إن كان ما أسقطه عثمان من المصاحف كله من هذا القبيل , فقد أحسن إلى الإسلام
كيف جُمع القرآن , وما هي دقة ذلك , وهل سقطت بعض السور أثناء جمع القرآن هذا ما سنراه
إن عدد سور القرآن كما هو في المصاحف المتداولة بين الناس مائة وأربع عشرة سورة قال صاحب الإتقان : وعلى ذلك أجمع من يعتمد به أهل العلم غير أن بعضهم عد الأنفال وبراءة سورة واحدة , وقال : إنما لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم لأنها من يسألونك , أي من الأنفال قال صاحب الإتقان وشبهة من عدهما سورة واحدة اشتباه الطرفين وعدم البسملة , قال ويرده تسمية النبي كلا منهما فبالنظر إلى ما ذهب إليه هؤلاء تكون سور القرآن مائة وثلاث عشر سورة , وسيأتيك بيان السبب في عدم كتابة البسملة في أول سورة براءة وفي مصحف ابن مسعود لم تكتب المعوذتان , فبالنظر إلى هذا يكون القرآن مائة واثنتي عشر سورة (1)
وزاد أبيّ بن كعب وهو أحد كتاب الوحي سورتين كتبهما في مصحفه وهما سورتا الخلع والحفد أما سورة الخلع فهي " اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك " , وإما سورة الحفد " اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق " (2)
وفي الإتقان أخرج محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن أبيّ بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين وأنه كلن يكتبهما في مصحفه , وفيه أيضاً أنبأناً أحمد بن جميل المروزي , عن عبد الله بن المبارك , أنبأنا الأجلح بن عبيد الله بن عبد الرحمن , عن أبيه قال : في مصحف ابن عباس قراءة أبيّ , وأبي موسى "" بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك " , وفيه " اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق " (3)
وفي الإتقان أيضاً أخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي إسحاق قال أمنا أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بخرسان فقرأ السورتين " اللهم إنا نستعينك ونستغفرك الخ " (4) ولا شك أن قراءته بهما في الصلاة وهو إمام تدل بوضوح على أنهما سورتان من القرآن لأن الصلاة لا تصح إلا بقراءة شيء من القرآن فبالنظر إلى هذا تكون سور القرآن مائة وست عشرة سورة
هل سقط شيء من القرآن عند جمعه ؟
لا نريد هنا أن نتكلم مفصلاً عن كيفية جمع القرآن بعد وفاة رسول الله سوى أن نقول : إن أبا بكر كان أول من جمعه بمشورة من عمر بن الخطاب , ولم يجعله أبو بكر في مصحف كما فعل بعده عثمان , بل جعله في صحف جمعها وضم بعضها إلى بعض وأبقاها حفظاً للقرآن من الضياع , وذلك عندما رأى في حروب الردة كثرة القتلى من القراء الذين هم حفظة القرآن , وبعد وفاة أبي بكر انتقلت هذه الصحف إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب , ولما ولي عثمان كانت هذه الصحف التي جمعها أبو بكر عند حفصة أم المؤمنين بنت عمر أمير المؤمنين ولما بلغ عثمان ما وقع بين المسلمين من الاختلاف في القراءات أراد أن يزيل من بينهم هذا الاختلاف بأن يجمعهم كلهم على مصحف واحد يقرأونه كلهم على سواء
ففي الإتقان مما أخرجه الحاكم من رواية البخاري عن أنس قال روى البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق , فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان : أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة : أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك , فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت ( وهذا أنصاري ) , وعبدالله بن الزبير , وسعيد بن العاص , وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ( وهؤلاء الثلاثة من قريش ) فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا , وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق , الحديث (1)
