أنا واقف حالياً على باب المطار، أنظر في وجوه المسافرين منتظراً حبيباً، وأحمل في يدي مصنفاً أخضر يحتوي ملخصاً عن حياتي العملية والعلمية من الألف إلى الياء.

أعتذر عن التأخر عليكم في كتابة هذه المذكرات. ولكن وقتي كان ضيقاً جداً بسبب انشغالي بمؤتمر المغتربين رغم أنني لست مدعواً إليه ولا محاضراً فيه.
مؤتمر المغتربين هذا، فكرة لا سابق لها لاجتذاب الخبرات العربية المهاجرة والأدمغة الهاربة، إما لإقناعها بالعودة إلى أوطانها، أو لإفادتنا من معرفتها لتطوير البلد ومشاريعه.

المهم أنني وجدت نفسي، وأنا لست مغترباً ولا دماغاً هارباً، أسرع مع سائق سيارة الخدمة في العمل لاستقبال الدكتور حبيب في المطار.

حبيب هذا هو ابن صديقة والدتي. عرفته عندما كنت صغيراً، وقد كان لي مثلاً أعلى في الأدب والعلم والإبداع. درس هندسة الإلكترونيات، وبفضل تفوقه ومنصب عمه بعثته الجامعة لإتمام دراسته في الخارج، ولم يعد من يومها.
أذكر أن أم حبيب ذهبت لزيارته عدة مرات، وقد مدحت بالمنصب الذي يشغله منذ عشرة أعوام في أحد أكبر المصارف الأوربية. كما لم تتوقف عن وصف منزله الواسع المطل على بحيرة كبيرة، وسيارته الحديثة، وقاربه الأبيض الفاره. وأمي تنظر إلي، وأنا أحتسي القهوة وقد تجاوزت الثلاثين وما زلت في منزلها غير قادر على استئجار حتى شقة صغيرة.

لم أكن أتوقع على الإطلاق أن الصدفة ستجمع بيننا مجدداً بهذه الطريقة. فرغم تفوقي في دراستي سابقاً، فإن عملي في الجامعة كمهندس يتلخص بأن أقوم بكل أعمال الخدمات التي لا يود الدكاترة أو المدراء القيام بها. بدءاً من تحضير جلسات العملي، إلى مراجعة مشاريع التخرج، إلى صناعة دارات إلكترونية من أجل إشارات المرور أو الشاشات الكبيرة الموزعة في مدينتنا هنا وهناك، وانتهاءاً باستقبال الزوار والوفود، وتأمين الحجز الفندقي لها.

وقفت في المطار أنتظره، ولم أعان أي صعوبة في التعرف عليه رغم السنين التي مضت على غيابه. ورغم تساقط شعره وزيادة وزنه، فما زالت ابتسامته هي ذاتها، تبعث على الأمل والتفاؤل فيمن ينظر إليه.

كانت فكرة المؤتمر تتلخص في تشكيل ثنائيات عمل مؤلفة من "خبير" مغترب ودكتور في الجامعة، يقومان على التنسيق والاتفاق حول محاضرات يلقيها المغترب أو مشاريع مشتركة يطرحها، أو حتى إقناعه بالعودة لإفادة وطنه إن أمكن. ولأهمية شخص حبيب ومنصب عمه الأمني الحساس، فقد تم وضعه كثنائي لمدير الجامعة شخصياً.

أوصلت حبيباً إلى منزله، وتواعدنا على التلاقي مجدداً إن تيسرت الأمور.

مضت الأيام سريعاً، بين إيصال الخبير فلان إلى مأدبة عشاء، وتنظيم محاضرة للخبير علان ودعوة من يهتم بها. ونظراً لأن عمل حبيب لا يمت بصلة إلى الإلكترونيات، لم نستطع تنظيم محاضرة له، أو تنظيم مشروع مشترك معه. ولكنه مع ذلك كان متواجداً في كل الأوقات، في مأدبة الوزير شخصياً، والاجتماع المصغر، والاجتماع المغلق، جالساً دوماً إلى يمين مدير الجامعة.

البارحة قبل مغادرته، اتصلت أم حبيب بنا وأخبرتنا بأن حبيب سيمر علي ليودعني قبل أن يسافر، وأن مدير الجامعة نفسه سيوصله إلى المطار.
مر حبيب لزيارتنا واحتساء القهوة. وسألني مباشرة : هل حضرت سيرتك الذاتية ؟ هل أستطيع إفادتك بشيء؟
استغربت في البداية ثم أدركت ما يقصد عندما أخرج من حقيبته عشرات السير الذاتية لأساتذة الجامعة ومدرسيها.
قلت له: الهدف من المؤتمر هو جذب المغتربين لا زيادة عددهم.
فرد علي: مدير الجامعة نفسه أعطاني سيرته الذاتية وطلب مني أن أبحث له عن عمل في أوربا !!
أحسست بدوار في رأسي، وأدركت كم أنا مغفل (لن أقول حماراً هذه المرة)، وغير قادر على رؤية ما يحصل حقيقة فيما حولي.
نظر إلي ثم قال: انظر، أنا طائرتي غداً ظهراً. مر علي في الصباح المبكر وأحضر لي سيرتك الذاتية وملخصاً عما تستطيع ممارسته في الخارج كعمل.

بتشجيع من والدتي، سهرت على كتابة سيرتي الذاتية بالإنجليزية ووضعتها مع صور عن شهاداتي في مصنف أخضر فاخر. ومن الصباح الباكر مررت عليه لأعطيه إياها. ولكن أمه أخبرتني بأنه خرج للإفطار مع مدير الجامعة ثم سيذهب مباشرة إلى المطار.

ركضت إلى المطار مسرعاً في أقرب سيارة تكسي. وهأنا أنتظر منذ ساعات على باب المطار. أنظر كالمجنون في أوجه المغادرين وكل من يصل في سيارة قد تشبه سيارة مدير الجامعة.
أعتقد أن الطائرة التي أراها الآن تقلع، هي طائرة حبيب. لا أعرف كيف دخل المطار وسافر دون أن أراه.

سأطلب من أمه عنوانه البريدي وأبعث إليه بأوراقي هذه. وقد أضم إليها أوراق صديقي زياد أيضاً، الذي يعمل في الجامعة عملاً شبيهاً بعملي.
وقد يستقبلني بلدي كخبير يوماً، ويجعلني أعطي محاضرة، وأتناول العشاء مع مدراء الجامعات والوزراء. ولم لا، سأحمل حقيبة محملة بالسير الذاتية بعد قضائي أسبوعاً مرفهاً في مؤتمر المغتربين....

(f)

ككلّ مذكّرات الجيل والحمير ..
رائعة (f)

خوليو

ابو ابراهيم ....

حمير الجيل ....ام جيل الحمير .....؟