السعودية.. أي دور فاعل للتيارات السياسية ؟
السعودية.. أي دور فاعل للتيارات السياسية ؟
بقلم: دعاء حسين علام
باحثة مصرية
ظل وقع الحديث عن أطياف وتوجهات فكرية متنوعة في السعودية, أو التعاطي مع واقع تتفاعل في سياقه التيارات السياسية المتعددة غير مألوف حتي سنوات قليلة مضت, لاسيما أن المملكة تمثل أبرز الأمثلة النموذجية للأنظمة المحافظة التقليدية التي ترتكز شرعيتها علي العرف أو علي التفويض الألهي كنظام الحكم في المملكة. بيد أن ذلك لا يعني أن المعارضة السياسية في المملكة وليدة اليوم أو سنوات قليلة معدودة, وإنما لبعضها جذور يشهد بها تاريخ القمع الذي مورس بحقها.
ثمة توجه لدي عدد من المحللين مفاده عدم المبالغة في إقحام مفرزات أحداث الحادي عشر من سبتمبر في تحليل مختلف القضايا سواء هذه التي كانت قائمة بالفعل, أو تلك التي تطورت مفاعيلها بتلك الأحداث إلي نحو يتعذر التحكم فيه. غير أنه مما لا جدال فيه أن تداعيات الأحداث المذكورة, كان له أبلغ الأثر علي المملكة علي مختلف الصعد, وما يهمنا في هذا المقام هو الصعيد الداخلي, فقد مثل الإعلان عن ضلوع عدد غير قليل من السعوديين في تنفيذ الهجمات مفاجأة قاسية للسلطة الحاكمة في المملكة, ووفر فرصة لا تعوض في الوقت ذاته للمطالبين بالإصلاح للتأكيد علي إحداث ربط بين وجود متطرفين وسيطرة الفكر الاستبدادي وغياب آليات التحديث السياسي وقنوات الحوار.
أخذت تتسارع وتائر النشاط المطلبي الاصلاحي في المملكة علي نحو غير مسبوق, وبدأ يظهر مشهد سياسي تتجادل فيه النخب السياسية والفكرية من ألوان وأطياف سياسية وأيديولوجية متنوعة وطنية ودينية وليبرالية, جعل المملكة مسرحا لحوار داخلي سعودي في قضايا ظلت مغيبة حينا من الدهر, وشاركت فيه النخب الثقافية التي أخذت تبلور اجتهادات فكرية في دمقرطة المجتمع السعودي و أشكال التغيير ومفاصله وآلياته في المرحلة المقبلة.
كانت المحصلة أن شهدت السنوات الأخيرة بالفعل حراكا سياسيا لا سابق له في المملكة, واكبه تبني إجراءات إصلاحية منذ عام2002 اتفق علي تواضعها, غير أنه لايمكن تجاهل ما تحمله من دلالات في السياق السعودي.. وارتفع سقف التوقعات إلي حد تواتر إرهاصات بدء تطور حقبة ما بعد الوهابية في المملكة.. وهنا تكمن التساؤلات حول تحديد وتقييم موقع التيارات الناشبة أو هؤلاء الفاعلين الجدد في إحداث الحراك في المملكة, ومدي تمكنها من بلورة البديل السياسي في مجتمع يتعطش للتغيير, وبالأحري هل يمكن أن تطور ضلعا لمثلث ظلت تهيمن علي قاعدته السياسية كل من السلطتين السياسية والدينية.
ما بين العائلة المالكة والمؤسسة الدينية.. فاعلون جدد في المملكة:
مثل كل من الإسلام والنظام الملكي الدعامتين اللتين ارتكز عليهما تاريخ المملكة, فثمة تحالف تاريخي أبرم خلال العام1744 بين المصلح الديني' محمد بن عبد الوهاب', وبين الحاكم حينذاك' محمد بن سعود', ذلك التحالف الذي نشأ عنه تأسيس الدولة السعودية, وقد نص الاتفاق بين الطرفين علي تقاسم السلطتين الدينية والسياسية, مع عدم وضوح في تحديد فضاءاتهما, ومن ثم لا يمكن تناسي أن المؤسسة الدينية تعد شريكا رئيسيا في صنع القرار.
نشأ منذ ذلك الحين ارتباط تقليدي قديم قائم بين العائلة المالكة وعلماء المذهب الوهابي, ومنذ تأسيس الدولة السعودية الحديثة عام1932 حكمت الأسرة المالكة هذه البلاد الشاسعة المؤلفة من جماعات مختلفة باسم الإسلام الوهابي, وقد أصبحت المؤسسة الدينية أكثر فرضا لآرائها وطورت عقيدة أصولية تعرف بالوهابية الرسمية, اتسمت بالإقصاء والرفض لأي فكر مغاير, ومارست سلطتها في إطار من المنفعة المتبادلة مع الأسرة المالكة بحيث يكسب العلماء الوهابيون النظام الحاكم صفة الشرعية الدينية في مقابل منحهم سلطة تنظيم المجتمع, وتمخض عن هذا التحالف قدرة هائلة علي احتواء تأثير أي فاعلين سياسيين آخرين قد يبرزوا علي السطح.
بيد أن التحالف بين المؤسستين الدينية والرسمية قد تعرض لضغوط قوية بعد رحيل الشيخين' ابن باز' و'ابن عثيمين', وعدم توافر وجوه مماثلة مقنعة للرأي العام, وبدأت المعضلة في ظهور تيارات إسلامية تسحب البساط من المؤسسة الدينية ذات الوجوه التقليدية, والتي لا تتفق أطروحاتها مع تطلعات مجتمع أثرت عليه متغيرات جديدة لم تستطع الرموز التقليدية التوافق معها.
و لعل التهاون في إعلان الاحتجاج, بل وتبرير استقدام القوات الأمريكية علي الأراضي السعودية, وما تلاها من فتوي الشيخ' ابن باز' بمشروعية الصلح مع إسرائيل, كان بمثابه تطورات مفصلية لظهور حركة معارضة إسلامية قوية احتجاجا في المقام الأول علي وجود قوات غير مسلمة في ديار الحرمين الشريفين في مكة والمدينة, واعتبر رواد هذه الحركة وجود جنود أمريكيين في المنطقة التي انطلقت منها الدعوة الإسلامية بمثابة تدنيس للحرمات. تعالت أصوات النقد الصادرة من بعض العلماء الشباب في المؤسسة الدينية, علي نحو ما ظهر في خطبهم ومحاضراتهم, وأسفرت هذه التطورات عن جنوح الكثير من الإسلاميين عن مظلة المؤسسة الدينية الرسمية إلي تيارات إسلامية أخري, وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتظهر عدة اتجاهات داخل التيار الإسلامي, فمنهم من يحاول التعاون مع السلطة لإصلاحها من الداخل, ومنهم من يري الحل في تقويض حكم آل سعود من خلال الدعاية المضادة والإعلام والتظاهر( اتجاه الحركة الإسلامية للإصلاح بقيادة سعد الفقية, ومقرها لندن), فضلا عن التيار الجهادي الذي يتخذ من العنف وسيلة للتغيير, وتيار يمكن أن يطلق عليه تيار المسلمين الوسطيين أو المعتدلين.
