arfan
عضو رائد
المشاركات: 1,378
الانضمام: Nov 2004
|
التحدي
هل الآيات القرآنية شكّلت تحديا لفقهاء العربية في حينها , وما هو الجديد في ذلك وأين يكمن الإعجاز في القرآن , ولماذا لم تتم المحافظة على قرآن مسيلمة , وسجاح التميمية وغيرهما من الذين ادعوا أنهم يستطيعون أن يكتبوا قرآنا يشبه قرآن محمد
في الآيات القرآنية الواردة في التحدي ما يدعو إلى الانتباه , وذلك أن آيات التحدي هي في سورة الطور : ( فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) (1) وفي سورة يونس : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) (2) وفي سورة هود : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) (3) وفي سورة الإسراء : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ) (4)
إن هذه السور التي فيها آيات التحدي كلها من السور المكية , وترتيب القرآن مشوش لم ترتب آياته بحسب النزول , فلا نستطيع أن نعرف من ترتيب الآي أي آية من آيات التحدي نزلت أولاً ولكنا إذ علمنا أن محمداً كان في جميع الأمور يتدرج إلى ما ير تدرجاً بحسب ما تدعو إليه الحاجة ويقتضيه الحال , كما أشرنا إليه فيما تقدم عند الكلام على أساس الدعوة , كان من الجائز أن نقول بأنه في التحدي أيضاً جرى على هذه الطريقة وعندئذ ٍ نستطيع أن نقول بن آية الطور هي أول آية نزلت في التحدي , لأنها أبسط قول يقال في التحدي أول وهلة 0 ولا شك أن " الحديث " الوارد في قوله : ( فليأتوا بحديث مثله " يشمل الكثير والقليل حتى إنه يصدق على آية واحدة من القرآن , والإتيان بمثله في آية واحدة أو آيتين لا يجوز أن تتم به المعارضة , بل لا يجوز أن يعد معارضة أصلاً , لأن ذلك سهل متيسر لكل أحد , خصوصاً والآيات القرآنية فيها ما هو عبارة عن كلمة واحدة نحو : ( مداهمتان) (1) فإنها آية قرآنية وإن كانت كلمة واحدة
على أن الآيتان بمثله في آية أو آيتين مما وقع في أيام نزول القرآن من المسلمين ومن الكفار 0 ففي الإتقان قال: وأخرج مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهودياً لقي عمر بن الخطاب فقال له : إن جبريل الذي يذكره صاحبكم عدو بنا , فقال عمر : ( من كان عدواً لله وملائكته وميكال فإن الله عدو للكافرين ) (2) , قال : فنزلت هذه الآية بعد ذلك كما قالها عمر (3) قال : وأخرج سنيد في تفسيره عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة ( أي في الإفك) قال: ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) (4) , فنزلت كذلك قال: وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما أبطأ على النساء الخبر في احد , خرجن يستخبرن , فإذا رجلان مقبلان على بعير, فقالت امرأة : ما فعل رسول الله ؟ قال: حي , قالت : فلا أبالي يتخذ الله من عباده شهداء ( تعني قتلى أحد ) , فنزل القرآن على ما قالت : ( ويتخذ منكم شهداء ) (5) وفي الإتقان أيضاً : قال ابن سعد في الطبقات : أخبرنا الواقدي : حدثني إبراهيم بن محمد شرحبيل العبدري , عن أبيه قال: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد فقطعت يده اليمنى , فأخذ اللواء بيده اليسرى وهو يقول : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) (6) , فقطعت يده اليسرى , فحنى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول وما محمد إلا رسول إلخ ثم قتل فسقط اللواء قال: وما كانت هذه الآية نازلة يومئذ ثم نزلت بعد ذلك (7)
