خصائص وقدرات التذوق الحسي البشري
خصائص وقدرات التذوق الحسي البشري
إن الإنسان مزود بخصائص وقدرات حسية هائلة التنوع وأكثر بكثير مما نتصور, فإذا أخذنا الأحاسيس الصوتية كمقياس, نجد أنه يمكن اعتبار كل حاسة بشرية أخرى تشبهها من حيث التنوع الذي يمكن الحصول عليه بالتلاعب بالدرجات و الترددات و الطبيعة.
وكذلك هناك التنوع نتيجة الترابط والجمع والتداخل بين أنواع الحواس, فأحاسيس الطعام والشراب, وأحاسيس الحب , واللمس, والشم , والنظر.... وما تصاحبها من انفعالات متنوعة كثيرة, كلها يمكن العزف عليها مجتمعة في وقت واحد, كما تعزف الألحان الموسيقية في اوركسترا وبذلك نكون ما يشبه الأوركسترا التي تعزف أنواع الأحاسيس معاً.
وبالإضافة لذلك هناك الأحاسيس المتطورة والخاصة بالإنسان وحده مثل الأحاسيس الدينية والفلسفية والفكرية, والأحاسيس التي نجمت عن الفنون وبشكل خاص الأدب والسينما.
إن إمكانية التذوق الحسي البشري بكافة مجالاته بما فيها الأحاسيس المتطورة تمكن الإنسان من تذوق وجبات حسية أوسع وأكثر تنوعاً وغرابة مما نتصور, وهذا ما يجعل الوعي والإدراك البشري مميزاً عن باقي الكائنات الحية .
عندما نشاهد أو نعيش أحلامنا نحسها بشكل مختلف إن كان سعادة أو ألماً أو رهبةً وخوفاً أو حباً وشوقاً أو غضباً و حقداً....., فاحساسنا ووعينا أثناء لأحلام في أغلب الأحيان مضخم ومبالغ فيه, إننا ننسى غالبيتها بعد الاستيقاظ ولا نهتم إلا بالقليل منها والذي يكون قد أثر فينا بقوة كبيرة , إن هذه الأحاسيس أو هذا الوعي الذي نعيشه أثناء الأحلام هو دليل على قدراتنا الحسية والفكرية الهائلة.
وهذا جعل الكثيرين يميزون الوعي البشري عن وعي باقي الأحياء بالنوع وليس بالدرجة فقط .
الملاحظ أن غالبيتنا يقتصرون أو يتعودون على وجبات حسية معينة وفي مجالات معينة ويدمنون على تناولها,إلى حد يصعب أو يستحيل عليهم تناول وتذوق وجبات أخرى مختلفة عنها, إن بنيتنا الفسيولوجية والعصبية بالإضافة إلى بنيات المجتمع و غيرها من البنيات تفرض علينا وجبات حسية معينة وأيضاً تقيد خياراتنا في تناول وتذوق الوجبات .
ومع هذا يمكننا أن نوسع مجال وتنوع خيارات تذوقنا , إن الطفل لا يتناول في أول الأمر إلا الوجبات القادر على تناولها المقدمة له من قبل مربيه , وهي المفروضة عليه غالباً ولكنه يبقى تابعاً لخيارات مربيه التي تكون تابعة بشكل كبير للمجتمع الذي يعيشون فيه, وبالتالي يتعود عليها ويدمن على تناولها, وكذلك الكبار فمجتمعهم وخصائصهم الفسيولوجية تفرض وترسخ إدمانهم على وجبات معينة من الطعام والشراب والحب ...., والكثير من العادات والشعائر والعلاقات الاجتماعية هي بمثابة وجبات.
لقد توسعت الخيارات المتاحة للإنسان لتناول الوجبات الحسية بشكل هائل وأصبح أمام خيارات واسعة جداً, ومع ذلك فالكثيرون منا محافظون ولا يرغبون ولا يسعون إلى التغيير أوالتجديد مع أن المتاح لهم يمكنهم من تذوق أحاسيس لا تقارن من ناحية الجمال واللذة والسعادة بما تعودوا على تناوله من وجبات وأدمنوا عليها .