أما الوجه الآخر المقابل للمشهد فتمثل في تزايد امتثال القيم الليبرالية من قبل الكثيرين من قبل أعداد لا بأس بها من المثقفين, لاسيما عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر, التي كانت بمثابة الضربة القاضية للفكر الوهابي باعتباره مفرخا رئيسيا للعنف.. ومن ثم بدأت مرحلة الاقتحام للساحة السياسية من لاعبين جدد, والتي ظلت دوما حكرا علي العائلة المالكة والمؤسسة الدينية.
(1) التيار الصحوي.. اتجاهات متنازعة:
برز هذا التيار كممثل للمعارضة الإسلامية في الثمانينيات من القرن الماضي, كتيار فكري سعودي من داخل المنظومة السلفية, وتمتد جذوره إلي ستينيات القرن العشرين, حين وفر النظام السعودي الملاذ لعدد كبير من الإخوان المسلمين من مصر وسوريا الذين لاحقتهم أنظمتهم, حيث كانت المملكة بحاجة إلي مهنيين مدربين خلال مرحلة التحديث الذي دفعت إليه الوفرة النفطية, وقد اضطلعوا بدور رئيسيي في المملكة, لاسيما في مجال التعليم إلي الدرجة التي ضخم بها بعض المثقفين السعوديين من دور الإخوان المصريين والسوريين في المملكة في تسييس الإسلام السعودي.
تبني شباب الصحوة الإسلامية مزيجا من وجهات النظر الوهابية التقليدية( حول القضايا الاجتماعية بصورة رئيسية) والتوجهات الأحدث للإخوان المسلمين( خصوصا حول القضايا السياسية) وميزوا أنفسهم عن المؤسسة الوهابية باستعدادهم لبحث قضايا معاصرة جوهرية, وعدم الاقتصار علي النشاط العقائدي المجرد.
وكان الاستيلاء علي الحرم النبوي في مكة عام1979 من قبل الناشط جهيمان العتيبي بسبب السخط علي الفساد في العائلة المالكة, نقطة تحول في تطور الصحوة.فضلا عن أن حرب الخليج الثانية(1990-1991) قد أدت إلي المزيد من التسييس لجماعة الصحوة, فأخذوا يشجبون عدم التزام الدولة بالقيم الإسلامية وتفشي الفساد والتبعية للولايات المتحدة, وفي الوقت ذاته أدانوا رجال الدين التابعين للسلطة لصمتهم إزاء تلك الأمور, حيث تطرق برنامجها إلي هدفين رئيسيين وهما تنقية الوهابية من آثار التطويع السياسي, وتحقيق العدالة الاجتماعية حيث طالبت بتوزيع موارد الدولة بالتساوي, واتخاذ إجراءات لمكافحة الفساد. فقد عمدت الجماعة إلي مواجهة النظام, وهي المواجهة التي انتهت باعتقال رموز الصحوة السلفية وقد استخدمت السلطات السعودية في معركتها ضدها استراتيجية مزدوجة المسارات تقوم علي القمع والتفرقة, وأحيانا الاحتواء, لاسيما أنها عانت من خصومات داخلية.
عقب ذلك أخذت جماعة الصفوة تشارك في المناظرات العامة, واتخذت مواقف معارضة لكل من الليبراليين باعتبارهم مهتمين بتقويض المجتمع السعودي من خلال العلمانية, والمؤسسة الوهابية التي انتقدوا عدم اهتمامها بالقضايا المعاصرة وتأييدها غير المشروط لنظام الحكم.
لم يتمكن ناشطو الصحوة من تشكيل جبهة موحدة, فهم منذ البداية كانوا يمثلون تيارات مستترة متنوعة بعضها أقرب إلي الوهابية, وأخري أقرب إلي الأخوان المسلمين, وتفرع الموالون للأخيرة إلي' أتباع البنا' و'أتباع قطب', وتجذرت تلك الانقسامات علي نحو أوضح بشأن قضايا العلاقات من الليبراليين الإصلاحيين أو الشيعة أو الصوفية, والمواقف من تنظيم القاعدة, والإسلاميين الآخرين الذين يتبنون العنف.
(2) الحركة الإسلامية للإصلاح.. قصور تنظيري وتنظيمي:
نتج عن قرار الإسلاميين عام1993 بتأسيس' لجنة الدفاع عن الحقوق المشروعة' إتباع الدولة إجراءات صارمة بلغت أوجها عام1994 باعتقال وسجن معظم أعضائها, في حين فر اثنان منهم وهما' محمد المسعري' و'سعد الفقية' إلي لندن حيث أسسا فرعا للحركة في المنفي.
وقد شغلت حركة' الفقية' و'المسعري' النظام السياسي في المملكة لأكثر من عقد من الزمن, منذ خروجه من المملكة عام1993, إذ أن تأسيس' لجنة الدفاع' اعتبر بمثابة سابقة سياسية علي مستوي التيار السياسي السلفي في المملكة, من جهة علنية التأسيس, وتبني برنامج تغيير( مذكرة النصيحة) التي وقعها التيار الديني السلفي بمختلف فصائلة.
شكلت الحركة علي أنقاض( لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية) التي انفرط عقدها بين الداخل والخارج, ثم انشقت علي نفسها لخلافات بين الرجلين القادمين من المملكة, حيث أسس كل واحد منهما لنفسه إطارا من نوع ما يتواصل من خلاله مع أحداثها, فاختار' المسعري' المضي في الاسم القديم( لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية), في حين اختار' الفقية' لنفسه اسما جديدا هو( حركة الإصلاح).
تأسست الحركة الإسلامية للإصلاح في العام1996, واعتبرت نفسها علنا بديلا سياسيا عن تيار الصحوة, وقدمت في بداية نشأتها استجابة لعدد من التحديات والمشاكل التي تواجه المملكة, وأعادت إنتاج الخطاب السلفي ليتحول من خطاب غارق في التراث والتاريخ إلي خطاب واقعي يناقش القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية, ويقدم في إطار لغة معاصرة تستوعب المتغيرات الاجتماعية والثقافية وتتمكن من العبور إلي مختلف الشرائح, بما في ذلك الشرائح الأكثر حيوية ممثلة الشباب والمرأة والمثقفين والصحفيين.
