لا نعبد الله بثياب أذنبنا فيها
كيف كانت مناسك الحج قبل الإسلام , وما هي منافعها لقريش , وكيف كان يجري الطواف حول البيت وكيف كانوا يطوفون عراة
في العهد الجاهلي الأخير كانت الرئاسة الدينية والدنيوية لقريش لأنهم ولاة البيت , وكانت قبائل العرب كلها متساوية في أداء تلك الأفعال المسماة بالحج , فلا تمتاز قبيلة عن أخرى في مناسكه ولا في موقفه ولا في طوافه ولا في غير ذلك من شعائره , ولكن يظهر أن قريشاً في عهدها الأخير أخذتها العزة الأرستقراطية , فتحمست , أي تشددت , لنفسها في أمر الحج , فجعلت لها ما تمتاز به عن غيرها من العرب في بعض أفعال الحج , وصار القرشيون منذ ذلك العهد يلقبون أنفسهم بالحمس , جمع أحمس , لتحمسهم في دينهم
أما هذه الأمور التي امتازت بها قريش فاسمعها من ابن إسحق , قال : وقد كانت قريش – لا أدري قبل الفيل أو بعده – ابتدعت رأس الحمس رأياً رأوه وأداروه , فقالوا : نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة , وولاة البيت , وقطان مكة وساكنها , فليس من العرب مثل حقنا , ولا مثل منزلتنا , ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا , فلا تعظموا شيئاً من الحل كما تعظموا الحرم , فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم , وقالوا : قد أعظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم , فتركوا الوقوف بعرفة , والإفاضة منها , وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم , ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها , إلا أنهم قالوا : نحن أهل الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس , والحمس أهل الحرم (1)
قال ابن إسحق : ثم ابتدعوا في ذلك أموراً لم تكن لهم حتى قالوا : لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط ( أي يتخذوه ) , ولا يسلئوا السمن ( أن يطبخوه ويعالجوه للتصفية ) وهم حرم , ولا يدخلوا بيتاً من شعر , ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيود الأدم ما كانوا حرماً
ثم رفعوا في ذلك فقالوا : لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم , إذ جاءوا حجاجاً أو عماراً , ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس , فإذا لم يجدوا منها شيئاً طافوا بالبيت عراة , فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة , ولم يجد ثياب الحمس , فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل , ألقاها إذا فرغ من طوافه , ثم لم ينتفع بها , ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبداً , وكانت العرب تسمي تلك الثياب اللقى , فحملوا على ذالك العرب , فدانت به , ووقفوا على عرفات , وأفاضوا منها , وطافوا بالبيت عراة , أما الرجال فيطوفون عراة , وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا درعاً مفرجاً عليها ثم تطوف به (2) فيفهم من هذا أن العرب كانت قسمين , حمساً وغير حمس , وأن الحمس هم قريش أهل الحرم , وغير الحمس سائر العرب , قال الحلبي في سيرته : والحمس هم / 713/ قريش وما ولدت من غيرها , فإنهم كانوا لا يزوجون بناتهم لأحد من أشراف العرب إلا على شرط أن يتحمس أولادهم , فإن قريشاً من بين قبائل العرب دانوا بالتحمس ولذلك تركوا الغزو لما في ذلك من استحلال الأموال والفروج ومالوا للتجارة , قال : ومن ثم يقال قريش الحمس , سموا بذلك لتشددهم في دينهم لأن الحماسة هي الشدة (3)
فامتيازات قريش التي جاءت في كلام ابن إسحاق هي هذه :
1- أنهم لا يعظمون شيئاً من الحل , وعليه فلا يقضون في عرفة يوم الحج , ومعلوم أن عرفة مشعر من مشاعر الحج إلا أنها من الحل وليس من الحرم , فلذلك تركت قريش الوقوف بها والإفاضة منها , وصارت تقف في المشعر الحرام الذي هو مزدلفة , وسائر العرب يقفون في عرفة ويفيضون منها