فهؤلاء مسلمون من أصحاب رسول الله قد أتى كل منهم بحديث لم يكن قرآناً , ثم نزل به فصار قرآناً وقد وقع مثل ذلك لبعض الكفار أيضاً , فقد ذكروا عن النضر بن الحارث أنه كان إذا جلس رسول الله مجلساً يحدث فيه قومه ويحذرهم ما أصاب من قبلهم من نقمة الله يخلفه في مجلسه , ويقول لقريش : هلموا فإني والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه, ثم يحدثهم عن ملوك فارس قال صاحب السيرة الحلبية : ولما تلا ( أي النبي ) عليهم نبأ الأولين , قال النضر بن الحارث : قد سمعنا , لو نشأ لقلنا مثل هذا ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) (1) 0 وهذا الكلام حكاه بعد ذلك القرآن فصار آية قرآنية , قال صاحب السيرة الحلبية : وعند ذلك نزل الله تكذيباً له ( أي للنضر ) : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ) (2) ففي هذه الآية لم يتحدهم أو بسورة أو بعشر سور بل بمثل القرآن كله
ومن هذا القبيل ما قاله عبد الله بن أبي سرح فكان سبباً لارتداده على الأصح , وذلك أن عبد الله هذا اسلم وكان يكتب الوحي لرسول الله , فاتفق يوماً أن كان رسول الله يملي عليه آية نزلت , فأملى عليه : ( لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) (3) فكتبها , ثم أملى : ( ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ) (4) فكتبها , ثم أملى : ( ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم إنشأناه , خلقاً آخر ) (5) , فلما كتب ذلك عبد الله تعجب من تفصيل خلق الإنسان , فقال: ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) (6) , فقال له رسول الله , اكتب ذلك , هكذا نزلت , فوقع من ذلك في نفس عبد الله ريب , فقال : إن كان محمد يوحى إليه فأنا يوحى إليّ , فارتد عن الإسلام ولحق بمكة وصار يقول لقريش : إني كنت أصرف محمد كيف شئت , كان يملي علي عزيز حكيم , فأقول : أو عليم حكيم , فيقول : نعم كل صواب , وكل ما أقوله يقول ك اكتب هكذا نزلت (7)
فمن هذا يظهر أن الإتيان بآية أو آيتين مثل القرآن أمر سهل قد يتفق لكل أحد أن يأتي به , فتحديهم بأن يأتوا بحديث مثله غير صحيح ولا مأمون فيه سوء العاقبة فلذا عدل عنه محمد متدرجاً في التحدي إلى ما هو أعلى من ذلك , فجاء بالآية الثانية: ( قل فأتوا بسورة من مثله ) (8)
ولم يقف عند هذا الحد حتى جعلها عشر سور , ثم ارتقى إلى ما يقتضيه التحدي الصحيح الذي يتعذر أو يستحيل عادة أن يجيبه إليه أحد , وهو تحديهم بأن يأتوا بمثل القرآن من دون قيد بحديث أو سورة كما قال في الآية الأخرى : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن ) (9) الخ الآية وهذا هو التحدي الذي ترجع فيه المعارضة خائبة خاسرة بلا شك ولا ريب ولذا نراه يتكلم بجراءة واطمئنان واثقاً بعجزهم عمّا يريد منهم , حتى أنه لم يتحد الإنس وحدهم بل جعل الجن لهم معاونين تهويلاً عليهم وتأكيداً لعجزهم
يتبع
