كتاب التأثير بالتكرير -كتاب قال وقل أو " كتاب الجدال بين التوحيد والشرك "
ما هو تعريف القرآن , وما هو أصله في العربية ولماذا وكيف اختلف عن لغة الشعر , أو النثر الذي كانت تستخدمه العرب , وكيف تم تفصيل الآيات القرآنية , وما سر ذلك
لقد وعدنا القارئ فيما تقدم بأننا سنكتب فصلاً في القرآن , وها نحن وفاءً بما وعدنا نقول :
القرآن أسم لكتاب أنزله الله على محمد بواسطة جبريل , وهو في الأصل مصدر لقرأت كالقراءة فسمي الكتاب المقروء من باب تسمية المفعول بالمصدر , وهذا أصح ما قيل في وجه تسمية كتاب الله بالقرآن
وقد قلنا فيما تقدم عند الكلام على " الخلوة في حراء " : إن محمداُ كان في خلوته تلك يفتكر في وضع الأساس الذي تقوم عليه الدعوة , وإنه بعدما قر رأيه على الأساس الذي تقوم عليه الدعوة أخذ يفتكر في الصور التي تقوم بها الدعوة , وبعبارة أخرى أخذ يفتكر في الواسطة التي يؤدي بها الدعوة , ومعلوم أن الدعوة إنما تقوم بالكلام , ولكن بأي صورة من صور الكلامية يصاغ ويسبك كلام الدعوة ؟ أيجعل الكلام شعراً منظوماً , أم نثراً مسجوعاً , هذا هو أهم ما كان محمد يفتكر فيه وهو في غار حراء ثم استقر رأيه على أن لا يجعل الكلام الذي تقوم به الدعوة شعراً يروى وينشد , بل يجعله قرآناً يقرأ ويحفظ
وسواء كان محمد يحسن قرض الشعر أم لا يحسنه , يبعد كل البعد عن ذكائه ودهائه أن يجعل الكلام في الدعوة شعراً منظوماً , لأنه يعلم أنه إذا جعله شعراً منظوماً لم يكن فيه إلا كأحد الشعراء الذين هم في زمانه أكثر من أن يحصوا , ولم يكن له التأثير في نفوس القوم أكثر من أشعار الشعراء المتألهين الذين رآهم وسمع شعرهم كزيد بن عمرو بن نفيل وكأمية بن أبي الصلت وغيرهما وكيف يجعله شعراً منظوماً وقد سمع كثيراً من شعر أمية وفهم ما فيه من العظات الدينية والصفات الإلهية وما انطوى عليه من قصص الأنبياء وأخبارهم , حتى أن محمداً قال عنه لما سمع بعض شعره بعد النبوة : " آمن شعر وكفر قلبه " , وهو مع ذلك علم أن شعر أمية هذا لم تقم له قائمة في نفوس العرب أكثر من شعر غيره من سائر الشعراء 0 قلنا : لم يجعل محمد الكلام الذي تقوم به الدعوة شعراً منظوماً
إن محمداً بما أوتي من فطنة واسعة وذكاء وقّاد قد ابتدع لكلامه الذي يؤدي به الدعوة أسلوباً لم تعرفه العرب , ولم يسبقه إليه أحد منهم , فجاء كلامه على هذا الأسلوب لا هو من الشعر المنظوم , ولا هو من النثر المسجوع , بل جعله جملاً تنتهي بفواصل , كل فاصلة منها تفصل الكلام الذي تقدمها عمّا بعده إما فصلاً تاماً في اللفظ والمعنى معاً , فيكون الكلام المختوم بها مستقلاً بمعناه ولفظه , منفصلاً عما قبله وعما بعده , وإما فصلاً غير تام أي في اللفظ فقط , فيكون الكلام المختوم بها مستقلاً في اللفظ فقط , وإن كان من جهة المعنى مرتبطاً بما قبله أو بما بعده 0 وقد سمّى كلا كلام ينتهي بفاصلة أية , فجاءت آيات القرآن كلها منفصلة على هذا النمط كما وصفها هو في القرآن إذ قال : ( كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون ) (1)