إن الظاهر من عبارة الحديث الأخيرة أن الذين نسخوا الصحف في المصاحف قد تركوا شيئاً مما كان في تلك الصحف فلم ينسخوه في المصاحف , كما هو ظاهر في قوله : " وأمر بما سواه " أي سوى المصحف الذي نسخه , ومن قوله: " في كل صحيفة " أي من تلك الصحف التي أرسلت بها حفصة
فإن قلت َ: أن المراد بالصحيفة في قوله : " في كل صحيفة " هو كل صحيفة لم تكن من الصحف التي أرسلت بها حفصة , قلتُ : ليس هناك صحيفة أو صحف غير الصحف التي كانت عند حفصة , فان الرواة كلهم يقولون : إن أبا بكر لما أمر بجمع القرآن جمعوه من العسب واللخاف والرقاع وقطع الأديم والأكتاف والأخلاف والأقتاب ومن صدور الرجال , ولم يقولوا : جمعوه من الصحف , فليس هناك صحيفة أو صحف غير التي كانت عند حفصة وهي التي جمعت في أيام أبي بكر 0 وإليك بعض ما ذكره الرواة في هذا الباب
ففي الإتقان : قال الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنة : إن كتاب القرآن ليست بمحدثة , فالنبي كان يأمر بكتابته ولكنه كان مفرقاً في الرقاع والأكتاف والعسب , فإنما أمر الصديق بنسخه من مكان إلى مكان مجتمعاً (1) قال : وفي موطأ ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر قال : جمع أبي بكر القرآن في قراطيس (2) قال : وفي مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : لما أصيب المسلمون باليمامة , فزع أبو بكر وخاف أن يذهب من قراء القرآن طائفة , فأقبل الناس بما كان معهم وعندهم حتى جمع على عهد أبي بكر في الورق , فكان أبو بكر أول من جمع القرآن في الصحف (3) فهذا كله صريح في أنه لم تكن هناك صحف غير المصحف التي كانت عند حفصة , وهي الصحف التي جمعها أبو بكر فأي صحيفة يعني بقوله " وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة " غير الصحف إلي كانت عند حفصة , ولو فرضنا أن هناك صحفاً غير المصحف التي كانت عند حفصة لما كان ينبغي أن تحرق أيضاً , بل كان الواجب أن تحفظ من الضياع بل تجعل في صوان لتبقى على الدهر أثراً من آثار النهضة الإسلامية يتوارثها المسلمون خلفاً عن سلف فإذا قلت : إن ما جاء في متن الحديث من قوله : " حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة " صريح في أنه ردها إلى حفصة ولم يحرق منها شيئاً , قلت : إن رد الصحف إلى حفصة واقع , ولكنه لا يستلزم أنه ردها بأجمعها , بل يجوز أنه أخذ منها ما أخذ فأدخله في المصاحف وترك ما ترك فلم يدخله فيها , ثم أمر بإحراق ما لم يدخله ورد الباقي إلى حفصة , خصوصاً وأن ما جاء في عبارة الحديث من قوله : " وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة " يقتضي ذلك ويدل عليه
بقي هنا قوله : " أو مصحف " الوارد في الحديث ( وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق ) , فيفهم من هذا أن هناك مصاحف كانت موجودة قبل أن يأمر عثمان بنسخ المصاحف نعم , إن الرواة فيما رووه قد ذكروا مصحفاً لابن مسعود , ومصحفاً لأبيّ بن كعب , ومصحفاً لابن عباس , وقد مرّ ذكر ذلك في أول البحث , ولعل هؤلاء كانوا يكتبون لأنفسهم مصاحفهم في حياة رسول الله , أو أنهم كتبوها بعد وفاة الرسول , فإن بين استنساخ المصاحف في زمن عثمان وبين وفاة الرسول ثلاثاً وعشرين سنة , فيجوز في هذه المدة أن بعض الصحابة كتبوا لأنفسهم مصاحف , وينبغي أن يقال لهذه المصاحف إنها مصاحف خصوصية كما تقول الناس اليوم 0 وظاهر عبارة الحديث يقتضي أن عثمان قد أحرق من هذه المصاحف الخصوصية ما لم يدخله من القرآن في المصاحف التي نسخها 0 ولا غرابة في ذلك فإنه كان الخليفة المطاع , فيجوز أنه أمر أصحاب هذه المصاحف أن يأتوه منها بالقرآن الذي لم يكتبه في مصاحفه فأتوه به وأحرقه
