون وصفة محددة وانما بتشكيلة اعتباطية على الدوام. هذا الامر يقدم للجسم مخزن هائل من " السلاح" المبرمج للبحث بإستمرار عن عدو مناسب معروف او مجهول. بفضل هذا النظام يتمكن الجسم من بناء حوالي 10 ملايين جسم مضاد لمختلف التوقعات.
[BIMG]http://nature.chem.msu.su/lectures_old/Recombination/VDJ.gif[/BIMG]
نشاط الجينات هو مكان اخر لميكانيزم الصدفة الحيوي والحاسم. في السنوات الخمسة الاخيرة اكتشف العلماء من معاهد متعددة ان النشاط الجيني مختلف للغاية، حتى ولو كانت المقارنة بين خليتين متطابقتين جينيا. عندما يجري تنشيط احد الجينات تنقل الشيفرة الجينية الى mRNA, الذي يقوم بإستخدامه لصنع بروتين. هذه العملية يجري التحكم بها بعدة مستويات بحيث ان الخلية تنتج البروتين المطلوب بالكمية المطلوبة. إذا كانت هناك خليتين متطابقتين جينيا ومتعرضين لظروف حياتية واحدة، فيفترض نظريا ان الجينات ستكون نشيطة بنفس القدر في كلا الخليتين. العديد من الابحاث برهنت على ان الامر ليس كذلك، النشاط الخلوي يتجه صعودا وهبوطا مقدما صورة عشوائية للغاية.
عام 2006 جرت دراسة لنشاط جين فأر في 97 نسخة له. لقد ظهر ان نشاط الجين مختلف من واحد الى اخر كما ان التحولات لم تجري بنفس التواتر. الباحثين اوضحوا هذه النتائج بكون عدم النشاط هو نقطة الانطلاق عند الكروموسوم ولكن عبر فترات متواترة تأتي " موجة" تسمح للجينات ان تتنشط.
نحن نعلم ان DNA في الكروموسوم غالبا يكون متجمع على بعضه بشدة الى درجة انه عمليا ليس في متناول عملية الاستنساخ الطبيعي. موجة التنشيط يمكن اعتبارها فرصة مؤقتة وعفوية التوقيت تفتح الكروموسوم المغلق عن بعضه. اهمية هذا الوضع والانفتاحات العفوية يمكن فهمها من العرض التالي. في نسيج متشابه، حيث الخلايا متطابقة الى درجة كبيرة وتعمل بشكل متناظر، سيكونون جميعا معرضين بنفس الوقت لاي خطر غير متوقع، مثلا نقص بالاوكسجين او ماشابه، ولكن إذا كانت نشاطاتهم غير متناظرة ستكون اقسام من الخلايا بمستويات اخرى من النشاط عندما يتعرض النسيج للخطر. هذا الامر يعطيهم احتمال للخلاص الامر الذي قد ينقذ قسم من النسيج.
دور الصدفة في تشكيل الطفل كبير، إذ توجد العديد من الاحتمالات لتشكل الزوج الكروموسومي. الصدفة تلعب دورها قبل بدء تنشيط الجين الاول بفترة طويلة . ميكانيزم الصدفة ضمان لنشوء جنين مميز كبصمة الاصبع من كل بيضة ملقحة. لولا الصدفة التي تقوم بخلط الجينات واستخراج ترتيب جديد منهم سيكون في مقدور الاناث والذكور تبادل نوعين من الكروموسومات القادمة من البيضة والخلية المنوية. هذا سيعني ان الزوجين قادرين على الحصول فقط على اربعة انواع من الاحتمالات لتشكيل الطفل، نوعين كأناث ونوعين كذكور. هذا الامر سيؤدي الى نتائج وخيمة على المدى الطويل، إذ ان التنوع الجيني هو القاعدة للقدرة على مقاومة الامراض والتلائم مع التغييرات البيئية.