بثت الحركة إذاعتها الخاصة' صوت الإصلاح' منذ ديسمبر2002 من لندن وقدمت برامج باللغة العربية تنتقد الحكومة السعودية, وحققت إنجازات في هذا السياق, منها نجاحها في جعل المئات يخرجون إلي المظاهرات, فضلا عن تمكنها من استقطاب العديد من الشخصيات للدخول في الميدان معها.
بيد أن حركة الإصلاح بزعامة الفقية لم تبن علي خبرة تراكمية سابقة, أو تنظير فكري جديد ينقض شرعية الدولة السعودية, بخلاف تنظيم القاعدة في المملكة الذي قدم- من خلال ما ينشر علي شبكة الإنترنت- تنظيرات دينية سلفية لكل أعماله, وليس مجرد شرعية الخروج علي الدولة السعودية, بل وشرعنه العنف اعتمادا علي تأصيلات دينية في التراث الحنبلي والتراث الوهابي خاصة. فالخطاب الفكري والسياسي لتنظيم القاعدة في المملكة واضح المعالم, أما حركة الإصلاح فإنها لم تبلور الخطاب السياسي أو الديني الخاص بها, بينما استندت إلي خطابات متعددة صنعها آخرون, لاسيما التراث الوهابي.
نتج عن ضعف الخطاب السياسي, وعدم القدرة علي بلورة البديل, أو تقديم رؤية ناضجة للوضع السعودي المحلي, أن أصبحت أطروحات الحركة التي تبثها' قناة الإصلاح' أقرب إلي الشعارات و التحريض علي النظام وإسقاط هيبته- دون تحديد الأسلوب الذي ستتبعه لإسقاط النظام- منها إلي الخطاب السياسي المتماسك.
بخلاف القصور الذي يشوب الحركة علي صعيد التنظير الديني والخطاب السياسي, فمن الناحية التنظيمية اتسمت الحركة منذ النشأة بغياب هذا البعد, والمعني به ذلك التنظيم علي الأرض الذي يستطيع أن يحول خطط وبرامج الحركة إلي واقع ينمو باتجاه تحقيق الأهداف. فضلا عن أن طبيعة النشأة الخارجية لها, واعتمادها علي القيادة الفردية أدي إلي عدم تمكنها من تأسيس شراكة أو تفاهم أو تنسيق مع القوي الأخري علي الساحة السعودية.
(3) التيار الجهادي.. العنف وسيلة التغيير:
تشكل التيار الجهادي من الإسلاميين الذين اختاروا أن يخوضوا غمار الدعوة السلفية الجهادية كمنادين ومتحدثين باسم هذه النزعة, واعتمد علي أفكار التيارات السلفية الجهادية, خاصة الأفكار التي تبناها تنظيم الجهاد المصري وجماعة التكفير والهجرة قبل تراجعاتها, فهم يرون أن النظام لا يطبق الشريعة, ويشنون هجمات قاسية علي علماء السعودية الرسمين وعلي التيارات السلفية التي تدعم النظام الحاكم.
يمكن تتبع نشوء الحركة الجهادية في المملكة منذ مشاركة آلاف من السعوديين في الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفيتي, والمساعدات اللوجستية والمالية التي وفرها لهم النظام في ذلك الوقت, فقد ذهب الجهاديون السعوديون إلي أفغانستان بأفكار سياسية متواضعة وأجندة محلية و أسس عقائدية بسيطة فيما يتعلق بمعارضة نظام الحكم السعودي, حيث كان خطابهم ونشاطهم يتشكل ويتوجه كليا بتأثير الساحة الدولية, وخلافا لنظرائهم في البلدان العربية, فقد كانوا أحرارا في السفر خارج بلادهم والعودة إليها في سنوات التسعينيات, ولذلك احتفظوا بقاعدة محلية ووضع أتاح لهم التأثير علي الشباب السعودي لدي عودتهم في سنوات التسعينيات وسنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين, حيث تفشت ثقافة جهادية دوليه في أوساط إسلامية سعودية عديدة مع انتهاء الحرب في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي, وحدثت حالات انجذاب لرافضين ومعارضين نحو أوساطهم ونشاطهم بوتيرة متزايدة منذ أوائل التسعينيات.
لم يهتم التيار بالشرعية الداخلية للنظام بقدر اهتمامه بمشاكل الأمة الإسلامية التي مثلت الشيوعية التحدي الأول لها في أفغانستان, ثم ما لبثت أن أصبحت الولايات المتحدة هي التحدي الرئيسي له, خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وظهور أفكار داخل القوي الحاكمة فيها تتحدث عن اعتبار الإسلام خطرا وتحديا, وأنه العدو البديل للشيوعية.
كان الجهاديون قد تأثروا بشدة بحرب الخليج, وأطلقوا عملية أصبحوا فيها أكثر نقدا للنظام السعودي وأكثر علانية في عدائهم للولايات المتحدة, وبدأ تحول التيار الجهادي إلي تنظيم يمارس عمليات داخل الأراضي السعودية مع عملية الرياض التي نفذت يوم13 نوفمبر1995 ضد مبني من ثلاثة طوابق يستخدم كمركز للتدريب العسكري, ويتولي خبراء أمريكيون تدريب الحرس السعودي فيه.
وقد أختار العديد من الجهاديين النفي الاختياري في أفغانستان التي كان بن لادن قد عاد إليها عام1996 لإنشاء معسكرات للتدريب, ولم يعودوا إلي المملكة إلا في أعقاب سقوط نظام طالبان في2001. وارتأوا في هجمات11 سبتمبر وما تلاها مبررا أكبر للغة تتوخي العنف ضد الغرب ولهجمات متجددة ضد أهداف غربية في المملكة.
نظر التيار الجهادي إلي حرب الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش ضد الإرهاب باعتبارها حربا صليبية ضد الإسلام, وهنا بدأت الهجمات مرة أخري في12 مايو2002 علي مجمعي الحمراء وغرناطه,ولم تتوقف الهجمات والمواجهات بين الشرطة والمجموعات الجهادية منذ ذلك الوقت.