الفن والوجبة
ما هو الفن؟ لماذا يمارسه الإنسان بهذه الرغبة وهذا الشغف؟
الفن هو كل الأعمال البشرية التي تحدث الأحاسيس والانفعالات المرغوبة أي كل جميل وممتع أو مرغوب , وينشئه الإنسان بدافع ممارسة وتذوق الأحاسيس والمشاعر أوالأفكار, وذلك نتيجة دوافع فكرية ومادية ذاتية واجتماعية.
وهدف الفن في المحصلة هو إحداث الأحاسيس المرغوبة للذات أو للآخرين , والفن بذلك ينمي و يوسع الأحاسيس والمشاعر والوعي والإدراك للذات والوجود .
إن الإنسان يستخدم كافة العناصر والإمكانيات المتاحة له ليشكل إنتاجه الفني فهو يستخدم إما الأصوات والنغمات والإيقاعات أو الخطوط والأشكال والألوان أو المأكولات أو الكلمات والمعانيأو المنشآت والمباني ... وكل ما ينتج أحاسيس الممتعة لديه ولدى الآخرين , وأي انتاج فني لا يمكن الإحساس به و تذوقه من قبل الآخرين إلا إذا كانوا قادرين على تلقي رموزه وإشاراته وتأثيراته ويستطيعون الاستجابة لها وتمثل ما تحدثه من أحاسيس, فهناك ما يشبه الإرسال والاستقبال في عملية تلقي الفن وتذوقه, فيجب ن تراعى خصائص المستقبل وقدراته .
إن الفنان يبدع أو يحضر وجبة يمكن أن يتناولها بعض الناس فيتذوقوها وتحدث لديهم أحاسيس جميلة أو لذيذة أو مدهشة أو عجيبة ....أي مرغوبة , ويستهدف الفنان غالباً عند صنع أوإبداع عمله فني الأحاسيس والأفكار والدوافع المشتركة بينه وبين هؤلاء الذين يقدم لهم إنتاجه الفني , فبواسطة قدراته والعناصر والآليات التي يستعملها يقوم بإنتاج عمله الفني , فإذا أحدثت التأثيرات المطلوبة أوأي تأثيرات مرغوبة لدى الذين تلقوها وتناولوها وتذوقوها, يكون عندها نجح في إنتاج وجبة قابلة للتسويق والطلب عليها , بالإضافة إلى أنه يكون حقق دوافعه الذاتية التي كانت سبباً ودافعاً لإنتاج تلك الوجبة.
والفنان المبدع المتمكن من فنه وصنعته- بوعي وإدراك وعلم أو بدون ذلك- هو المتمكن من معرفة أو حدس خصائص الأحاسيس لديه ولدى جمهوره, بالإضافة لتمكنه من العناصر والآليات التي يستعملها في فنه ويوظفها بفاعلية جيدة, فهو متمكن من قرع- أوعزف- الأحاسيس المطلوبة والمرغوبة في عقول الذين يستهدفهم بفنه .
ويمكن أن يفشل الفنان في جعل الآخرين يتأثرون ويتذوقون فنه مع أنه أنتج فناً يمكن أن يحدث الأحاسيس الجميلة واللذيذة, وذلك لأنه لم يقدم إنتاجه للذين يستطيعون تناوله وهضمه والقدرة على تذوقه, أو لأن الذين يستطيعون تذوق فنه قلائل جداً, وهذا يجعل إنتاجه غير صالح للتسويق, وبالتالي يهمل .
الفن والأدب والوجبات الحسية
إن الأدب بشكل خاص يمتاز عن باقي الفنون في قدرته على تنويع وتوسيع الأحاسيس التي يقدمها كوجبات فنية, فالأحاسيس التي يستطيع الأدب أن يحدثها لدى متلقيه هائلة التنوع والاتساع وعالية التطور, فحتى السينما وقدراتها الهائلة لا تستطيع أن تنافس الأدب في مجالات كثيرة, وهي لابد أن تستعين بالأدب .
فللأدب قدرة على كشف وتمثيل- ترميز- أعقد الأحاسيس والمشاعر والأفكار الإنسانية ونقلها إلى الآخرين, وقد بلغت قدرات الأدب الآن مستويات عالية جداً في إحداث الأحاسيس والمشاعر المتطورة والمعقدة, إن المشاعر والأحاسيس والانفعالات التي يخلقها الأدب لا يمكن أن تبزها أية مشاعر أخرى, فحتى الواقع الافتراضي – الآن- لا يمكنه أن يتفوق على الأدب, إلا إذا استعان بالأدب نفسه .
