الامبراطورية الفارسية هي اول امبراطورية ظهرت في الحضارة الانسانية، وقد حصلت على سمعة سيئة، بسبب ان اغلب اخبارها وصلت الينا عن طريق المؤرخ الاغريقي هيرودوتوس Herodotos, (480-420), قبل الميلاد، والذي كتب التاريخ من وجهة نظر الاغريق التي كانت في حرب مع فارس. هيرودوتوس، لم يعايش الفرس، وانما نقل اخباره عن شهود وروايات، واحيانا اضاف تثميناته الخاصة لمستوى الحقيقة في الروايات.
حسب اعتقاد المؤرخين الحديثين، فإن وصف هيرودوتوس لحملة الملك الفارسي كامبيسيس Kambyses, على مصر، هي التي اعطت السمعة السيئة. المؤرخين الاغريق يقدمون صورة سادية ، من بينها الادعاء ان الملك قام بإخراج اجساد الفراعنة المحنطة ليجلدها ويقطعها وينتف شعرها، ومن ثم يحرقها، مع ان المصريين يحنطون موتاهم من اجل ان تبقى الى الابد.
في ابوذية اخرى، يقوم هيرودوتوس بوصف احتفال ديني، حيث يقوم الملك الفارسي كامبيسيس بإعتقال كبير كهنة المعبد المصري، ويطعنه في فخذه، ثم يقوم بجلد كهنة المعبد وإعدام نصفهم.
ان يكون هذا الوصف مجرد كذبة، يمكن ان نحصل على سند له في الهيروغليفات المصرية، التي تقدم لنا صورة معاكسة تماما عن الملك كامبيسيس. وثيقة من معبد Apis-tjur, وشهادة قائد البحرية الفرعونية Uza-Hor-resnet, يصفون لنا كيف قام الملك الفارسي بإفتتاح مجمع لمعابد، التي دمرها الجيش الاغريقي، وأعاد الفرس تجديدها وقدموا القرابين لالهة المعبد.
وصف هيرودوتوس لمعركة ثيرموبيلن Themopyle, من المحتمل تماما ان يكون منطلقا من رؤية المنتصر، الذي يصور الامور من نظرة " امبراطورية ضخمة تهاجم مجموعة صغيرة" ضعيفة، مع التركيز النقاط السلبية، تماما على خطى اسطورة دافيد وجالوت. في السنوات الاخيرة قام العديد من المؤرخين بالبحث والمقارنة مع مصادر تاريخية اخرى، مما اعطى صورة اكثر انسانية عن ملوك فارس، بما فيهم الملك كيروس، وهو من ملوك القبائل الاخمينية البدوية والذي احتل نصف العالم.
كيروس كان اول امبراطور وعلى الاغلب، ارفعهم اخلاقا. حوالي عام 550 قبل الميلاد تمكن من الانتصار في الصراع على السلطة ضد غريمه ملك الميديين. على عكس ملوك عصره، لم يقم بقتل غريمه المنهزم وانما عينه والياً على احدى الولايات. بالمقارنة مع الاشوريين، الذين كانوا يملكون اساليب وحشية ضد المخالفين لهم، او المنهزمين امامهم، حيث كان يجري سلخهم احياء، كانت معاملة كيروس لاعدائه مستوى اخلاقي جديد لم يعرفه معاصريه، على الرغم من انه لايتطابق مع الرؤى الاخلاقية العصرية التي تدين احتلال الشعوب. تحت إدارة كيروس تم توسيع رقعة الاراضي المسيطر عليها لتصبح فارس اول امبراطورية عالمية متعددة القوميات والثقافات. في امبراطوريته كان من حق السكان (دافعي الضرائب) ليس فقط الاحتفاظ بمعتقداتهم الدينية وطقوسهم، بل وان الامبراطور كان مهتم للغاية بالمستوى المعاشي لهم. الواجب الوحيد الذي كان يلقى على عاتق السكان هو دفع الضريبة والانضمام الى الجيش عند الحاجة.
