هذا الكتاب احببته; قرأته قبل سنة تقريباً
الحرب حقيقتها وآثارها لكرس هدجز
يقظان التقي
الكتاب : الحرب حقيقتها وآثارها
المؤلف : كرِس هدجز
الناشر : "الحوار الثقافي "، بيروت 2005
![[صورة: b48ea0a387.jpg]](http://www.m5zn.com/uploads/b48ea0a387.jpg)
"الحرب حقيقتها وآثارها"، كتاب كرس هدجز، صدر في ترجمة عربية لأيمن الارمنازي عن "دار الحوار الثقافي "، بيروت. الكتاب عن الحرب، التي لا يرى نهايتها سوى الموتى ، كما يقول أفلاطون، يروي فصولها مراسل من ارض الموت والمعارك، وصورة من عالم عقد العزم على تدمير نفسه بنفسه، عالم يموت فيه الناس عشوائياً.
الكاتب متخصص في تغطية الحروب بعد السلفادور، غواتيمالا، ونيكارغوا، وكولومبيا، والضفة الغربية، والسودان، واليمن، والبنجاب، ورومانيا، وليبيا وايران والعراق، حيث شاهد الكثير من الموت والعنف وذاق طعم والهلع اكثر مما ينبغي.
فلسفة الكتاب هي ان الحرب تولّد ثقافة تشوه الذاكرة وتفسد اللغة ، وتصيب كل شيء تلامسه، وتطال حتى الفكاهات، التي تصبح روايات مريضة تدور حول الموت والاحداث القذرة، وتتعمد اللجوء الى وسائل دونكيشوتية.
يخشى هدجز ان تتحول الديمقراطية الاميركية الى ديمقراطية مشوهة وملتوية اذا واصلت اميركا الحرب على الارهاب بكافة الوسائل المشروعة و(غير المشروعة ) ضد اعداء وهميين او حقيقيين، واذا كانت الحرب واجواؤها عاملاً للحياة ومعنى لدى البعض، فإنها لدى البعض تولد القتل والقسوة ايضاً. (بالعودة الى رواية جورج اورويل ( 1984 )، عن ضرورة الحرب المستمرة ضد الطرف الآخر، لأن ذلك يؤدي الى تضامن الطبقة العاملة في المجتمع). اذ ان الحرب تكشف القناع عن جانب من الطبيعة البشرية غالباً ما يبقى مستتراً بفعل القيود الاجتماعية التي تربط افراد المجتمع بعضهم ببعض. و"تدفعنا تقاليدنا الاجتماعية والمجاملات الزائفة إلي تدمير أنفسنا. إنا ايضاً نرتدي أحزمة متفجرة. فهل اصبحنا نؤمن بالهجمات الانتحارية " ؟
يلقي هدجز نظرة على التسعينات من القرن الأخير : مليونا قتيل في افغانستان، 1.5 مليون قتيل في السودان، 800 الف قتيل خلال تسعين يوماً في رواندا، نصف مليون في انغولا، ربع مليون في البوسنة، 200 الف قتيل في غواتيمالا، 150 الف قتيل في ليبيريا، ربع مليون في بوروندي، 75 الفاً في الجزائر، وعشرات الألوف من القتلى الذين لا يمكن حصرهم في الصراعات الحدودية بين اثيوبيا واريتريا، اضف الى ذلك القتال الدائم في كولومبيا والصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني. ناهيك عن اولئك الذين لقوا حتفهم في الشيشان وسريلانكا وجنوب شرق تركيا وسيراليون وايرلندا الشمالية وكوسوفو، واخيراً حرب الخليج التي قتل فيها نحو 35 الف مواطن عراقي. ولم يقلّ عدد الذين قتلوا في الحروب التي دارت رحاها على امتداد القرن العشرين عن 62 مليون مدني ونحو 42 مليون عسكري.
إن الحروب الاهلّية والتعصب الايديولوجي والقمع الدموي ليست الا جزءاً من الحالة العامة للمجتمع البشري، ولم ينج منها الا اقلية من الناس.
