يدعي دعاة الإعجاز العلمي أن العديد من آيات القرآن تشير إلى حقائق علمية لم تُكتشف إلا حديثاً، وأن ذلك دليل على المصدر الإلهي للقرآن، وإلا فمن الذي أخبر بذلك محمداً الذي انتمى إلى بيئة أمية غير متحضرة قبل 1400 سنة؟.
يقر دعاة الإعجاز العلمي بأن الآيات محل الإعجاز كان المسلمون في عصور سابقة يفسرونها تفسيراً مخالفاً للعلم اليوم، ولكن دعاة الإعجاز عادوا مرة أخرى ليجعلوها معجزة بحد ذاتها أن نص القرآن لا يتناقض مع العلم في أي عصر، فأهل العصور السابقة فهموه وفقاً لعلومهم دون أن يتناقض معها، وأهل هذا العصر فهموه وفقاً لآخر المكتشفات العلمية دون أن يتناقض معها.
هنا تتجلى نقطة الضعف الأساسية في الإعجاز العلمي، فالآيات العلمية هى محتملة لأكثر من تفسير، أي أن المسألة احتمالية وليست قاطعة، والقاعدة المتبعة عند علماء الأصول المسلمين تقول: إذا تطرق الاحتمال بطل الاستدلال. فما بالك حين يتعلق الأمر بمعجزة هى حجة على الناس لاتباع دين الحق وإلا مصيرهم جهنم خالدين فيها؟. من البديهي أن المعجزة يجب أن تكون قاطعة لا مجال فيها للاحتمالات، وهذا لا يتحقق مع الإعجاز العلمي.
كما أن الإعجاز العلمي ليس إعجازاً مصدره النص، بل مصدره طريقة الفهم لهذا النص، بدلالة أنه قبل أن تُكتشف الحقائق العلمية الحديثة لم يكن أحد من المسلمين قد توصل إلى تلك الحقائق بفضل القرآن، فالاكتشاف العلمي يسبق الإعجاز العلمي، ولذلك فإن الإعجاز العلمي ليس إعجازاً، بل هو مجرد تفسير علمي، الدافع إليه هو اعتقاد المفسّر بأن القرآن كلام الله، فالتفسير العلمي هو ناتج عن الإيمان بالمصدر الإلهي للقرآن، ولذلك فإن القول بأن التفسير العلمي يمكن أن ينتج الإيمان بالمصدر الإلهي للقرآن، هو أشبه بوضع العربة أمام الحصان.
إنه ليس إعجازاً علمياً، بل تفسير علمي، أي أننا أمام مشكلة تفسيرية بحتة، مثلها مثل الخلافات التقيدية بين مفسري القرآن حول الكثير من الآيات، كاختلافهم في الحكم الفقهي المستنبط من الآية وغير ذلك.
فكيف نعرف التفسير الصحيح للآيات العلمية في القرآن؟
لدينا مقولة رائعة من القرن الثامن عشر للكاتب الأمريكي thomas paine تعليقاً على المعجزات الحسية المزعومة للأنبياء:
If we are to suppose a miracle to be something so entirely out of the course of what is called nature, that she must go out of that course to accomplish it, and we see an account given of such miracle by the person who said he saw it, it raises a question in the mind very easily decided, which is, is it more probable that nature should go out of her course, or that a man should tell a lie? We have never seen, in our time, nature go out of her course; but we have good reason to believe that millions of lies have been told in the same time; it is therefore, at least millions to one, that the reporter of a miracle tells a lie.
http://ushistory.org/paine/reason/singlehtml.htm
الترجمة: ((على اعتبار أن المعجزة هى شيء خارج تماماً عن قوانين الطبيعة، وأن الطبيعة عليها أن تخرج عن قوانينها لتتحقق المعجزة، فإننا حين نحصل على شهادة بحصول معجزة ينقلها شخص يقول بأنه رآها، فإن ذلك بسهولة يثير في الذهن السؤال التالي: أيهما أكثر احتمالاً: أن تخرج الطبيعة عن قوانينها، أو أن الذي أخبر عن حصول المعجزة قد كذب؟، فنحن لم نر الطبيعة أبداً في زماننا تخرج عن قوانينها، ولكن لدينا مبرراً جيداً للاعتقاد بأن ملايين الأكاذيب قد قيلت في ذات الزمان، ولذلك، فإن من يقول بأنه قد رأى معجزة هو كاذب بنسبة تصل على الأقل لمليون إلى واحد.))