حسب تصورات كيروس نفسه، كان انضمام الشعوب الى حكمه هو تعبير عن رغبتهم الحرة. هذا الامر مكتوب في اسطوانة كيروس والمحفوظة في المتحف البريطاني، والتي تضمن ايضا الحق بالاعتقاد والانتماء القومي ومنع للاضطهاد والعبودية، وايضا الحق في الخضوع للامبراطور او رفضه. من الواضح ان العديد من الشعوب " اختارت" الخضوع، لان مملكة فارس عند وفاته عام 529 قبل الميلاد، كانت تمتد من من نهر الهندوس في الشرق الى البحر الكاريبي وبحيرة الاورال في الشمال والى حوض البحر المتوسط وبحر ايجه في الغرب.
لايوجد مايدل على ان الاغريق الذين خاضوا معركة ثيرموبيل دفاعا عن حريتهم، انهم قاموا بالتوقيع على عقد انضوائهم في مملكة فارس، او ان الشعوب الاغريقية على طول سواحل اسيا الصغرى والذين اُجبروا على النزوح الى جنوب اهوار حوض الفرات ، كانوا يرغبون ان يصبحوا مُحتلين من قبل الفرس. وعلى الاغلب، فإن الوثيقة التاريخية تقدم لنا رؤية كيروس عن واقع مثالي، وانه الشعوب تنظر اليه بعيون الخلاص، كما عهدنا نظرة الفاتحين، من اجل تبرير فتوحاتهم والهروب من عارها.
بعد كيروس ورث العرش الامبراطور كامبيسيس، الذي قام بفتح مصر. بعده جاء دوريوس، الذي قام ببناء المجمع القيصري في بيرسبوليس وانشأ نظام الادارة، والذي تابع الملوك اللاحقين تطويره. داريوس قام بتقسيم الامبراطورية الى 20 مقاطعة ادارية، والذي سماهم ساترابيير. كل واحدة منها جرى ادارتها من قبل " ساتراب"، اي محافظ. بعد ذلك قام بحساب المبلغ الاجمالي الذي على كل ساتراب ان يجمعه من شعب محافظته، كضريبة. في زمن كيروس لم تكن هناك قواعد ثابتة لتنظيم الضريبة، حيث كل منطقة كانت تدفع ماتقوى عليه ببضائع من منتجاتها. لهذا السبب كان الفرس يقولون ان كاريوس كان الاب، في حين ان داريوس كان التاجر. كامبيسيس كان قيصراً قاسياً، ولهذا السبب كان يوصف بالديكتاتور.
الامبراطورية الفارسية لم تكن فقط واسعة، وانما ايضا غنية ثقافيا، ، إذ نجد ان حسب هيرودوتوس، كان الفرس يقبلون بكل ممنونية الاقتباس من عادات القوميات الاخرى الكثير منهم كانوا يرتدون ملابس على طراز الميديين ويحاربون مستخدمين ادوات مصرية. من الهلينيين تعلموا اللواط، في حين كان من عاداتهم تعدد الزوجات وتعدد العشيقات. كانوا يسعون الى الحصول على اكبر عدد ممكن من الاطفال، وعندما يبلغ الاطفال عامهم الخامس يعلموهم ثلاثة اشياء: الفروسية ورمي القوس والصدق. الكذب كان اسوء الصفات التي يمكن اهانة الفارسي بها، وثاني اسوء صفة هي الدين، لان من يكون مديون يعتبر كذاب.
الاغريق كانوا يتهمون الفرس بإتباعهم حياة التبذير. والسبب ان الفرس كانوا يحتفلون بالعديد من الاعياد، بما فيها اعياد الميلاد الفردية، وعندها يقدمون الكثير من الطعام والشراب. الاغنياء يضحون بالثيران والحصان والجمال والحمير، في حين ان الفقراء يضحون بالخرفان والماعز. بعد الوجبة الرئيسية يجري تقديم الحلويات المنوعة. وفي الوقت الذي كان الاغريق يصفون حياة الفرس بأنه تبذير، كان الفرس يصفون الاغريق بأنهم لايشبعون، إذ ان الاغريق لم يكونوا يتناولون الحلويات بعد الطعام، الامر الذي جعل الفرس يعتقدون انهم لم يأكلوا وجبة كاملة، وبالتالي ينهون اكلهم بدون ان يشبعوا. الخمر كان مرغوب للغاية، وكانوا يناقشون امورهم وهم سكارى. نتائج المناقشة يقدمها صاحب الحفل في اليوم التالي، وإذا كان الطرفان لازالا موافقين عليها يجري عندها الاتفاق، والا فتلغى.