لا يمثل الكتاب دعوة لعدم تحرك المجتمعات، وانما دعوة للتوبة ! "سبب الحروب ليس انها صراع بين ثقافات او حضارات، وليست ناتجة عن احقاد قومية قديمة، انها حروب مصطنعة مهد لها انهيار المجتمعات المدينية، وغذاها الخوف والجشع وعقدة الاضطهاد، ومن يقف خلف تلك الحروب رجال عصابات، ارتقوا من الحضيض في مجتمعاتهم، وشرعوا بإرهاب الناس كافة، وشتان مثلاً وعلى سبيل المقاربة بين المجتمع اليوغوسلافي ايام تيتو، وكان يحسب ليوغوسلافيا حينها الف حساب في الوسط الدولي، وبين يوغوسلافيا الحرب والانقسامات. يؤكد هدجز ان الحرب الاميركية لن تتمكن من اجتثاث جذور الارهاب: "اننا نستخدم تعابير مجردة عند الاشارة الى الذين نقاتلهم بمعنى اننا نجردهم من سلالتهم الانسانية. وهذا ضرب من الفساد اللغوي الشائع في التعبير. جوزف تيتو وضع الاطراف المتقاتلة سنة 1945 في الثلاجة ".
أصول الحكم
يستعير المؤلف الفقرة التالية، التي وردت في كتاب حنا آرندت " اصول الحكم الشمولي":
"إن مبدأ الحرية المنظمة يبدأ من اعتبار ان من لا يقف معي فهو ضدي". هذه النظرة الاختزالية تضرب بعرض الحائط الفروقات والجوانب المتعددة التي ينبغي اخذها بالاعتبار، والتي يجد العامة صعوبة في استيعابها. الترياق لمواجهة محنة العنف ( مليون ضحية في "سربرنيتشا" وحدها ). هذا الترياق لتجنب تدميرانفسنا، لن يكون باستعمال القوة استعمالاً اعمى، و"المطلوب التواضع أولاً، والشفقة أخيراً، فأمراء الحرب في يوغوسلافيا حثالة المجتمع اليوغوسلافي، وجماعة اوباش، كأن الامر يشبه خاتمة مسرحية ترويلوس وكرسييدا، حيث لا نجد ايجابية لهذه العلل الانسانية ولا حتى في مسرحية مكبث والملك لير. كما لا يوجد ما يشفي الغليل او يدعو للتفاؤل في حكاية حرب طروادة حسب روايتي يوربيدس وشكسبير على حد سواء. وليس هناك من حروب يمكن وصفها بالحروب العادلة حتى تلك الحروب التي نتفق على مشروعيتها". وكما يقول الكاتب الكندي فارلي موات الذي قاتل في الحرب العالمية الثانية: "جميع الحروب سيئة ولا يمكن ان تكون إلا كذلك".
يسأل هدجز السؤال التالي : ما هو مصير الابطال الذين ماتوا والثكالى والامهات والآباء والزوجات، والأطفال الذين قتلوا ؟
ما هو مصير كل هؤلاء بعد ان انتهت الحرب وهدأت المشاعر؟ وما هو مصير اولئك الذين جادوا بأنفسهم؟
ورد النص التالي في صحيفة لندن أوبزرفر في 18 تشرين الثاني نوفمبر 1822 بعد سنوات من حروب نابليون :
"جرى السنة الماضية استيراد اكثر من مليون بوشل من العظام البشرية ( وغير البشرية ) من اوروبا الى ميناء هل. وقد تم تحميل هذه العظام من ساحات المعارك... وسيجري تحويلها الى مسحوق ثم بيعها الى المزارعين الذين يستخدمون المسحوق لتسميد اراضيهم ".
بالمقابل عندما كانت الحرب في نيكارغوا في أوجها، وقد امضيت يوماً كاملاً مع إحدي المجموعات التي تظاهرت امام السفارة الاميركية فور وصولها، وأذكر ان احد المشاركين في التظاهرة قال: "إن التظاهر امام السفارة الأميركية بمنزلة طقس كنسي امارسه في الصباح " وهنا اجابه احد رفاقه : "آمين ".