والخلاصة هي أن ظاهرة عبارة الحديث يدل بصراحة على أن عثمان لما استنسخ المصاحف من صحف حفصة قد نرك شيئاً من القرآن فلم يكتبه في المصاحف , وأنه أمر بإحراقه ويؤيد هذا روايات أخرى جاءت في كتب السيرة وغيرها من كتب القوم , ولنذكر لك بعضها مما يصح به ما قلناه ويؤيد ما استنتجناه
في الإتقان عند الكلام على الناسخ والمنسوخ قال أبو عبيدة إسمعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن أبن عمر قال ليقولن قد أخذت القرآن كله , وما يدريه ما كله , قد ذهب قرآن كثير , ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر (1)
وفي الإتقان أيضاً قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر , عن المبارك بن فضالة بن كعب , عن عاصم بن أبي النجود , عن زر بن حبيش قال لي أبيّ بن كعب : كأين , وفي بعض الروايات : كم تعد سورة الأحزاب ؟ قلت : اثنتين وسبعين آية أو ثلاثاً وسبعين آية , قال : إن كانت لتعدل سورة البقرة , وإنا كنا لنقرأ فيها آية الرجم , قال : إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم (2)
ملاحظة :
إن أبيّ بن كعب من كتاب الوحي وكان ممن عنوا بالقرآن كتابة وقراءة وحفظاً , فلا غرابة في أنه يعرف آية الرجم ولا يعرفها زر بن حبيش , والظاهر من قوله : " كنا نقرأ آية الرجم " أنه كان يقرأها قبل أن يأمر عثمان بنسخ المصاحف , وأنه ترك قراءتها بعد نسخ المصاحف , كما أن كلامه لزر بن حبيش كان بعد ذلك أيضاً , فيفهم من هذا أن عثمان لم يكتف بإحراق ما أسقطه من القرآن بل منع من قراءته أيضاً كما يدل عليه الحديث الآتي
في الإتقان أيضاً : حدثنا ابن أبي مريم عن أبي لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي مائتي آية , فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن (3)
وفي الإتقان أيضاً قال : حدثنا حجاج عن ابن جريح , أخبرني ابن أبي حميد عن حميدة بنت أبي يونس , قالت: قرأ عليّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ) (1) , وعلى الذين يصلون الصفوف الأولى , قالت : قبل أن يغير عثمان المصاحف (2)
وفي الإتقان أيضاً : أخرج الحاكم في المستدرك عن أبيّ بن كعب قال : قال لي رسول الله : إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن , فقرأ : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ) (3) , قال: ومن بقيتها " لو أن ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيه سأل ثانياً وإن سأل ثانياً فأعطيه سأل ثالثاً , ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب , ويتوب الله على من تاب , وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية , ومن يعمل خيراً فلن يكفره " (4) أقول : إن كان ما أسقطه عثمان من المصاحف كله من هذا القبيل , فقد أحسن إلى الإسلام وإن كان أساء من جهة أخرى )
يتبع
(1) الإتقان , 1/ 65 – (2) ن0م0 – (3) الإتقان , 1/ 65 – (4) الإتقان , 1/ 65 – (1) الإتقان , 1/ 59 – (1) الإتقان , 1/ 58 – (2) الإتقان , 2/ 59 – (3) ن0م0- (1) الإتقان , 2/ 25 – (2) اٌتقان , 2/ 25 – (3) الإتقان , 2/ 25 – (1) سورة الأحزاب , الآية : 56 – (2) الإتقان , 2/ 25 – (3) سورة البينة ’ الآية : 1 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب العراقي – معروف الرصافي 0
|