(1) سورة الطور, الآية : 34 – (2) سورة يونس , الآية : 38 – (3) سورة هود , الآية 13 – (4) سورة الإسراء , الآية : 88 – 01) سورة الرحمن , الآية : 64 – (2) سورة البقرة , الآية : 98 – (3) الإتقان , 1/ 35 – (4) سورة النور ,الآية : 12 ؛ الإتقان , 1/ 35 – (5) سورة آل عمران , الآية : 140 – (6) سورة آل عمران , الآية : 144 – (7) الإتقان , 1/35 – سورة الأنعام , الآية : 35 ؛ سورة الأنفال , الاية : 31 ؛ سورة المؤمنون , الآية 83 ؛ سورة النحل , الآية : 27 – (2) سورة الإسراء الآية : 88 ( 3) سورة المؤمنون , الآية : 12 (4) سورة المؤمنون , الآية : 13 – (5) سورة المؤمنون , الآية : 14 – (6) سورة المؤمنون , الآية : 14 – (7) السيرة الحلبية , 3/ 90 – (8) سورة يونس ’ الآية : 38 – (9) سورة الإسراء , الآية : 88
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب معروف الرصافي
|
|
10-01-2007, 11:50 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
arfan
عضو رائد
المشاركات: 1,378
الانضمام: Nov 2004
|
التحدي
Array
كيف نثبت أن القرآن معجز , وما هو التحدي الذي جاء به القرآن ليثبت ذلك
إن مسألة إعجاز القرآن من المسائل التي عني بها علماء الإسلام منذ أواخر القرن الثاني للهجرة , حتى أفردوها بالتأليف , وقد ألف فيها جماعة منهم القاضي الباقلاني وكتابه أحسن كتاب ألف فيها كما يقولون
وأنت إذا نظرت في كتبهم بإمعان وقرأتها بتدبير رأيتهم يتكلمون عن إيمان واعتقاد لا عن تدبر وتفكير ولا ريب أن الإنسان إذا تكلم في أمر ديني يؤمن به ويعتقد بصحته كان منحازاً إليه في كل ما يقوله عنه , وكان إيمانه به واعتقاده بصحته حجاباً دون كل ما خالفه أو أزرى به , وقد قيل الحب يعمي ويصم , ولا ريب أن الإيمان كالحب يعمي ويصم أيضاً , فكما أن الحب يعمي صاحبه عن معايب الحبيب , وكذلك الإيمان بكمال شيء يعمي صاحبه عن نقائصه ولذا تراهم بما قالوه وادعوه مبالغين في إعظام القرآن ومفرطين فيما يدعون من إعجازه , كما تراهم جعلوا كل ما فيه الذروة العليا من البلاغة والفصاحة , واتخذوه المقياس الأعلى الذي تقاس به درجات البلاغة , فلا يرون له عيباً ولا يسمعون عليه من خصومهم حجة , ولا يقبلون منهم برهاناً فبالنظر إلى هذا أصبح موضوع إعجاز القرآن ليس بموضوع فني أدبي , وإنما هو ديني بحت فكل من شذ عنه فهو في نظرهم كافر , وكل من خالفه فهو في رأيهم ملحد فمسألة إعجاز القرآن أصبحت من المسائل الدينية التي لا يغني فيها العقل ولا تنفع فيها الحجة , لأن المسائل الدينية ما التقى فيها خصمان إلا افترقا لما التقيا , وكل منهما منشد بلسان حاله قول من قال :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض ٍ والرأي مختلف
نقول على فرض أنهم في أقولهم صادقون وفيما يدعونه مخلصون , وإلا فنحن من ذلك في شك مريب , وإن جاز لدينا أن يكون فيهم من هو صادق في قوله ومخلص في دعواه وهذا كتاب القاضي الباقلاني قد قالوا أنه أحسن كتاب ألف في إعجاز القرآن , ولكن كل من طالعه بتروٍ وقرأه بتدبر وإمعان أيقن أن مؤلفه من الرعيل الأول من المرائين , وأنه بتأليفه من طلاب الدنيا لا من طلاب الحقيقة , ولولا الخروج عن صدد ما نحن فيه لأتيت هنا بأدلة وشواهد على ذلك من كتابه المذكور