ثم إنه قسّم آيات القرآن إلى أقسام مختلفة في الطول والقصر , وسمى كل قسم منها سورة , ولم يراع ِ في تقسيم هذه الآيات إلى سور شيئاً من موضوعها ولا من زمان نزولها أو مكانه , بل قد تكون السورة الواحدة مشتملة على آيات مختلفة منها في الوعد ومنها في الوعيد , ومنها في قصص الأنبياء وأخبار الماضين , ومنها في الأحكام , ومنها في الحض على الجهاد في سيبل الله إلى غير ذلك من الأمور التي يتكلم عنها القرآن 0 وقد تكون في السورة الواحدة آيات متقدمة في الذكر وهي متأخرة في النزول وبالعكس , وقد تكون في السورة الواحدة آيات نزلت بمكة وآيات نزلت بالمدينة 0 وهكذا جاء في ترتيب الآيات والسور على هذا النحو بتوقيف من النبي , أو الذين جمعوا القرآن بعد وفاة النبي هم رتبوه على هذا الترتيب بلا توقيف منه , هذا ما سنتكلم عنه في موضع آخر والظاهر أن المقصود من تقسيم الآيات إلى سور متعددة هو تسهيل قراءتها وحفظها على القرّاء والحفّاظ ليس إلا
سنتكلم عن الفواصل قريباً , وإنما نريد أن نقول هنا : إن محمداً قد أصاب المرمى لما ابتكر لنفسه من هذا الأسلوب الكلامي الذي تقوم به الدعوة , إلا أنه لم يبعد فيه كل البعد عما كان معروفاً عند العرب , فإن القرآن بمجموعه يماثل الديوان من الشعر , والسورة منه تماثل القصيدة من الديوان , والآية من السورة تماثل البيت من القصيدة , والفاصلة في الآية تماثل القافية في البيت ومهما يكن فإن هذا الأسلوب المبتكر بالرغم من هذه المماثلة بأن يعد أسلوباً جديداً لم يكن فصحاء العرب يعرفونه ولا يألفونه
أما هذه المماثلة فلست أنا بأبي عذرها , بل إن أبو عذرها الجاحظ الذي قالها قبل أكثر من ألف سنة ففي الإتقان لجلال الدين السيوطي قال الجاحظ : سمّى الله كتابه مخالفاً لما سمّى العرب كلامهم على الجمل والتفصيل , سمّى جملته قرآناً كما سموا ديواناً , وبعضه سورة كقصيدة , وبعضها آية كبيت , وآخرها فاصلة كقافية (1)
ونحن لو أردنا أن نورد هنا ما جاء في كتب القوم من الأقوال والروايات في تسميته بالقرآن وغيره من الأسماء لطال الكلام بلا طائل , إن فيما تقدم من الكلام لكفاية لمن اكتفى بالقليل المستقر عن الكثير المنتشر
لو سأل سائل قائلاً : إذا أردنا أن نأخذ للقرآن اسماً مما يحتوي عليه من الكلام بحيث إذا ذكرنا ذلك الاسم على سامعه أنه القرآن فماذا نقول ؟ لجاز أن نقول في الجواب : إن هذا الاسم إما أن يكون مأخوذاً من أغراض القرآن ومعانيه وإما من ألفاظه ومبانيه 0 فإذا أردنا أن نأخذه من أغراضه ومعانيه قلنا : " كتاب التوحيد والشرك " , أو " كتاب الجدال بين التوحيد والشرك " , لأن معظم القرآن جدال ونزاع بين الشرك والتوحيد , وإن هذا الجدال هو المحور الذي تدور عليه جميع أغراض القرآن فقصص الأنبياء وأخبار الماضين , وضروب الأمثال , والوعد بالجنان , والإيعاد بالنيران , والأمر بطاعة الله والتكليف بعبادته , والتحريض على القتال والحث على بذل الأنفس والأموال , كل ذلك لم يجئ في القرآن إلا لقتل الشرك بالتوحيد وإن شئت فقل كلمة واحدة هي " لا إله إلا الله " كما قال محمد لقومه : " أعطوني كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم العجم " وإذا أردنا أن نأخذ له اسماً