وعلى ضوء الاقتباس السابق، أقول عن الإعجاز العلمي: كم من المرات أخبرنا شخص بحقيقة علمية غير معروفة ثم تم اكتشافها بعد سنوات؟ وكم من المرات رأينا كائناً غير مرئي له آلاف الأجنحة وبإمكانه أن يوحي لشخص ما نقلاً عن الله؟
ولكن في المقابل كم من المرات رأينا شخصاً يفهم قولاً ما بطريقة خاطئة؟، دعك من الحياة اليومية، ولننظر إلى القرآن نفسه، فتاريخه حافل بالفهم المغلوط له، بل حصل ذلك والنبي نفسه ما زال حياً، حيث فهم الصحابي "عدي بن حاتم" هذه الآية التي في الصيام (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) فهم من ذلك أن يفتل خيطين واحد أبيض وواحد أسود، وحين يتمكن من التمييز بينهما في الظلمة فهذا وقت بدء الصيام!، فأخبر محمداً بذلك فضحك وقال (إنما هو ضوء النهار وظلمة الليل) (تفسير الطبري 3/512)، وبعد وفاة النبي تدفقت سيول الاختلاف في القرآن حتى نشأت فرق ومذاهب مستمرة إلى يومنا، وكان منهم في عصر الصحابة الخوارج الذين حاربوا المسلمين وقتلوا علي بن أبي طالب ابن عم النبي الذي يقرأ ذات القرآن الذي يقرأونه. وإذا نظرنا إلى أحد أعظم التفاسير وهو تفسير الطبري (ت 310هـ) ، نجده يستخدم في تفسيره أسلوب عرض الاختلاف عند كل آية مُخْتلَف في تفسيرها، ودائماً ما يبدأ عرض الاختلافات بعبارة "واختلف أهل التأويل"، وحين وضعت هذه العبارة في الباحث الإلكتروني تبين أنها وردت في تفسيره 1225 مرة، وكثير من هذه المواضع يعرض الطبري فيها أكثر من تفسيرين، ولكن بغض النظر عن ذلك، نستنتج أنه وفقاً لتفسير الطبري لدينا على الأقل 1225 تفسير خاطئ للقرآن، لأنه من بين التفسيرات المختلفة للآية، تفسير واحد فقط هو الصحيح والباقي خطأ.
إذاً، الفهم المغلوط للقول هو أمر مشاهد في حياتنا اليومية، وحصل آلاف المرات مع القرآن.
وعليه: في حالة الإعجاز العلمي لدينا آيات تحمل تفسيرين: التفسير الأول موافق للنظرة البدائية للكون وكان عليه علماء الإسلام طوال القرون الماضية إلا في القرنين الأخيرين، ولدينا تفسير آخر يتطلب القبول به الإقرار بخرق لقوانين الطبيعة أن شخصاً ما قد تواصل مع كائن غير مرئي لم يره أحد في الدنيا فتعلم منه حقائق مستحيلة الاكتشاف في عصره ولم تُعرف إلا بعده بـ 1400 سنة.
والآن أيهما الأكثر احتمالاً: أن التفسير العلمي للقرآن هو فهم مغلوط للآيات، والفهم المغلوط للأقوال يحصل ملايين المرات في زماننا، وحصل مثله في القرآن مع آلالاف التفسيرات المغلوطة للقرآن، أم أن نعتبر التفسير العلمي خرقاً لقوانين الطبيعة لم يره إنسان من قبل؟.
إذاً، وعلى ضوء ما قاله توماس بين، التفسير العلمي الإعجازي هو تفسير خاطئ بنسبة تصل على الأقل لمليون إلى واحد.