وإنّ مسألة إعجاز القرآن إن اعتبرت مسألة فنية أدبية محضة لكان للمنطق فيها مجال , وللحجج والبراهين فيها حيال ونزال , ولكن كيف والأفكار غير حرة , وأين والعقائد التقليدية دائبة مستمرة وأيضاً إن الذين كتبوا في تفسير القرآن وفي إعجازه لم ينشأوا إلا في القرن الثاني , ولم تطلق إذ ذاك للفكر ولا للقول حريته , وغي هذا القرن نشأ الإيمان التقليدي الذي يكون المرء فيه تابعاً لدين أبويه والذي هو أقوى وأرسخ في قلوب أصحابه من الإيمان الناشئ من أسباب غير التقليد وسيأتيك الكلام عن الإيمان وعن ألوانه قريباً وكيف تطلق للناس حرية أفكارهم وأقوالهم في عصر كل ما فيه قائم باسم الدين , فالدولة والحكومة والخليفة والملك والأمير والوزير والقاضي والقائد والجيش , كل ذلك مصبوغ بصبغة الإسلام ومخضوب بخضاب ديني لا نصول له منه فليس من مصلحة أحد من هؤلاء أن تكون الأفكار حرة خصوصاً في الدين وصبغته , بل رجال الحكم كلهم ولا سيما كبيرهم يعملون في جانب هذه الصبغة على بقاء ما كان على ما كان , ويراقبون النصول منها في السواد الأعظم بمكل ما عندهم من حول وطول
وإن هذه الحالة دائمة مستمرة إلى يومنا هذا , بل هي في زمننا أشد وأنكى , فلا يستطيع أحد منا اليوم أن يكتب كل ما كتبه كتاب السيرة النبوية في عصر التدوين , فضلاً عن نقاشهم فيما رووه وذكروه هذه مصر , وفيها من أهل العلم والأدب من فيها , فلا يستطيع أحد منهم أن يكون حراً في أفكاره إذا خطب أو كتب إلا فيما لا يمس الدين , وقد كتب الدكتور حسين هيكل كتاباً في السيرة النبوية لم يأت فيه بأكثر مما قاله الأولون , لأنه غير حر فيما يكتب ويقول , وكيف يكون حراً وهو يرى الجامع الأزهر مطلاً عليه بعمائمه المكورة على اللجاجة ترقبه بعين الغضب إذا حاد عن طريقها لكي تثور عليه وتمور ومن ورائها السواد الأعظم
ولا ريب أن هذه الحالة أينما وجدت وجد الرياء فهو معها , لا يفارقها في كل زمان ومكان ولله در أبي العلاء إذ قال :
أرائيك فليغفر لي الله زلتي فديني ودين العالمين رياء
والرياء , قبحه الله , من أكبر الرذائل الاجتماعية لأن فيه التمويه والتضليل وكلاهما من سموم السعادة في الحياة الاجتماعية
قلنا : إن الذين كتبوا في إعجاز القرآن لم يتكلموا عن تدبر وتفكير (1) ولو يكونوا أحراراً في أفكارهم , وإنما تكلموا عن إيمان واعتقاد , وذلك وحده كاف لانحيازهم إلى القرآن زد على ذلك أن منهم المخلص في إيمانه ومنهم غير المخلص , فيجوز أن يكون غير المخلص مندفعاً إلى كتابة ما كتبه بدافع الرياء إما لنيل منصب يعلو به , وإما لشهرة يكبر بها , أو غير ذلك مما تتطلبه مصلحته الذاتية في محيط كل ما فيه قائم بأسم الدين
فإن قلتُ : في الزمان الذي نشأ فيه من ألفوا كتباً في إعجاز القرآن قد نشا أناس من الزنادقة أيضاً وهم أحرار في أفكارهم , فلماذا لم يردوا على هؤلاء ما قالوه في إعجاز القرآن ؟ قلت ُ : نعم قد نشأ معهم أناس من الزنادقة أيضاً , ولكنهم ليسوا بأحرار في أفكارهم كما تقول , بل كانت عقوبة الزندقة القتل إذا تكلم بما يخالف الدين وقد قتل العباسيون كثيراً من الزنادقة , ولم يكتفوا بقتلهم بل محوا كل ما كتبوه وطمسوا كل أثر تركوه , فأين ما كتبه أولئك الزنادقة وأين الدامغ لابن الراوندي
وكذلك فعل الرواة الأولون والذين دونوا السيرة النبوية , فإنهم طمسوا كل ما قاله خصوم محمد من الشعراء وغيرهم فلم يصل إلينا من أقوالهم إلا النزر اليسير الذي لا يعتد به , ولم يذكروا لنا من شعر أمية بن أبي الصلت إلا شيئاً قليلاً , ولا من قرآن مسيلمة إلا جملة أو جملتين , ولو أنهم ذكروا لنا ذلك لكنا على بصيرة في الحكم بينهم وبين محمد أكثر مما نحن عليه اليوم وإن ابن هشام صاحب السيرة المشهورة قد جنى على العلم والأدب جناية كبرى باختصاره سيرة ابن إسحاق , فإنه لم يختصرها بل قتلها قتلاً وحشياً فلم يبق منها إلا الاسم , ففقدت سيرة ابن إسحاق التي كتبها مطولة والتي اختصرها هو بأمر المنصور, فلا يوجد اليوم لها أثر , فأسفاً على ما أصيب به العلم من فقدها