عندما يتعلق الامر بالتحية والعادات، كان الاغريق والفرس مختلفين تماما. الفرس كانوا يحيون بعضهم بالقبلات على الفم عند الالتقاء في الشارع، إذا كان الطرفين من مستوى اجتماعي واحد، وإلا يكتفون بالقبلات على الخد. في حين ان الاغريق كانوا يسلمون على بعضهم بتبادل الكلمات.
في القديم كان الفرس هم العدو التقليدي للاغريق، تماما كما هي اسرائيل اليوم للعرب. التاريخ بالنسبة للاغريق كان يؤشر بحرب الفرس. احدى الاشعار نجد فيها التعبير التالي "كم كان عمرك عندما جاء الفرس". بالنسبة للاغريق كانت الحرب التي خاضوها لصد الفرس ، مصيرية، في حين انها كانت بالنسبة للفرس، مجرد معركة بعيدة على الحدود الخارجية للامبراطورية.
الحرب الاولى اعلنها الامبراطور الفارسي داريوس، عام 490 قبل الميلاد. لقد خسر معركته مقابل قوة اغريقية صغيرة في موقعة ماراثون الشهيرة. الاسبارطيين وصلوا لنجدة الاغريق بعد ان انتهت المعركة لصالح الاغريق، وقتلوا الاف الفرس. الاغريق خسروا اقل من 200 جندي. بسبب هذه المعركة ظهر سباق الماراثون، لتقليد الجندي Pheidippides, الذي ركض مسافة 40 كلم، لينقل بشارة النصر الى اثينا. بعد عشرة سنوات اعتلى الابن اكسيركسيس العرش الفارسي، بعد وفاة داريوس، ليقوم بإرسال الجيش، في محاولة اخرى لضم الاغريق. بعض مدن الاغريق كانت موالية للامبراطور الفارسي، في حين ان اثينا واسبارطة رفض الانصياع له، وكانوا مصرين على الدفاع عن حريتهم.
المعركة الاولى بينهم جرت في ممر ضيق قرب Thermopyle, وحتى في البحر. الاغريق خسروا المعركة، والفرس، حسب هيرودوتوس، قاموا بالتمثيل بجنود اسبارطة ووضع رأس القائد على الاعمدة. الاغريق انسحبوا الى جزيرة سلاميس جنوب مدينة اسبارطة، حيث كان ينتظرهم اسطولهم، في حين استمر الفرس داخل بلاد اليونان. في طريقهم، قام الفرس بحرق اثينا، بعد ان كان سكانها قد هربوا منها. الاغريق تمكنوا من جذب الاسطول الفارسي الى مصيدة نصبوه له قرب جزيرة سلاميس. اغلب سفن الفرس غرقت، والامبراطور اكسيركسيس Xerxes, انسحب على عجل مع باقي الجيش.
بعد انسحاب الفرس، قام القائد الاسبارطي Pausaias, بالدخول الى خيمة الامبراطور الفارسي التي تركها خلفه في المعسكر، ليندهش من الترف الهائل الذي واجهه. جدران الخيمة من المخمل، وسجاد الخيمة تطفح منه العطور، وممتلئة بالفرش الغالي واواني من الذهب والفضة. في الوقت كان الاغريق ينظرون الى الفرس على انهم كالنساء في ترفهم وحياتهم، ومتطالباتهم وسعيهم للرفاه وابتعادهم عن الحياة الخشنة. القائد الاسبارطي طلب من طباخ الملك الفارسي ان يقوم بتحضير طبق من الطعام على النمط الفارسي. كانت الادوات جميعها متوفرة، وجاهزة امامه، وعندما اصبح الطعام جاهزا طلب منه ان يجهز صحن من الحساء الاسبارطي ويضعه قريبا منه. بعد ذلك قام بدعوة ضباطه المقربين من اجل ان يروا بأم عيونهم كلا الوجبتين ويقارنوا جنون ملك الفرس ولاعقلانيته. عندما يرى المرء هذا الترف والغنى الفاحش، لماذا يحتاج من يملك مثله الى الابحار هذه المسافات البعيدة من اجل ان يستولي على بلاد الاغريق الفقيرة؟
خارج الخيمة كان الجنود الاسبارط والاغريق يقومون بنهب جثث الجنود الفرس، ويجمعونه الى جانب الموجود في الخيمة، ليصبح تلة كبيرة. قسم من هذه الثروة جرى استخدامها من اجل إقامة نصب اثينا، الذي نحته الفنان فيدياس، امام معبدها، والذي جرى بناءه بعد الحرب في مدينة اكروبوليس. لقد كان اجمل نصب للحرية، كتذكرة لليونانيين عن جهودهم التي مكنتهم من تفادي من الاحتلال االفارسي.