ولكن، لندع النتيجة السابقة جانباً، ولنحاول أن نعامل هذه التفسيرات العلمية وكأنها ذات قيمة واعتبار مماثل للتفسيرات التقليدية، فأقول:
من الصعب الاكتفاء بالقرآن فقط للتحقق من صحة ادعاءات الإعجازيين، فنص القرآن هو نص أدبي، ومن سمات النصوص الأدبية أنها أكثر احتمالاً من غيرها للتفسيرات المختلفة، وما عليك سوى أن تنظر لأي شرح من شروح ديوان المتنبي أو غيره وانظر إلى كثرة التفسيرات المختلفة للعديد من الأبيات، وقد قال علي بن أبي طالب بأن القرآن حمّال أوجه، إذاً طبيعة نص القرآن لا تكفي للحسم بين التفسيرات المختلفة، نحن بحاجة إلى نص أكثر وضوحاً وصراحة من النص القرآني ويحمل في نفس الوقت ذات المصداقية التي يتمتع بها القرآن، فما هو هذا النص؟
إنه السنة النبوية، فالنبي كلامه وحي (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) النجم/3 ، 4. وخاصة حين يحدّث في أمور الغيب، أو يفسّر القرآن، ففي هاتين الحالتين خاصة ليس له مصدر لما يقوله إلا الله – وفقاً للمعتقد الإسلامي-.
وقد سبق أن قلت بأننا أمام مشكلة تفسيرية بحتة، مثلها مثل الخلافات التقيدية بين مفسري القرآن، إن الترجيح بين التفسيرات المختلفة بالرجوع إلى السنة النبوية، هو الطريقة الأبرز والأهم من بين الطرق الأخرى التي سار عليها المفسرون، يقول الطبري في مقدمة تفسيره 1/92- 93
(( قد قلنا فيما مَضى من كتابنا هذا في وُجوه تأويل القرآن، وأن تأويل جميع القرآن على أوجهٍ ثلاثة:
أحدها لا سبيل إلى الوصول إليه، وهو الذي استأثر الله بعلمه، وحَجبَ علمه عن جميع خلقه، وهو أوقاتُ ما كانَ من آجال الأمور الحادثة، التي أخبر الله في كتابه أنها كائنة، مثل: وقت قيام الساعة، ووقت نزول عيسى بن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، والنفخ في الصور، وما أشبه ذلك.
والوجه الثاني: ما خصَّ الله بعلم تأويله نبيَّه صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته، وهو ما فيه مما بعباده إلى علم تأويله الحاجةُ، فلا سبيل لهم إلى علم ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تأويلَه.
والثالث منها: ما كان علمهُ عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وذلك علم تأويل عربيته وإعرابه، لا يُوصَل إلى علم ذلك إلا من قِبَلهم.
فإذ كان ذلك كذلك،
فأحقُّ المفسرين بإصابة الحق -في تأويلِ القرآنِ الذي إلى عِلم تَأويله للعباد السبيلُ- أوضحُهم حُجة فيما تأوّل وفسَّر، مما كان تأويله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته (1) من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه: إمَّا من جهة النقل المستفيض، فيما وُجِد فيه من ذلك عنه النقلُ المستفيض، وإمَّا من جهة نقل العدول الأثبات، فيما لم يكن فيه عنه النَّقلُ المستفيض، أو من جهة (2) الدلالة المنصوبة على صحته؛ وأصحُّهم برهانًا (3) -فيما ترجَم وبيّن من ذلك- ممَا كان مُدركًا علمُه من جهة اللسان: (4) إمّا بالشواهد من أشعارهم السائرة، وإمّا من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة، كائنًا من كان ذلك المتأوِّل والمفسِّر، بعد أن لا يكون خارجًا تأويلُه وتفسيره ما تأول وفسر من ذلك، عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة، والخلف من التابعين وعلماء الأمة.))
إذاً، التفسير الذي يوافق السنة النبوية هو الأولى بإصابة الحق، وعليه فإن الطريقة الصححية لمعرفة التفسير الصحيح للآيات العلمية هو بالرجوع إلى السنة.
فمن السنة نستطيع أن نعرف مصداقية ما "أوحي" إلى محمد، ولن أكتفي بالأحاديث التي تفسر بعض الآيات العلمية، بل سأتوسع إلى الأحاديث الأخرى التي تتطرق إلى مسائل علمية.
وعلى هذا المنهج سأسير في هذه الدراسة لمعرفة حال القرآن مع العلم: عجز أم إعجاز.
يتبع..