* التحدي والمعارضة
ومهما يكن فإني هنا لا أريد أن أذكر لك شيئاً مما قالوه في إعجاز القرآن اللهم إلا ما مست الحاجة إلى ذكره مما لا بد منه , فإن كتبهم متداولة فارجع إليها إن شئت وإنما أذكر لك ما أراه وأشعر به وما كنت أفكر فيه منذ زمان وقبل الدخول في الموضوع أقول كلمة في معنى التحدي والمعارضة ؛ يقال : تحدى فلان فلاناً إذا نازعه الغلبة ودعاه إلى أن يفعل مثل فعله ليعلم أيهما الغالب , ويقال : عارض فلان فلاناً بمثل صنيعه إذا فعل مثل فعله وأتى إليه بمثل ما أتى به , كما هو مذكور في كتب اللغة
هذا , واعلم , وفقك الله , أن أفعال البشر قسمان , جسمانية وروحانية و أو بعبارة أخرى جسمية وقلبية , لأن النحاة قد سموا علم وأخواتها بأفعال القلوب و وعنوا بذلك الأفعال التي تقوم بالنفس لا بالجسم كالعلم والظن والمخالة والحسبان ( بكسر الحاء ) , وأن الناس في أفعال القلوب مختلفون كل الاختلاف , وبعيدون عن التساوي فيها كل البعد حتى يكون أحدهم منها في الثريا والآخر في الثرى
يجوز أن يساوي أحدهم الآخر كل المساواة ويماثله كل المماثلة في أفعاله الجسمانية , ولكن لن يجوز ذلك في أفعال القلوب , فإن لكل واحد منهم في فعله القلبي درجة خاصة به لا يشاركه ولا يساويه فيها غيره , كما أن لكل واحد منهم في وجهه سحنة وملامح لا يماثله فيها غيره من الناس وما يظهره في وجوه بعض الناس من المشابهة إنما هو تقارب في السحنة وليس هو إذا أنعمت النظر بمشابهة مطلقة قلت َ : لماذا كان الناس هكذا في أفعال قلوبهم ؟ قلتُ : لأن الله كذا خلقهم وعلى هذا جبلهم وأفعال الله لا تعلل وهنا أتذكر ما أجاب به أحد النحاة ( وأظنه الكسائي ) لما سألوه عن وجوه استعمال " أي" وما يعتورها من الإعراب والبناء فقال : أي كذا خلقت
ولا ريب أن الكلام الذي يتفاهم به الناس هو المعنى الذي يحيك في القلوب ويجول في النفوس , وما الألفاظ سوى آلة محدودة وواسطة لأدائه , وهي معدودة محدودة , والمعنى واسع بلا حد , وبحر بلا ساحل ولذا قلت في قصيدة :
وفي النفس ما أعيا العبارة كشفه وقصر في تبيانه النظم والنثر
أرى اللفظ معدوداً فكيف أسومه كفاية معنى فاته العد والحصر
فالكلام إذن باعتباره أنه المعنى يعد من أفعال القلوب , بل هو أجلها وأعظمها في الذروة العليا منها , ولذا امتاز به الإنسان على الحيوان الأعجم
إذا علمت هذا فاعلم أن معارضة الكلام والإتيان بمثله من كل الوجوه تكاد تكون من المستحيلات نعم , تجوز المقاربة على سبيل التقليد , فقد يوجد في الناس من له قدرة فطرية على تقليد أفعال من شاء من الناس وأقوالهم , فتراه يعمد إلى واحد من الناس فيقلده فيمشي مثل مشيه , ويجلس مثل جلوسه , وينظر مثل نظره , ويتلهج في الكلام مثل لهجته حتى تقول كأنه هو ولكن هذا تقليد , والمقلد في الكلام لا يعد معارضاً لأنه لم يأت بشيء من عنده وإنما هو ناسخ كالذي ينسخ كتاباً من كتاب , كما فعل مسيلمة إذ حاول أن يقلد بكلامه القرآن فلم يأت إلا بسخيف لا طائل فيه كقوله : " لقد أنعم الله على الحبلى , أخرج منها نسمة تسعى , من بين صفاق وحشا " , وكقوله : " والطاحنات طحناً , والعاجنات عجناً , والخابزات خبزاً والثاردات ثرداً , واللاقمات لقماً " , كما في السيرة الحلبية (1) ففي كلامه هذا تقليد لأسلوب القرآن بل هو مسلوخ من القرآن سلخاً