وفي تحركاته وتفاعلاته استفاد التيار الجهادي من عاملين مهمين خلال السنوات القليلة الماضية, الأول تمثل في الفتاوي العديدة التي صدرت من بعض علماء المسلمين, وكانت تؤكد علي تحريم تأييد الولايات المتحدة ضد أي دولة إسلامية في إطار حملتها ضد' الإرهاب', فضلا عن أن بعض هذه الفتاوي أعلن تأييده للجهاد ضد الولايات المتحدة, وسلك نهج العنف والتطرف انتقاما لضرب المسلمين في أفغانستان والعراق, وثانيا استفاد هذه التيار من حالة الاستقطاب الداخلي في المملكة بين تياري الليبراليين والإسلاميين, وقد استغل التيار الجهادي هذه الحالة من الاستقطاب الفكري, وبدأ يروج لخطابه ونجح في استقطاب عدد من السعوديين الذين يؤمنون بفكره, وهو ما أدي إلي انتشار الفكر الجهادي بين قطاع واسع من الشباب في المملكة.
ومؤخرا غير التيار الجهادي من استراتيجيته التي كانت تقوم علي استهداف العدو الخارجي لتشمل بعض المنشآت المهمة في الداخل, متأثرا في ذلك بفكر تنظيم القاعدة, وطبيعة الأهداف التي كثيرا ما وردت في رسائل' بن لادن' و'أيمن الظواهري' وتدعو إلي استهداف المنشآت النفطية والوجود العسكري الأجنبي سواء في داخل المملكة أو خارجها, فضلا عن استهداف القواعد العسكرية الأمريكية الموجودة فيها.
وفي المجمل العام فيما يخص هذا التيار, فإنه يفتقر إلي رؤية واضحة للصورة الكلية للأوضاع المعقدة التي تواجهها بلاده, ودراسة للأبعاد المختلفة للأمور وعواقبها, كما يفتقد إلي مشروع إصلاحي سياسي شامل يمكنه أن يحقق التغيير بعيدا عن المواجهات الدامية, حيث يستلهم بالأساس تقاليد المواجهة المسلحة ويراها ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها في تعاطيه مع نظامه السياسي باعتباره مفتقدا للشرعية.
(4) الإسلاميون الشيعة.. التحرك من منطلق وطني:
لا تتوافر إحصاءات دقيقة حول عدد الشيعة في المملكة, وتتراوح التقديرات بشأن أعدادهم ما بين10%-15% من مجموع السكان, حيث يتركزون في المنطقة الشرقية التي تتواجد فيها معظم موارد النفط.
عاني الشيعة منذ دمج المنطقة الشرقية في الدولة السعودية من مظاهر التهميش والتمييز والقمع الديني والسياسي والاجتماعي التي تجلت صورها في عدم السماح لهم بممارسة طقوسهم الدينية بحرية, ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية, فثمة مظالم قد لحقت بهم في المملكة كأقلية دينية, وأعاقتهم عن الحصول علي حجم مناسب من ثمار التنمية في المناطق التي يعيشون فيها, كما حرمتهم من الانضمام إلي المؤسسات السيادية في الدولة كالجيش والخارجية والداخلية, وفرضت عليهم التعلم بمناهج دينية تختلف مع معتقداتهم, بل و تقوم علي تكفيرهم ووصفهم بالرافضة, حيث يعتبرهم الوهابيون بكل صراحة ووضوح جماعة لا تنتمي إلي صفوف المؤمنين.
أنخرط الشيعة بفاعلية في التنظيمات والحركات السياسية السرية التي شهدتها المملكة مبكرا, وكانت معروفة وموجودة علي الصعيد العربي كالقوميين والبعثيين والشيوعيين, وفي عام1969 جري اعتقال المئات من مختلف مناطق المملكة( شكل الشيعة حوالي نصفهم) بحجه اكتشاف مؤامرة لقلب نظام الحكم.
والوقع أنه لم يكن للشيعة في تحركاتهم أي توجهات طائفية أو فئوية أو تقسيميه, بل كانوا منخرطين بقوة في النشاط السياسي والمطالب العامة إلي جانب غيرهم من الناشطين من بقية المناطق, من منطلقات وطنية وقومية سادت آنذاك, أما الاستثناء الوحيد للتحرك المطلبي الخاص بالشيعة فقد جسدته أحداث نوفمبر1979 وما أعقبها, ففي خلال سنوات السبعينيات مع قيام الثورة الإيرانية عام1979, وبدافع من غضبهم علي وضعهم السياسي والاجتماعي, والحماس الذي أوجدته تلك الثورة, قام الآلاف من الشيعة بالاحتفال بذكري عاشوراء رغم الحظر الرسمي, وردت الحكومة علي ذلك بعنف مما أدي إلي مواجهات عدة سحقتها فيها قوات الحرس الوطني بقسوة, ولم يبق في المملكة سوي قليل من الناشطين الشيعة الذين قمعهم النظام. وتجدر الإشارة إلي أن الأحداث كانت قد اندلعت أيضا في البداية كمسيرات احتجاجية قوية ضد سياسة التمييز والتفرقة الطائفية, وسرعان ما تحولت إلي صدامات عنيفة, أسفرت عن سقوط العشرات من القتلي والجرحي, ثم جري اعتقال المئات منهم لاحقا.
كانت حركة طلائع الرساليين قد أنشئت عام1968 وانبثق عنها منظمة الثورة الإسلامية عام1975, ويبدو أنها كانت جزءا من حركة شيعية إقليمية تضم الجبهة الإسلامية في البحرين, ومنظمة العمل الإسلامي في العراق. وعقب حرب الخليج الثانية اتخذت الحركة طابعا إصلاحيا, وتخلت عن طابعها الثوري السابق, وغيرت الاسم إلي' الحركة الإصلاحية' وأعلنت الحركة عن نفسها كحركة وطنية سعودية ذات مطالب متعلقة بالمملكة والمواطنين الشيعة السعوديين, كان يقودها مجموعة من المثقفين الشيعة السعوديين من المقيمين في بريطانيا والولايات المتحدة, وأعلن الشيخ' حسن الصفار' مرشدا سياسيا للحركة, وكان يقيم في دمشق.
نفذت الحركة نشاطا إعلاميا مكثفا في لندن وواشنطن وأعلنت الحركة الإصلاحية الشيعية عن عشرة مطالب قائمة علي الاعتراف بالمذهب الشيعي واحترامه, وحق الشيعة في ممارسة عباداتهم وشعائرهم حسب مذهبهم, والسماح لهم ببناء مساجدهم الخاصة والتعليم الديني في مناطقهم حسب المذهب الشيعي, والسماح لهم بطباعة كتبهم,وإنشاء الحوزات والمدارس الدينية, والدفاع عن آرائهم ومعتقداتهم الشيعية, وتشكيل محاكم شيعية, ومساواتهم في الوظائف والفرص, والاهتمام التنموي بمناطقهم.