من ألفاظه ومبانيه قلنا : هو " كتاب قال وقل " لأنه ليس في الكتب السماوية , ولا في الكتب الأرضية كتاب يذكر فيه هاتان الكلمتان أكثر من القرآن , لا سيما " قل " فإنها إن كانت مذكورة فيها , وإلا فهي مقدرة في الأعم والأغلب من آيات القرآن , ومما اختص به القرآن في تراكيبه ومبانيه دون غيره من الكتب المنزلة وغير المنزلة كثرة الحذوف والمقدرات في التراكيب اقرأ كتب التفسير المطولة لا سيما التي عني مؤلفوها ببلاغة القرآن وفصاحته كالكشاف للزمخشري مثلاً , فإنك لا تكاد تجد آية خالية من حذف وتقدير , وإنما يقدر المفسرون هذه المحاذيف لتوجيه الكلام وتخرجه على وجه يكون به معقولاً ومفهوماً أكثر , وسنتكلم عن هذا في فصل خاص إن شاء الله فالبنظر إلى هذا يجوز أن نسمي القرآن " كتاب المحاذيف والمقدرات "
ونحن نعلم أن الحذف جائز في الكلام , بل قد يكون واجباً مما تقتضيه البلاغة وتستلزمه الفصاحة , ولكن الأصل في الكلام هو عدم الحذف , فإذا كان في الكلام حذف فلا بد من أمرين أحدهما المجوز أو المرجع للحذف , والآخر وجود قرينة في الكلام تدل على المحذوف , وإلا كان الكلام من المعميات والأحاجي , وكان المتكلم به كمن يقول : أيها الناس افهموا ما في ضميري نحن لا نقول إن مجاذيف القرآن كلها من قبيل المعميات , بل فيه من المحذوف ما تقتضيه البلاغة وتدل عليه القرائن , وفيه ما ليس كذلك كما سيأتي بيانه في فصل نكتبه فيه
ومما اختص به القرآن أو أمتاز به عن غيره من الكتب السماوية والأرضية : التكرار خذ القرآن واقرأ سورة منه " من السور الكبار طبعاً " , ثم انتقل ثم انتقل إلى ثانية بعد إتمامك الأولى مستمراً في القراءة , ثم انتقل إلى ثالثة , ثم إلى رابعة , فإنك بالنظر إلى الموضوع لا تشعر بأنك انتقلت من سورة إلى سورة , لأنك تجد مواضيع الكلام متكررة في كل سورة على اختلاف في التعبير وتفاوت في التركيب , وتجد في هذه المكررات في الأكثر تشتمل على ذكر الأنبياء وما جرى لهم مع أقوامهم الكفار , وعلى ذكر الجنة والنار والبعث والنشور , وعلى تقريع الكفار وتضليلهم بالشرك وإقامة الحجج على بطلان ما هم عليه من كفر وعناد , وإيعادهم بالعذاب الخالد في نار الجحيم , وعلى ذكر عظمة الله وقدرته المطلقة , وأنه خالق المخلوقات ومدبر الكائنات إلى غير ذلك مما هو مذكور في القرآن , ومن النادر أن تجد في السورة موضوعاً لم يتكرر في غيرها كقصة يوسف فإنها لم تذكر في غير سورة يوسف , وقصة أصحاب الكهف فإنها لم تذكر في غير سورة الكهف , وكقصة الخضر مع موسى فإنها لم تذكر في سورة أخرى , ومن العجيب الذي فوقه عجيب أن القرآن بتأثيره على نفوس قارئيه وسامعيه مدين لهذا التكرار, فليس من السهل ولا من المتعارف عند أولي البيان أن يكرر كتاب هذا التكرار فيخرج منه سليماً غير معيب إلا القرآن , فبالنظر إلى هذا يجوز أن نسمي القرآن " كتاب التأثير بالتكرير "
يتبع
(1) الإتقان في علوم القرآن
(2) سورة العلق , الآية : 01
(1) سورة فصلت , الآية : 3 0
(1) الإتقان في علوم القرآن
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب والشاعر العراقي – معروف الرصافي -
|