احد السجناء في مزرعة نموذجية مخصصة للسجناء ايام أنستازيو سوموزا، اثنى بحرارة على حكومته. وحين خاطبه احد الاميركيين قائلاً : " يبدو انك سعيد، في هذا المكان ؟"، شرح السجين ان الثورة سمحت له بالتحدث بصراحة دون خوف أو وجل. يقول الباحث والناقد الاجتماعي كريستوفر لاش: "إن الانسياق وراء الحركات الثورية الراديكالية يعطي الحياة معنى وهدفاً، ويصبح التضامن مع هذه الحركات ملاذاً آمناً للهروب من القلق الداخلي الذي يعانون منه ".
يذكر هدجز أن احد مشاة البحرية برتبة عريف قال قبيل عبوره الى الكويت : " لا تظن ان شبابنا يقاتلون في سبيل الوطن او السعارات الجوفاء التي يرددها السياسيون. كلا، إنهم يقاتلون لحماية بعضهم البعض ".
الأساطير
في فصل آخر يستعرض الكاتب الأساطير التي تنسجها المشاعر القومية الدينية ( غير ضارة عموماً. لكنها احياناً تتحول الى وباء وخرافات حين لا تكترث للأمم الأخرى). إن من يجادل الاسرائيليين فيما يسمى حرب الاستقلال التي أعقبها قيام دولة اسرائيل يشعر وكأنه يصرخ في واد. علماً بأن هذه الدولة قامت على ارض يقطنها شعب غالبيته من المسلمين منذ القرن السابع الميلادي. ثمة حاجز عاطفي يجعل الاسرائيليين يتمسكون بالخرافة التي واكبت مولد الدولة اليهودية فيحجمون بالتالي عن الاعتراف بالظلم البالغ الذي وقع على الفلسطينيين نتيجة لقيام دولة اسرائيل. والجدير بالذكر أن هناك اسرائيليين تقدميين ومفكرين ليبراليين ينحون هذا المنحى. ونحن الاميركيين نتصرف ايضاً على نحو مماثل وننسى ان الآباء المؤسسين كانوا يملكون العبيد الأرقاء. ثم ان الشعب الأميركي واكب نموه عملية ابادة جماعية لسكان اميركا الأصليين، وهذه من الامور التي لا يقرها الأميركيون. ويضيف هادجز في مكان آخر: "نحن الاميركيين ننظر للاسلام نظرة مشوهة تنطوي على عنصرية واضحة المعالم، وتصف جميع المسلمين بأنهم ميّالون الى العنف ومعادون للتقدم فضلاً عن كونهم منغلقين في تفكيرهم. إن التصدي لمثل هذه النظرة وحتى محاولة فهم الظلم التاريخي الذي ارتكبناه بحق من يعادوننا اليوم صار ضرباً من ضروب الخيانة الوطنية، تماماً كما كان الوضع في الارجنتين سنة 1982 ". عندما تكون الدول في حالة حرب، يسعى كل طرف الى اسكات صوت الانسانية في مجتمعه، وهذا يدفع الدول الى الاستفادة من الفلتان الاخلاقي وانعدام الحس النقدي عند العامة وتسخيره للطعن بثقافة الاطراف المعارضة. ان الدولة بمحاربتها للثقافة الحقيقية التي لا تخشى من النقد الذاتي، تسهم في عملية تمييع القيم الاخلاقية واستبدالها بنسخة مشوهة من الحقائق. فالعدو يصبح كائناً مجرداً من انسانيته، والعالم يصبح حلبة صراع بين قوتين : قوة الخير وقوة الشر. وفي الوقت نفسه تحاط القضية بهالة من القدسية ذات صبغة دينية، والملاحظ مثالاً ان مؤلفات كتّاب امثال دانيلو كيش ولوفان دجيلاس فقدت نهائياً خلال حرب كرواتيا.. ثم ان ترتيب المثلث الذي يفصل بين الشطرين على الطريق المعبد الذي يشطر مدينة نيقوسيا، هذا الترتيب اشبه بلعبة الحجلة لان الحراس اليونانيين لا يستطيعون رؤية الاتراك داخل المثلث. ولدى مغادرتك الجزء اليوناني