وقد جرت مفاوضات بين وفد من قادة الحركة الإصلاحية الشيعية والحكومة السعودية في عام1991 أسفرت عن إطلاق سراح40 معتقلا سياسيا شيعيا, وإصدار جوازات سفر للذين يرغبون في العودة إلي البلاد, وفي المقابل أوقفت الحركة الإصلاحية جميع أنشطتها الإعلامية في الخارج, وتوصلت الحكومة إلي اتفاقية مع الناشطين المنفيين عاد علي أثرها الكثير منهم, وتوخوا حتي عهد قريب البقاء في الظل نسبيا.
بيد أن المسألة الشيعية قد بدأت تبرز مجددا, وعلي نحو أكثر وضوحا في المملكة عقب الاحتلال الأمريكي للعراق, حيث أخذت تتداخل مع التحولات الإقليمية والعالمية التي تقع المملكة في مركزها, أي أن مستجدات البيئة الإقليمية قد أضفت علي المسألة الشيعية في السعودية أبعادا جديدة, وهو ما ظهر لاحقا في مشاركة رموز شيعية في كتابة وثائق تنادي بالإصلاح في المملكة, وتعبر عن مطالبهم. وهي المطالب التي بلورتها بصورة مباشرة وثيقة' شركاء في الوطن', و تركزت حول التأكيد علي ارتباطهم وانتمائهم النهائي للوطن المشترك, وتقاطع مطالبهم واندماجها مع المطالب والتطلعات الوطنية المتقاطعة في ضرورة الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي, وإشاعة ثقافة التسامح والقبول بالآخر, الأمر الذي يستدعي بالضرورة إقامة دولة القانون والمؤسسات, التي تضع حدا لكل التجاوزات ومظاهر الفساد المالي والإداري, والتأكيد علي الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية- المنتخبة وليست المعينة- والقضائية, وإطلاق وتطوير خطاب ديني وإعلامي وثقافي متنور يحترم ويتقبل التعددية السياسية والاجتماعية والثقافية والمذهبية.
يتخذ الإسلاميون الشيعة في تحريك مطالبهم منهجا ذا مسارين, فهم من ناحية يعبرون بين الفينة والأخري عن مظالم طائفتهم, ومن ناحية أخري يبذلون ما في وسعهم لتأكيد ولائهم للوطن ورفضهم لأي تحالف مع قوة خارجية- في محاولة لتبديد قلق واضح لدي النظام- وتصميهم علي عدم استغلال الوضع في العراق, والتأكيد علي الانتماء الشيعي للدولة السعودية, وأن غايتهم النهائية تكمن في تحقيق هدف الاندماج مع الدولة والمجتمع.
(5) التيار الليبرالي.. الارتباك في التعريف بالذات الليبرالية:
يعد أكثر المنتمين إلي التيار الليبرالي في المملكة من الدارسين في الغرب أو طبقة المثقفين, إذ يمثل هذا التيار اتجاها نخبويا ثقافيا تشكل بعد فترات الابتعاث إلي الخارج, ومرحلة الانفتاح علي الثقافات الأخري, وارتكز علي تبيئة القيم الليبرالية في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة بمعادلة تركيبية مع الخصوصية المحلية, علي نحو ما شهدته التجارب السياسية لبعض الدول المجاورة في الخليج.
لم تكن الساحة الثقافية السعودية مقطوعة الصلة بالاتجاهات الفكرية الحديثة بحكم ارتباطها بمصر والشام( سوريا ولبنان), بيد أن التيار الليبرالي التحديثي السعودي قد سلك منذ تبلوره المسلك الأدبي والنقدي, ولم يعن في الغالب بالإشكالات الفكرية المجتمعية التي شغلت الاتجاهات التحديثية العربية, ولذا لم يتجاوز حضور الليبراليين السعوديين في البداية حيز النوادي الأدبية التي تعكس حالة ثقافية حية ونشطة, لكن لاتصل إلي الفضاءات المؤسسية الأخري.
والواقع أن ما يمكن أن يطلق عليه حركة الحداثة في السعودية قد بدأ متأخرا في السبعينيات, ولم يأخذ شكله المكتمل إلا في الثمانينيات, فضلا عن أن التعقيدات التي تحيط بهذا التيار في المنطقة العربية برمتها, بدت في المملكة أكثر حدة, باعتبار أن الوضع الثقافي الخاص بهذه البلاد التي اضطلعت فيه المؤسسة الدينية منذ قيامها بدور محوري معروف, قد أفضي إلي تشكل حالة فكرية تهيمن عليها الثقافة التراثية.
في بداية التسعينيات من القرن الماضي, بدأ التيار الليبرالي يعبر عن مطالبة عبر عريضة وقع عليها العشرات تطالب بعدد من المطالب الإصلاحية, وفي مقدمتها ما يتعلق بالدستور ومجلس الشوري, وبدأ الليبراليون يبرزون علي نحو أوضح ويتخلون عن دور المتفرج أو المراقب للأحداث في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001, حيث اعتبرت المرحلة التي تلت تلك الأحداث بمثابة مرحلة تبلور للتيار وخروجه من شرنقته, وبداية التماس لقضايا الأفراد الحياتية بعيدا عن الأبراج العاجية.
تركز الأجندة الليبرالية علي استجلاب قيم جديدة في المجتمع السعودي كالحريات والمجتمع المدني وحقوق الإنسان, ودمج المرأة في عملية التنمية, وتغيير مناهج التعليم, بيد أن طبيعة المجتمع السعودي, والخلفية الاجتماعية المتدينة والمحافظة لمعظم الليبراليين قد ألجأت الكثيرين منهم إلي التأكيد علي تمسكهم بالإسلام, والشرعية الدينية للحكومة, وإرجاع مطالبهم في الوثائق الجماعية التي بلوروها إلي الكتاب والسنة, وتحول رهان غالبيتهم علي الإسلام المستنير أو الإسلام الإصلاحي الذين يرتأون أنه ليست لديه مشكلة مع حرية التعبير وحق الاختلاف, أو الحقوق الكاملة للمرأه, أو الإصلاحات السياسية, كما أنه الأقدر علي نقد الفكر الديني المتطرف, وتفكيك الخطاب الجهادي التكفيري, ودعوته إلي فتح المجال لإعادة تفسير النص الديني والأخذ بأكثر الاجتهادات الفقهية تسامحا بما يتوافق مع الواقع.