2- أنهم يطوفون بالبيت في ثيابهم وليس لأحد من العرب أن يطوف في ثيابه التي جاء بها من الحل , بل عليه أن يخلعها ويستعير أو يكتري له ثوباً من ثياب الحمس فيطوف به , فإن لم يجد كان يطوف بالبيت عريان , قال الحلبي في سيرته : وكان لا يطوف الواحد منهم بثوب إلا بثوب من ثياب الحمس وهم قريش يستعيره أو يكتريه , وإذا كان بثوب من ثيابه ألقاه بعد طوافه فلا يمسه هو ولا أحد غيره أبداً , وكانوا يسمون تلك الثياب اللقى , وفي الكشاف : كان أحدهم يطوف عريان ويدع ثيابه وراء المسجد , وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله بثياب أذنبنا فيها , وقيل تفاؤلاً بأن يعروا من الذنوب كما يعرون من الثياب , وكانت النساء يطفن كذلك, وقيل : كانت الواحدة تلبس درعاً مفرجاً , قال : وقد طافت امرأة عريانة ويدها على قلبها وهي تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله (1)
3- أنهم لا يأتقطون الأقط ولا يسلئون السمن وهم حرم , أي لا يمتهنون أنفسهم في مهنة ولا يظهرون مظهر عامة الناس بأن يفعلوا شيئاً هو من شأن العامة والفقراء , لأنهم في أثناء الحج يريدون أن يظهروا مظهر الأبهة والسيادة والشرف لأنهم الرؤساء المهيمنون على البيت والمسيطرون على الناس في أثناء الحج
4- أنهم لا يدخلون بيتاً من شعر , ولا يستظلون إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرماً , وهذا أيضاً كالذي قبله أي أنهم يريدون في أثناء الحج أن يظهروا مظهر الأبهة والعظمة لأن بيوت الأدم هي للإشراف والسادة بخلاف بيوت الشعر فإنها لسائر الناس
5- أنهم يدخلون البيوت من أبوابها وهم حرم , وليس لغيرهم ذلك , فإن العرب كانوا إذا أحرموا في الحج لم يأتوا بيتاً من قبل بابه ولكن من قبل ظهره , وكانت هذه العادة كالعبادة عندهم في الحج , أما قريش فاستثنوا أنفسهم من ذلك , فكان أحدهم يدخل البيت من بابه وهو محرم , ليمتازوا بذلك عن سائر العرب ويظهروا مظهر السيادة والعظمة
وظاهر عبارة ابن إسحاق في قوله : " فحملوا على ذلك العرب فدانت به " يقتضي أن وقوفهم بعرفات , وطوافهم بالبيت عراة , لم يكن من القديم بل ابتدعته لهم قريش , ولكن الواقع خلاف ذلك لأنهم كانوا من القديم يقفون بعرفات ويطوفون بالبيت عراة , ثم إن قريشاً استثنت نفسها من ذلك ترفعاً على الناس وتعالياً عليهم وتعظماً عن مساواتهم لتجعل لنفسها بذلك منزلة فوق منزلة سائر العرب
ويدل على أن طوافهم بالبيت عراة كان من القديم أمران , أحدهما تعليلهم ذلك بأنهم لا يريدون أن يعبدوا الله بثياب أذنبوا فيها , فإنه يقتضي أن هذه العادة موجودة عندهم من القديم لا أن قريشاً ابتدعتها لهم , والثاني أن رسول الله لما نزلت سورة براءة وقد أمر فيها أن ينبذ إلى المشركين عهودهم , أرسل علي بن أبي طالب إلى مكة ليقوم في الموسم فيبلغهم ذلك , فقرأ علي براءة يوم النحر وقال : لا يحج بعد العام مشرك , ولا يطوف بالبيت عريان (2) , فلم يمنعهم من الحج فقط بل منعهم من التعري في الطواف أيضاً , فإدخال ذلك في المنع يدل على أنهم كانوا يريدونه كما يريدون الحج , وأنهم يتعبدون به ولا يرضون تركه لأن عبادتهم من القديم , ولو كانت قريش هي التي أحدثته لهم وحملتهم عليه لما تعصبوا له ولا تشددوا في التمسك به , فالصحيح أن تعريهم في الطواف قديم وأن قريشاً إنما ابتدعت استثناء نفسها منه ترفعاً وتعظماً
إبطال هذه الامتيازات
( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) (1) أي من عرفات و يعني قريشاً والناس والعرب , فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها , وجاء في إبطال التعري في الطواف قوله : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) (2) أي خذوا ريشكم ولباس زينتكم / 716/ كلما صليتم أو طفتم , وجاء في إبطال إتيانهم البيوت من ظهورها قوله : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وائتوا البيوت من أبوابها ) (3)
يتبع
(1) السيرة الحلبية , 3/ 102 – 103 0
(1) سيرة ابن هاشم , 1/ 199 0
(2) سيرة ابن هاشم , 1/ 2020
(3) السيرة الحلبية , 1/ 209 0
(1) السيرة الحلبية , 3/ 210 – 211 ؛ الكشاف , تفسير الآيات 1-3 من سورة التوبة , تفسير سورة الأعراف , الآية 31 0
(2) السيرة الحلبية , 3/ 210
(1) سورة البقرة , الآية : 1990
(2) سورة الأعراف , الآية : 31 0
(3) سورة البقرة , الآية : 189 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب العراقي – معروف الرصافي 0
|