العديدين طرحوا حاجة الفرس للحصول على المزيد من الغنى. الاباطرة الفرس كانوا يعتبرون ان حدود دولتهم متحركة، وان الامبراطورية يمكن توسيعها الى اللانهاية. على الاخص كان داريوس يخلط بين احلامه وبين إدعائه بأن واجباته الدينية تحضه على الفتح، من اجل نشر ديانة فارس بين " الكفار"، وهو ذات المبدء الذي اقتبسه المسلمين لاحقاً. حسب الامبراطور داريوس، يجب على جميع البشر ان يعبدوا الاله الاعلى آهورا مازدا، Ahura Mazda, جل جلاله. هذه الديانة حصلت على اسمها من النبي زرادشت، Zarathustra, صلى آهورا مازدا عليه وسلم، وتعتبر الشكل الاول للديانة التوحيدية، وقد اقتبس عنها اليهودية والاسلام، العديد من مضامينها.
أهورا مازدا كان الاله العالمي الاول، وهو رب الارباب. كان له وجهين، وجه النور (الخير) ووجه الظلام (الشر). حياة البشر عبارة عن اختيار بين احد هذين الوجهين، ولذلك فأينما وليت وجهك، هناك وجه آهورا مازدا. النار كان احد الزوايا الرئيسية في هذا الدين. لقد كان يرمز الى الضوء، النور، وبالتالي وجه آهورا مازدا جل جلاله، ومغزى الحقيقة، وكان على الدوام موجود في المعابد، حيث يرمز للوجود الازلي لنور آهورا مازدا.
zoroastrismen, or Zoroastrianism, كان هو الدين الرسمي في عهد داريوس، مع ان السكان كانوا يملكون الحق ان يبقوا على ديانتهم القديمة. حتى اليوم لازال هناك 30 الف ايراني يعتنقون هذا الدين. في بومباي الهندية توجد طائفة كبيرة تتجاوز 100 الف شخص، لازالت تعتنق هذا الدين القديم، ولها معبدها.
الامبراطورية الفارسية بقيت لمدة 200 سنة، الى ان جاء الكسندر الكبير، فأجتاحها من الغرب، وقلب العالم كله خلال عشرة سنوات. الكسندر الكبير (الاسكندر الاكبر)، ملك مقدونيا، وهي منطقة واقعة الى شمال اليونان، هاجم في البدء اليونان وقام بتوحيد مدنها مع مدينته، وخلق مملكة موحدة كان هو على رأسها. عائلة الكسندر تعتبر نفسها ذات اصول يونانية، ولذلك، فأجتياح الكسندر الكبير لفارس عام 334 قبل المسيح، كان جزئيا انتقام لحرب فارس ضد اليونان، قبل 150 عاما ولكونهم اقتطعوا المدن اليونانية في اسيا الصغرى.
لقب " الكبير" الذي كان يحمله الكسندر، لم يكن يدل على جسمه، إذ انه كان ضعيفا للغاية، الى درجة ان اقدامه لم تكن تصل الى ارض عندما جلس على عرش الامبراطور الفارسي، والذي كان اسمه داريوس الثالث. ولكنه لم يجلس طويلا، إذ ان هدفه، لم يكن احتلال امبراطورية فارس واحراق عاصمتها فارسبوليس، كما احرقوا اثينا، وانما كان احتلال العالم، او اكبر مساحة منه. لقد تمكن من ذلك خلال عشرة سنوات، ومات عام 323 قبل المسيح.
تحت ظل حكم الكسندر الكبير تحقق حلم الاباطرة الفرس بتوحيد فارس واليونان، ولكن تحت حكم الاغريق. لقد كان ذلك بداية العصر الهيليني، حيث الحضارة الفارسية المتعددة الثقافات اضيفت اليها الثقافة اليونانية ايضا.
نقلا عن موقع الذاكرة