إن قراءة رواية أو مسرحية... هو بمثابة أن نعيش ونشعر أحداثها وحياة شخصياتها, أما قراءة نقد أدبي متطور فهو بمثابة أن نعيش ونشعر ونعي وندرك حياة البشر والعلاقات في هذا الوجود.
إن الأدب ليس هدفه الأساسي المعرفة أوالإصلاح والإرشاد فهو يتجاهل الكثير من المعارف الأساسية في أحيان كثيرة, وذلك في سبيل عزف الأحاسيس والانفعالات المطلوبة لدى متلقيه.
إن الدين من أهدافه أيضاً عزف الأحاسيس الجميلة والسعيدة ولكن ليس هذا هدفه الأساسي فهدف الدين الأساسي هو الخير والمفيد للفرد وللمجتمع , وهذا يجعل الدين يتفوق على الأدب في إقبال الناس عليه وهذا ما نلاحظه بوضوح.
هناك فن بدأ يتشكل وينمو بسرعة إن هذا الفن سوف يمكننا مستقبلاً- وهذا ليس ببعيد- من تذوق وعي وأحاسيس تماثل ما نعيشه أثناء الأحلام ولكن في المجالات التي نريد ونرغب بها وبالخصائص والمقدار والشدة التي نريد , فالأحاسيس التي يتم تذوقها من قراءة أو سماع قصص ألف ليلة وليلة أو غيرها من القصص والملاحم والأساطير.. وكذلك ما يمكن تذوقه من أحاسيس ومشاعر وانفعالات من ممارسة كافة هذه الأنواع بالإضافة إلى أحاسيس الأحلام كل هذا سوف يكون متاحاً مثله وأكثر بواسطة فن الواقع الافتراضي .
فهذا الفن سوف يمكننا من عزف الأحاسيس والمشاعر والانفعالات التي نريد لدى أي إنسان, فالجهاز العصبي للإنسان والقدرات الهائلة على الإحساس والوعي التي يملكها تمكننا من ذلك , إذا كنا نملك القدرات اللازمة للتحكم بالمداخل الحسية الذاهبة إلى دماغه.
إن الأحاسيس والانفعالات التي يتذوقها المتصوف أو المتعمق في الدين والإيمان ,أو الفيلسوف , أو الفنان , أو العالم ...., سوف لن تكون مستحيلة التناول في الواقع الافتراضي , صحيح أن الأدب والسينما استطاعا عزف كمية هائلة من أنواع الأحاسيس والانفعالات لدى المتلقين, ولكن الآتي أعظم بكثير .
وبالإضافة إلى كل ذلك فسوف يتم توسيع و تنويع جديد لأحاسيسنا وانفعالاتنا التي نملكها الآن بواسطة التقدم الذي سوف يحصل في العلوم الفسيولوجية والتكنولوجية, فسوف يخفف الألم وتتم السيطرة عليه وتلغى أشكاله القوية, وسوف تصنع أو تشكل أحاسيس جديدة بواسطة التحكم الفسيولوجي والعصبي - في المستقبل - .
كما ذكرت أننا , الآن نتذوق الفنون من طبخ وحب وموسيقى وأدب وسينما....الخ بالإضافة إلى تذوقنا للعلاقات الاجتماعية من صداقة وتعاطف وانتماء وحب تملك وحب سيطرة.... و الكثير منا يحصر مجال تذوقه في وجبات معينة ويدمن عليها, فهناك من يجمع المال أو أي نوع من جمع الممتلكات ويتذوق لذة الجمع هذه وهو على الأغلب سوف يعاني ألم الخسارة التي لا بد من حصولها غالباً , وهناك من يسعى لتذوق أحاسيس السيطرة والتحكم والفوز بالصراعات والتنافسات فهو دوماً بين قطبي اللذة والألم الربح والخسارة وحياته الحسية مبنية على ذلك.
ولكن تذوق الأدب و الفنون يكون غالباً في مجال اللذة والسعادة بكميات غير محدودة ولا تقيدها آلية الشحن والتفريغ , كما في حالة إرواء الدوافع والغرائز الأساسية - مثل لذة الطعام المحدودة بالجوع والشبع-, و ليست خاضعة لضرورة الارتفاع المستمر في المستوى أو الشدة للاستمرار في الحصول على اللذة والسعادة , فالفنون بتنوعها وكثرة مجالاتها تسمح بتجاوز الإشباع والتحديد للأحاسيس .