نقول هذا بالنظر إلى هذا الذي وصل إلينا من كلامه , ولو أنهم ذكروا لنا كل ما قاله لجاز أن نحكم غير هذا الحكم , على أن محمداً لم يتحدَّ الناس بآية أو آيتين , وإنما تحداهم بسورة ولم يذكر الرواة لنا سورة من قرآن مسيلمة
ولكن مسيلمة على علاته وعلى خلوه من كل صفة تأهله للنبوة قد آمن به كثير من الناس فاعتز بهم , حتى إن جيشه لما قاتل المسلمين في حروب الردة كان أكثر من عشرة آلاف مقاتل , وقد هزم جيشين للمسلمين , فجاءه خالد بن الوليد بجيش ثالث لا يزيد على أربعة آلاف من المسلمين , فالتقى بهم خالد في عقرباء ( منزل من أرض اليمامة ) فوقعت بين الفريقين يوم عقرباء ملحمة كبرى سالت فيها الدماء , وكاد جيش خالد ينهزم لولا أن تداركه قائده البطل المغوار بهمته العالية وبطولته الفذة , ثم انجلت المعركة عن قتل مسيلمة وتمزيق جيشه شر ممزق بعدما خسر أكثر من ثلاثة آلاف قتيل , كما خسر خالد أيضاً من جيشه ما يزيد على ألف قتيل (1) ولولا قوة عزم أبي بكر وعلة همة خالد لكان مسيلمة شأن غير شأنه اليوم
على أن مسيلمة مهما كان فسلاً من الفسول فهو خير من طليحة الأسدي والأسود العنسي ومن سجاح التي ادعت النبوة في عهده , وكل هؤلاء وجدوا لهم اتباعاً آمنوا بهم وصدقوهم , ولله در أبي العلاء إذ قال في لزومياته :
إني رأيت بني الزمان لجهلهم بالدين أمثال النعام أو النعم
لو قال سيد غضا بعثت بملة من عند ربي قال بعضهم نعم
لقد أخرجنا شؤم مسيلمة عن صدد الكلام , فلنرجع إلى ما نحن فيه إذا كان الكلام من أفعال القلوب , وكانت المعارضة فيه من المتعذرات إن لم نقل من المستحيلات , فقد علمنا شأن المعارضة وعلمنا مبلغها من النجاح , ولو أن المتنبي مثلاً أراد أن يعارض قصيدة من شعر غيره لما جاز أن يأتي بمثلها من كل الوجوه ومن العبث دخول الشاعر أو الكاتب في المعارضة لأنها تؤول إلى نقصه على كل حال , وهذا الشاعر المصري شوقي عارض ميمية البوصيري المسماة بالبردة فلم يأت بمثلها , وإنما أتى بما هو دونها عدا ما هو ظاهر في قصيدته من التكلف ولشوقي شعر لا تطمع فيه نفس البوصيري , وما ذاك إلا أن لشوقي روحاً غير روح البوصيري , والكلام فعل روحاني كما قلنا , فلا يستطيع شوقي أن يلقي على قصيدته روحاً مثل روح البوصيري في ميميته
وهذا المعري قيل إنه عارض القرآن في كتابه المسمى بالفصول والغايات , وقد طبع حديثاً في مصر من هذا الكتاب , فلما اطلعت عليه قلت : وأين الثريا من يد المتناول
وقبل كل شيء إن أسلوب المعري في كتابه هذا أسلوب عامي مبتذل , وأسلوب القرآن أسلوب خاص مبتكر , فكيف يعارض القرآن بكتاب جلّ ما فيه أن كاتبه جمع في عباراته شيئاً من غريب اللغة , وطرفاً من أخبار العرب ومن أشتهر منهم بما يزين أم بما يشين , وما اشتهر من خيولهم ونوقهم , وشيئاً من أقوال النحاة ومصطلحاتهم في الشعر وأوزانه وقوافيه , إلى غير ذلك من الأمور التي يجدها في الكتب من أرادها على وجه أوسع وأنفع مما جاء به المعري في الفصول والغايات