العشوائية والفوضى هي جوهر النشوء وهو امر يخلو من إرادة مسبقة او علم بالغيب. بفضل الانتخاب الطبيعي لم يكن من الممكن البقاء على قيد الحياة إلا للاسلوب الذي يضمن عدم تتطابق الافراد جينيا، بطريقة بسيطة وفعالة على مبدأ الصدفة العشوائية. مرحلة الانقسام الخلوي الذي تؤدي الى بناء الخلايا الجنسية تسمى الميوز. انها تتكون من انقسامين خلويين متتابعين. في كلا الانقسامين يجري توزيع الجينات فيهما انطلاقا من مبدأ العشوائية.
قبل الانقسام الخلوي الاول يتبادل الكرموسومات الجينات التي يحملوها بطريقة عشوائية وبعد الانقسام الثاني تصطف الازواج الكروموسومية وتتوزع على البيضة والخلية المنوية بطريقة عشوائية. الصدفة العشوائية تجعل من الغير محتمل ان تصبح خليتين جنسيتين متطابقتين بمحتواهم الكرموسومي واصطفافاته الجينية. عند الجماع يقوم الذكر بإطلاق حوالي 50 مليون خلية منوية كل واحدة منهم تملك اصطفافات جينية خاصة بها. جميع هذه الخلايا ستناضل من اجل الوصول اولا وتلقيح البيضة ولكن واحدة منهم فقط ستتمكن من النجاح، وهو امر تقرره العشوائية وحدها بدون منازع. المعرفة المسبقة بأي من هذه الخلايا سينجح يتناقض تماما مع الهدف من العملية العشوائية ذاتها ولذلك فهو مستحيل.
الانسان يتعلم الخلق بالعشوائية من اجل تطوير صناعة المضادات الحيوية والتغلب على المناعة الجرثومية. العشوائية اثبتت فائدتها في الابداع للوصول الى نتائج افضل. إعادة الاصطفاف الجيني على الكروموسومات احدى اهم عوامل قوة الطبيعة لاستمرار الحياة، بدون ان يكون هناك حاجة لوجود قوة تراقب وتختار. الفوضى نفسها افضل منظم. هذا الاسلوب نفسه اصبح الانسان يستخدامه لتحسين الانزيمات. هذه الانزيمات تستخدم في مواد التنظيف من اجل تحسين اذابة الدهون وتفكيك البروتينات.
في عملية تسمى DNA-shuffling (خلط المورثات)، يختار الاختصاصيين مجموعة من الجينات المتشابهة، ماخوذة من عدد من افراد انواع من انزيم معين. مثلا احدى الانواع يمكن ان يكون له خاصة متفوقة في تحليل الدهون ولكنه لايتحمل الحرارة العالية في حين ان النوع الاخر له خصائص معكوسة. الباحثين يجمعون الجينات المختلفة المصادر ويقومون بتقطيعها الى اجزاء اصغر. بعد ذلك يعاد تشكيل الاجزاء بشكل عشوائي تماما لينتج معنا عشرات الاف الجينات الصناعية. الان لدينا اصطفافات جديدة تجمع خصائص مختلفة بدون اي تخطيط مسبق. اعتمادا على الحظ فقط يظهر احد الانواع يملك اصطفافات تعطيه خصائص فعالة ضد الدهون ويتحمل الحرارة العالية. هذا الجين يجري انتاجه بكميات كبيرة وزرعه في الكائنات الدقيقة التي تقوم بإنتاج الانزيم المطلوب بكميات صناعية.
كافة المؤشرات تشير الى ان العشوائية وليس النظام هو افضل اداة لخلق حياة قابلة على البقاء. لو اختارت الطبيعة اسلوب اخر لكان بدون شك اكثر تعقيدا، اسوء فعالية واحتاج الى طاقة وموارد اكبر. الصدفة والعشوائية لهم الفضل الاكبر في خلق الحياة وبقاءها.
للكاتب حمدي الراشدي والمصادر تجدونها في موقع الذاكرة العلمي:
Antikropp
study
How Genes Work