الوجبات الحسية والفنية القديمة
إن الوجبات الحسية والفنية هي أكثر أنواع الوجبات شيوعاً وانتشاراً الآن, فكافة الفنون وبشكل خاص الموسيقى والأغاني والسينما والتلفزيون.. تلاقي إقبالاً شديداً عليها وعلى تكرار تذوقها.
إن هذا الإقبال على تذوق الفنون تابع لما تحدثه من أحاسيس وانفعالات وأفكار لذيذة ومريحة وجميلة , وتتشابه التأثيرات الحسية لدى غالبية الأفراد, وبوجود غريزة التقليد والمحاكاة فإن أغلب الأفراد يسعون للحصول على نفس الوجبات, فعندما يشاهدون أو يسمعون أو يعرفون إقبال غيرهم على وجبات معينة نراهم يقبلون بدورهم عليها, فتقليعات الملابس , والموسيقى والطعام والشراب... تثبت ذلك .
ويحدث في الإقبال على الوجبات الفنية دوما تغير و تطور فهو يشتد إلى درجات معينة ثم يبدأ بالتخامد إلى أن يقل بشكل كبير, وعندها يحدث التوجه إلى وجبات جديدة مختلفة , ولكن بعد زمن ينشأ حنين وشوق إلى الوجبات القديمة التي حققت لذة وسعادة- وهذا راجع لخصائص الجهاز العصبي-, فيتم الرجوع إلى هذه الوجبات ويكون تذوقها بشكل مختلف فهي تحدث أحاسيس جديدة خاصة, وتكون شديدة القوة.
و تناول الوجبات الفكرية وما تحدثه من أحاسيس وشعور بالراحة والأمل والسعادة.. منتشر أيضاً بشكل كبير بين الناس, فطقوس العبادة والصلاة والشعائر الدينية والعقائدية تتضمن دوماً وجبات حسية مطلوبة بكثرة.
وتظهر دوماً دوافع ورغبات إلى الوجبات الحسية الجديدة عند الذين لم يعودوا يتذوقوا الوجبات القديمة لأنها لم تعد تمنحهم تلك الأحاسيس التي يرغبونها, فهم يبدعون الوجبات والفنون والأفكار الجديدة التي تناسبهم, فالخطابات و اللقاءات الاجتماعية والسياسة والأدبية والعلمية.... , والمؤتمرات والمسابقات الفكرية, وطقوس التكريم......الخ , أصبحت بديلاً للشعائر الدينية والعقائدية عند الكثيرين, فهم يكرمون ويبجلون قدامى المفكرين والعلماء والفنانين, ويتشبهون بهم ويكررون نفس أفكارهم وأحاسيسهم .
هدف الفنون تقديم الوجبات الحسية
إن هدف الفنون هو قرع الأحاسيس والانفعالات, والناس يطلبون من الفنانين منحهم أحاسيس وانفعالات الحب والحنان والعطف والمواساة والسلوى والمرح والضحك والفخر والاعتزاز والإخاء والانتماء والتشويق والهدوء والجمال واللذة والمفاجأة...., وأحاسيس الخوف والرعب المسيطر عليه, كما يطلبون التمتع بالألحان والنغمات والإيقاعات الموسيقية المرغوبة والممتعة, ويطلبون الروائح والأطعمة وكافة الأحاسيس والانفعالات الممتعة.... , فهدف ودور الفن الأساسي هو الممتع, ولا يهتم كثيراً بالمفيد أو الواجب, لذلك يمكن أن يلتقي الدين والسياسة والعلم مع الفن عند تعرضهم للأحاسيس والانفعالات.
أنواع الفنون وتدرج ظهورها
!- فنون تذوق الحب
2_ فنون تذوق الطعام
3_ فنون تذوق الأصوات والألحان والإيقاعات
4_ فنون تذوق المناظر والأشكال , الرسم
5_ فنون الرقص, يمكن أن يكون الرقص قد نشأ قبل الرسم
6_ القصص والأساطير والشعر والملاحم, بعد نشوء اللغة, ثم نشوء المسرح
7_ القصة والرواية والمسرحية الحديثة والمقروءة وباقي الفنون الحديثة الكثيرة .
8_ السينما والتلفزيون
9_ الواقع الافتراضي
|