نعم , إن المعري في كل ما قاله في كتابه هذا يرمي إلى تنزيه الله وتقديسه وبيان ما له من عظمة وجبروت , وما له من رحمة واسعة وغفران , وما له من قدرة عظيمة لا يعجزها المحال ولا تؤودها الثقال , ولكنه يأتيك بهذا في مواضيع لا تناسبه ولا تلائمه , وإليك فصلاً منه قال في سعة رحمة الله وعفوه وغفرانه :
"" لا أيس من رحمة الله , ولو نظمت ذنوباً مثل الجبال سوداً كأنهن بنات جمير , ووضعتهن في عنقي الضعيفة كما ينظم صغار اللؤلؤ فيما طال من العقود ولو بنيت بيتاً من الجرائم أسود كبيت الشعر يلحق بأعنان السماء , ويستقل عموده كاستقلال عمود الوضح , ويمتد إطنابه في السها والجبل كامتداد حبال الشمس , لهدمه عفو الله حتى لا يوجد له ظل من غير لباث " 0 فأين هذا مما جاء في القرآن من قوله : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله , إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ) (1) فالمعري مسف في كثير من كلامه الذي ضمنه هذا الكتاب , وليس هو كذلك في لزومياته التي كتبها بعد هذا الكتاب , فإنك تراه فيها محلقاً في تفكيره إلى ذرى لا يصل إليها إلا الأفذاذ من المفكرين وإني أستبعد كل الاستبعاد أن يكون المعري قصد بكتابته هذا معارضة القرآن
وخلاصة القول إن إتيان المعارض بمثل ما عارضه من الكلام متعذر , وأن محمداً يعلم هذا حق العلم فلذا تراه بكل سكينة واطمئنان وبكل جراءة واستبسال يتحدى قومه قائلاً : ( فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) (2) ولم يبلغنا أن أحداً بسورة قصد معارضة القرآن , وإن كان القرآن يحكي شيئاً كثيراً من كلامهم ولو أن أحدهم قصد ذلك لما كان إلا مغلوباً , لأن الذي يعارض القرآن يجب قبل كل شيء أن يكون ذا روحانية كروحانية محمد , وذا ذكاء كذكائه وخيال كخياله ومعرفة بالله كمعرفته , وعلم بأخبار الماضين من الأمم وأنبيائهم كعلمه , ويجب بعد هذا كله أن يكون ذا عارضة كعارضة محمد , ولم يكن فيهم من هو كذلك سوى محمد , فلا يستطيع أن يعارض القرآن ويأتي مثله إلا محمد نفسه زد على ذلك أن أسلوب القرآن مما لم تألفه العرب ولم تعرفه بل هو أول من ابتدعه كما مر
هذا في عهد محمد وأما في الزمان الذي بعده فلأن الذي يعارض القرآن إن أتى بمثله من كل الوجوه كان مقلداً لا معارضاً , كما هو ظاهر في كلام مسيلمة الذي ذكرناه آنفاً , وعندئذ ٍ يقال له يا هذا إنك تقلد القرآن تقليداً وتسلخ كلامك منه سلخاً , وليس هذا بمعارضة , فأتنا بشيء من عندك إن كنت قادراً والمعارض إن لم يقلد القرآن ولم يماثله بل جاء بما يغايره كان مغلوبا لا محالة لأن القرآن كله عندهم في الذروة العليا من البلاغة والفصاحة , ولأنه المقياس الأعلى الذي لا تقاس بلاغة الكلام إلا به , فكل ما غايره وخالفه لا يمكن أن يكون بليغاً في رأيهم عندئذ ٍ يقال له قبحت من معارض , أين كلامك هذا من القرآن هذا إذا لم يريدوا أن يضربوه أو يقتلوه كفراً )
يتبع
(1) سورة الشعراء , الآيتان : 193 – 194 0(2) اعتمد المؤلف في هذا الفصل على الإتقان , 1/ 39 – 44- (1) السيرة الحلبية , 3/ 224 – (1) تاريخ الطبري , 3/ 141- 150 – (1) سورة الزمر , الآية 530 – (2) سورة البقرة الآية : 23
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب العراقي – معروف الرصافي
[/quote]
|
|
10-05-2007, 09:07 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
|