جعل هذا المنحي الأخير الكثير ممن ينتمون إلي النخبة الثقافية في المملكة وخارجها يشككون في التيار الليبرالي, ويرجعون ذلك إلي أن الليبرالي السعودي يجد نفسه في غربة واستضعاف يكتفي معها للتلميح بدلا من التصريح, وبتطويع المشاريع ومصطلحاتها للدين, وهو ما يعني من وجهة نظرهم أن وصف الليبراليين في المملكة بالتيار هو من قبيل المجاز لا الحقيقة, وأن المصطلح الأفصح عن حقيقة الوجود الليبرالي السعودي هو( النخبة) لا التيار.. باعتباره إطارا نخبويا مفتقرا إلي قاعدة جماهيرية تمثله علي المستوي الشعبي, فضلا عن أنه مشلول نسبيا( عن الحركة) إلا علي المستوي الإعلامي بشكل موسع, والأكاديمي بشكل محدود.. وأخذ التساؤل يفرض نفسه, هل هناك تيار ليبرالي حقيقي في المملكة, ذلك أن بعض أطياف النخب الثقافية في المملكة يرتأون بأهمية التفرقة كذلك بين الليبرالي الحقيقي ومدعي الليبرالية, لأنه عند التدقيق في فكر وسلوك البعض منهم, يتضح أنهم أبعد ما يكونوا عن ذلك الوصف, وأن هناك من لجأ لليبرالية فقط لأنه تصادم مع متطرفين امتطوا الإسلام, وهو بدوره امتطي الليبرالية من أجل معارضتهم أو التبرؤ منهم, ومن هنا يتأتي التشكيك في هذا التيار إذ يرتأي قطاع من المثقفين والناشطين, أن معظم من ينتمون إلي ذلك التيار هم حسب أطروحاتهم المعلنة منضوون تحت إطار الإسلام التحديثي المحافظ, خلافا لما يتصورونه عن أنفسهم أو ما يحبون أن يتظاهروا به أمام الصحافة ووسائل الإعلام الأجنبية.
يبقي التيار الليبرالي في المملكة ذا تأثير محدود وحضور يكاد يكون هامشيا في المجتمع السعودي لأسباب عدة منها قلة عدد المؤمنين به علي المستوي الشعبي, ويزيد من هامشيته فوقية الخطاب الذي يتبناه واستخدامه للغة غير مفهومة لدي الكثير من العامة. فضلا عن القيود المحاط بها من قبل الدولة من جهة, والتيار السلفي من جهة ثانية لاسيما في قضايا المال والاقتصاد والسياسة وقضايا حرية الفكر والتعبير والمرأة.
فالحداثة النسبية لنشوء التيار, وبالأحري حداثة التبلور الصريح له, تجعل الأفكار والرؤي مازالت تتشكل وتختلط في إطاره, والمتتبع لوضع التيار الليبرالي في المملكة يجد أنه يعيش حالة انحصار واضح لا يستطيع معها الإعلان عن ذاته الليبرالية, وهو ما يجعله مستمسكا بأي شعرة فقهية لإضفاء الشرعية الدينية علي أجندته في مجتمع لا يصغي لمن يعرف بتمرده علي الثوابت الدينية.
(6) التيار الإصلاحي: الليبرالي الإسلامي.. الإسلامي الليبرالي:
بدأ عدد من الناشطين والمفكرين الإسلاميين منذ عام1998 بإعادة صياغة دعوتهم الهادفة إلي الإصلاح السياسي بنمط إسلامي ديمقراطي, موجهين في الوقت ذاته انتقادات للمفاهيم الوهابية, ومشددين علي ضرورة التلازم بين الإصلاح السياسي والديني, وأخذوا يطورون نظرية إسلامية أكثر تقدمية تقوم علي أساس المجتمع المدني, والمشاركة الشعبية والديمقراطية في سياق الشريعة الإسلامية, وحثوا علي إدخال إصلاحات دينية لتخفيف بعض المتطلبات الشرعية الوهابية الأكثر تشددا, وإفساح المجال للاجتهاد مع غموض النص, كما أنهم أيدوا الإصلاح الاجتماعي, مع بعض التحفظ في عدد من القضايا لاسيما ما تعلق منها بالمرأة. وقد شكل هؤلاء المصلحون السياسيون الإسلاميون, بالاشتراك مع الليبراليين والشيعة تحالفا وسطيا متنوعا عام2002. ومن زاوية أخري كان التحالف مع الإسلاميين التقدميين أساسيا من وجهة نظر بعض الليبراليين لتجاوز إسار الجمود المسيطر عليهم دوما, وتوفير المؤهلين من الإسلاميين الذين يفتقرون إليهم, طالما أن الجميع سينصهر في بوتقة الإسلاميين الوطنيين.
اتسم التيار بالتنوع في خلفيات مناصريه, والتعدد في المسميات التي تطلق عليهم أو يطلقونها علي أنفسهم( كوسطيين) أو( تنويريين) أو( عقلانيين), والبعض يطلق عليهم الإسلاميين الليبراليين أو الليبراليين الإسلاميين, غير أنهم جميعا يشتركون في كونهم إصلاحيين, يؤلف بينهم العمل الإصلاحي والاعتدال النسبي, فهم:
1- يمثلون نخبة من الأطياف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ذات التطلعات الليبرالية المعاصرة, وتلقي معظمهم تعليما أكاديميا معاصرا سواء داخل المملكة أو خارجها, وكتب في الصحافة السعودية كتابات تنم عن تبني نظم الحداثة والليبرالية في الثقافة والاجتماع والاقتصاد والسياسة.
2- يطالب خطابهم بالبدء في عملية الإصلاح الجذري الشامل لكافة المؤسسات السعودية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
3- يؤمنون بوجوب وضع دستور للبلاد, وإقامة مؤسسات دستورية.
4- يرون أن إصلاح البيت السعودي يجب أن يتم من الداخل, وترميم البيت الداخلي دون هدمه, أو بناء بيت جديد.
5- يعارضون الخطاب السلفي والتكفيري.
6- تركز في خطابها علي ثوابت رئيسية وهي: تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات, وتدعيم القضاء, واحترام حقوق الإنسان, وتشريع عمل مؤسسات المجتمع المدني, والعمل علي تطوير خطاب ديني وإعلامي وثقافي وتعليمي, يرفض الأحادية والتكفير والادعاء بامتلاك واحتكار الحقيقة, ويسهم في تطوير مناخ التعددية, وإتاحة البدائل لترسيخ قيم وثقافة التسامح, والقبول بالآخر المختلف, وتمكين المرأة من أداء وظائفها في المجال العام.
كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 وما أفرزته من مستجدات علي المناخ السياسي في المملكة المحفز الرئيسي لهذا التيار للتعبير عن آرائه علي نحو رسمي وأكثر جرأة لتتحول بذلك من آراء غير رسمية تطرح في الديوانيات الخاصة ومنتديات الانترنت والمقالات الصحفية إلي بيانات وعرائض تقدموا بها لولي العهد. فقد جري عقب أحداث2001, التي ورد ضلوع عدد من المقاتلين السعوديين فيها, جدل داخلي علي نطاق واسع في المملكة, وابتدأ لوبي إصلاح غير رسمي من الليبراليين والإسلاميين التقدميين والقوميين والشيعة بالضغط من أجل التغيير والمطالبة بمزيد من الإصلاحات وبفتح المجال لإعمال حقوق الإنسان, طارحين بديلا يرفض العنف وينسجم مع الإسلام الأصيل.
العرائض.. كآلية للإصلاح: انتهج التيار الإصلاحي في تحركاته أسلوبا يعتمد بالأساس علي البيانات والعرائض الموجهة إلي رموز السلطة, وكانت البداية بعريضة رفعت إلي السلطة منطلقين فيها من الدعوة إلي تحول سياسي تدريجي في إطار الإسلام والحكم الملكي, ثم شهد العام2003 توجيه أكثر من عريضة إلي رموز الحكم, تصف رزمة من الإصلاحات تشمل إقامة ملكية دستورية, وإعمال حكم القانون, وبرلمانا منتخبا, ومجتمعا مدنيا فعالا, واحترام حقوق الإنسان, وإنهاء التمييز لاسيما ضد الشيعة, والمطالبة إجمالا بإصلاح حقيقي يشمل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وقد ولدت آلية العرائض إذا ما اعتبرناها آلية عقب مخاض عسير, إذ أن مجرد الحديث عن مضمون ما ورد بها كان يعد بمثابة تطرف وبعد عن الواقعية, فجاءت وثيقة( الرؤية) لتبلور المبادئ الأساسية لعملية الإصلاح, تلا ذلك عرائض أخري من أهمها( شركاء في الوطن) و(الوطن للجميع), و(دفاعا عن الوطن),( علي أي أساس نتعايش), وعريضة( الملكية الدستورية). وشكل الموقعون علي العرائض كوكبة من الكتاب والشعراء والمحامين والأطباء والتربويين والأكاديميين والموظفين ورجال الأعمال, ممن يمثلون أطيافا سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية متباينة.
نجح التيار الإصلاحي من خلال تلك العرائض في تحقيق عدد من الإنجازات أهمها تحقيق قدر من التقارب بين مختلف روافد التيار الإصلاحي. ونشر مفردات ثقافة المشاركة السياسية مثل( الانتخابات, والتعددية, وحرية الرأي, وحقوق الإنسان).
وقد أظهر النظام بعض الانفتاح استجابة لمطالب ذلك التيار, أسفرت عن انتهاج عدد من الخطوات الإصلاحية التمهيدية باتجاه الإصلاح السياسي والديني منذ العام2003 يأتي في مقدمتها تدشين مركز استضافة مؤتمرات حوار وطني لمناقشة الإصلاحات الضرورية ودعم حرية التعبير, وتعزيز مجلس الشوري ومنحه بعض الصلاحيات الرقابية علي الحكومة, وإنشاء لجنة لحقوق الإنسان, وتنظيم انتخابات جزئية لأعضاء المجالس البلدية, والتدشين لعدد من منظمات المجتمع المدني حيث وافقت الحكومة السعودية علي إنشاء منظمتين تعنيان بحقوق الإنسان, وعمدت إلي مأسسة الجمعيات المهنية وسمحت بمشاركة المرأة تصويتا وترشحا في بعض من انتخابات مجالس هذه الجمعيات, حيث سمح بإنشاء أول جمعية مهنية للصحافيين في المملكة في يونيو2004, فضلا عن البدء في خطوات لإصلاح القطاع التربوي بإلغاء الأفكار المتطرفة من المناهج التعليمية, وإرساء توازن بين الموضوعات الدينية وغير الدينية.
أسفرت مجمل المعطيات وما تمخضت عنه من نتائج فيما يتعلق بالتيار الإصلاحي بشقيه الليبرالي والإسلامي عن قناعة تبلورت لدي قطاع واسع من المثقفين بالنظر إليه باعتباره الوحيد الذي يمكنه تقديم الخطاب المطلوب في مواجهة الأزمة الراهنة في المملكة برمتها, وأن ما بلورته عرائضه من مطالب يمكن أن تكون دعامة من دعامات الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي فيها.
يقول واقع الحال بأن التيار الإصلاحي في التسعينيات قد مثل حالة متقدمة في الساحة السعودية, واستطاع رموزه إحداث اختراق سياسي كبير في حالة الركود التي يعانيها المجتمع السعودي, وإن كان قد اعتقل معظهم, غير أن المحصلة كانت اكتسابه زخما علي الساحة الشعبية. غير أنه منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم يستطع التيار الإصلاحي تقديم رؤية موضوعية عميقة للأزمة السعودية, وتوقف خطابه عند حدود الخطاب المطلبي العام, ونبذ العنف والدعوة إلي التهدئة. فضلا عن أن أن هذا الخطاب في تناوله للعنف يقف عند حدود المقولات التقليدية عن دور الوهابية والأحكام الشرعية والتعليم الديني في غرس مفاهيم التكفير والحض علي العنف بطريق غير مباشر.
من ناحية أخري, لم يؤسس التيار الإصلاحي حتي الآن منهجا موحدا وتيارا منظما, ومازال يتحرك كتكلات فردية قد تتفق في المبادئ العامة, غير أنها تختلف بصورة واضحة في الأفكار الحركية والمرحلية, فهي ليست حركات معارضة منظمة, مما يجعلها لا تعدو أن تكون أبعد من تحقيق اتفاقية مؤقتة ومحددة بين قوي سياسية تتبني أهدافا قد لا تتشابه في بعض الأحيان.
من أهم الانتقادات التي توجه إلي التيار الإصلاحي كذلك, هو ما يرتبط بالآليات التي ينتهجها, حيث يتهم بالقصور في تطوير آلياته, والتي تكاد تقتصر علي العرائض, وكأن أساليب النضال من أجل الإصلاح والتغيير تقتصر عليها دون غيرها, مما يثير التساؤل حول أساليب وأدوات أخري قادرة علي أخذ زمام المبادرة, وأهمها المطالبة بتدشين مؤسسات المجتمع المدني, وفرضها علي أرض الواقع, وهي متطلبات يفترض أن تبادر بها هذه النخب, باعتبار أن العرائض والبيانات ليست هدفا في ذاتها بقدر ما هي وسيلة لتحقيق الإصلاح. ناهيك عما وجه إلي تلك العرائض من انتقادات فيما يتصل بطابعها النخبوي أو الفوقي, فعلي الرغم من أن ما تطرحه من مطالب وحقوق يمس مختلف طبقات وشرائح المجتمع السعودي, غير أن موقعيها لا يزالوا نخبة صغيرة.