يقع نظرك على لوحة اعلان تحمل العبارة التالية : "استمتع بوقتك في ارض الفصل العنصري. ". ولا يختلف وضع الفلسطينيين عن وضع القبارصة من حيث شعورهم بالظلم الذي تعرضوا له وبقي في ذاكرتهم وانتقل من جيل الى جيل. كأن إعادة كتابة التاريخ وتشويهه أمر ضروري في حالات الحرب. وكثيرون ممن أذكوا نار الحرب في البلقان امثال البوسني الصربي رادوفان كرادزتش وفرانيو تدجمان يعتبرون انفسهم مفكرين او أكاديميين ! إنها الاوهام والخرافات التي يروج لها دعاة الحرب ومعها تتزايد الاعمال الوحشية وتتقلص الحريات المدنية وتمتزج الحقيقة بالخيال بما يسمى الحرب على الارهاب. حتى الآداب الكلاسيكية لم تسلم من التسييس في قالب عصري، حتى وان ادى ذلك الى انتشار الفوضى مع اكثر من هاملت في هذا العصر! اذ ثمة خطر آخذ في التفاقم وهو التحالف الذي ينجلي بين رجال السلطة الذين يجنحون الى شن الحروب وبين اولئك الذين يعتقدون انهم ينفذون المشيئة الالهية، والتاريخ مليء بأخبار الثوريين والمتطرفين المعتوهين الذي يملأون الفراغ وقد يسعفهم في هذا المسعى الحظ والقوة. ولا يكمن الخطر في تنامي الاصولية بقدر ما يكمن في تراجع المجتمع العلماني. لقد انهزمت قوى الاعتدال في الوسط المسيحي والاسلامي واليهودي، ومن سخرية الاقدار ان الجهة التي هزمت هذه القوى هي نفسها الجهة التي تدعو الى التسامح والانفتاح. وفي حال تكرّر حدوث هجمات ارهابية جديدة كهجمات 11 ايلول، او كوارث بيئية، فلن يكون مستغرباً ان يؤدي ذلك الى بروز دولة سلطوية، او كنيسة ترعاها الدولة، وانا اتحدث هنا عن الديمقراطية الاميركية. ان المعركة الراهنة بيننا وبين الاسلاميين الاصوليين ( الكلام لهدجز ) تجعلنا نسير في هذا الاتجاه. نحن الذين تحالفنا مع اكثر الانظمة القمعية في المنطقة، ومنهم الذين يقفون وراء المنظمات الارهابية. يذكرنا شكسبير بأنا مسؤولون عن تصرفاتنا دائماً، ويبقى السؤال الذي طرحه ثيوسيدوس ذات يوم: هل يمكن للمعرفة والجمال بما لهما من سلطان ان ينتصرا على العسكرة وسلطان القوة؟
أرض الميدان
اهمية كتاب هدجز انه يمثل كتابة طازجة ، مباشرة، عفوية ، كتابة انطولوجية واقعية طالعة للتو من ارض الميدان ومن عمق الثقافات. وهو الذي رصد حروب البلقان والشرق الاوسط واميركا الوسطى، وكان ما شهده كافياً لقض مضجعه، فرأى الاصدقاء والاعداء والغرباء والقتلى والموتى والجرحى، والذين اصابتهم نشوة الحرب وأسكرتهم. رأى كائنات مرئية واخرى غير مرئية . ويعرض في كتابه حقائق بشعة لكن واقعية من نتاج الانسان وحبه للحرب وولعه بها ويرسم صورة انسانية رائعة وهو يستشهد بآداب الحرب التي اقتبسها عن هوميروس وشكسبير وإرك ماريا رماك ومايكل هر وغيرهم ..
كتابة مشوقة، ذلك ان الحرب للأسف كما يصفها ذات جاذبية، ذات معنى للحياة، او لعلها تحفة الاخطار، التي عايشها مراسل نيويورك تايمز، وهو يتلو فعل الغفران عن كل الذين ارتكبوا فظائع الحرب، والاذى . وهو يسأل اليوم من نيويورك حيث يعيش : اين المفر؟
http://www.almustaqbal.com/storiesprintpre...?storyid=134742
عن المؤلف
http://en.wikipedia.org/wiki/Chris_Hedges