(7) التيار الإصلاحي.. رهان التغيير وتحدياته:
يقودنا الاستعراض السابق إلي استخلاص أولي مفاده أن مختلف التيارات الكائنة حاليا علي الساحة السياسية في المملكة لم تكتمل لديها بعد معالم النضج السياسي الذي يؤهلها لأن تنافس الفاعلين الرئيسيين في المجتمع السعودي.. بل أن بعضها قد يطلق عليه مصطلح التيار- بكل ما يعني من مقومات فكرية وتنظيمية- مجازا.
ومع مختلف الانتقادات التي توجه إليه, وأوجه القصور التي تعتريه, يبقي الرهان قائما علي ذلك التيار الأخير, أي التيار الإصلاحي الذي يمتد ليشمل أفرادا وتجمعات وتوجهات مختلفة, فهو تيار مختلط الأمشاج تتداخل فيه الرؤي والأفكار, أستطاع حشد تجمع عددي عريض من الشرائح الفكرية والدينية المتباينة التي تنضوي تحت إطار التجديد والتنوير والعصرنة واللبرلة, ويهدف إلي تدشين حركة إصلاحية وحدوية تسعي إلي حل وسط بين الديمقراطية والإسلام, وتؤمن بأن الإصلاح السياسي لا ينفصل عن الديني. وعلي الرغم من ذلك فإن معطيات الواقع السياسي في المملكة تشي بأن هذا التيار وتفاعلاته, وما سوف تفرزه لا تعني إمكان نجاحه في التدشين لمشارف حقبة ما بعد الوهابية في المملكة.. علي الأقل في الأمد القريب.
فثمة علاقة بين سرعة الإصلاحات المطبقة في المملكة ومداها, وطبيعة العلاقة بين العائلة المالكة والمؤسسة الدينية, وهي علاقة من الواضح أن عراها لا تنفصم بالسهولة المتوقعة, وإن كان من المجحف انتفاء نسبة أي دور للتيار الإصلاحي فيما شهدته المملكة من إجراءات إصلاحية مؤخرا- بغض النظر عن تقييمها- فقد لعب دورا مهما في التعبئة الداخلية للإسراع بإفرازها, فضلا عن أن ظهوره وجرأه المطالب التي بلورها يعد في ذاته حدثا علي ساحة المملكة, غير أن المحفزات الرئيسية لاتخاذ هذه الخطوات الإصلاحية كانت تقع خارج نطاق تحكمه.
حين ووجهت العائلة المالكة بتداعيات الحادي عشر من سبتمبر, وظهر أن الفكر السلفي بقراءته الوهابية قد أصبح عبئا علي كاهل الدولة, وأصبحت المؤسسة الدينية سببا لاستعداء الخارج سياسيا ودينيا علي المملكة وشعبها, أرخت العائلة المالكة حبل النقد للتيار الديني, وأفسحت المجال للتيارات الأخري, وتجلي ذلك في ردة الفعل الأولية تجاه العرائض التي بلوروها حيث اتسمت حينذاك بالإيجابية بشكل عام, ورمت من وراء ذلك بلوغ عده أهداف, أولها امتصاص الضغوط الخارجية وإقناع الولايات المتحدة بأنها جادة في مواجهة( مفرخة) الإرهاب, وفي الوقت ذاته التنفيس عن الشارع السعودي الذي تواترت مطالبه المنادية بالإصلاح, فضلا عن إرسال إشارة إلي التيار الوهابي بأن لديها بدائل شعبية يمكن الاستناد إليها حال خروج التيار عن خط التحالف التقليدي واستخدام قواه باتجاه مضاد للعائلة المالكة وذلك بغية تطويعه لا إقصائه. وحين أطمأنت إلي تدجين التيار السلفي, عمدت إلي ملاحقة من ينتمون إلي التيار الإصلاحي بإجراءات تعددت صورها.
فالأسرة المالكة الحاكمة تحرص علي الحفاظ علي شرعيتها الدينية التي لا يمكن أن يوفرها لها سوي علماء الدين الوهابيين, و لن تفرط بالتحالف المعقود بينها وبينهم, فضلا عن أن أي طرح إصلاحي هو في المقام الأول يمثل تهديدا لموقعها ونفوذها وسيطرتها علي الحكم والموارد الاقتصادية. إذن تبدو العلاقة بين الطرفين غير قابلة للتأثر بسهولة, ويرتب ذلك نتيجة منطقية مفادها محدودية الهامش الذي يمكن أن يتحرك التيار الإصلاحي في سياقه, فماذا به فاعل؟
لاشك أن ثمة تحديات جمة يفرضها السياق الذي يعمل التيار الأخير فيه, وفي مقدمتها رفض التيار السلفي منذ البداية للخطاب الذي يطرحه التيار الإصلاحي, وإعلانه التمايز والاختلاف عنه, وتطور الأمر فيما بعد ليصبح بمثابة الحرب الباردة الفكرية بين الاثنين, من خلال المؤسسات والأدوات الإعلامية لكليهما. فالتيار السلفي أو( السلفيون) في المملكة وإن كانوا( أقلية عددية) غير أنهم يمثلون( أكثرية سياسية وثقافية) اكتسبت بالتحالف مع الدولة منذ تأسيسها, ولايمكن إنكار حقيقة استنادهم إلي قاعدة شعبية عريضة في المملكة كمجتمع تتجذر الثقافة الإسلامية في أعماقه, وفي المقابل يتكئ التيار الإصلاحي الليبرالي علي قاعدة نخبوية في المقام الأول قوامها شرائح المثقفين والمفكرين والأكاديميين وخريجي الجامعات الغربية.
وهناك مواجهات السلطة الدائبة ضد الناشطين الإصلاحيين متخذة أشكالا عده بدءا من منعهم من السفر, وانتهاك حقوقهم, مرورا بإبلاغ رسائل تهديد بالعقاب حال ظهورهم علي شاشات القنوات الفضائية المصنفة في خانة الخصوم والأعداء كقناة الجزيرة وصولا إلي الاعتقالات, واتهامهم بالتورط في أعمال إرهابية. ناهيك عن القيود القانونية المفروضة علي تأسيس منظمات المجتمع المدني التي يمكنهم التحرك من خلالها.
بيد أن الزخم الحالي الذي يحيط بالتيار الإصلاحي والآمال التي تتعلق به كفاعل يمكنه أن يضطلع بدور محوري في مستقبل الإصلاح في المملكة, يفرض عليه تعزيز قدرت
|