"إنجيل يهوذا" "خرافة" جميلة كلفت ملايين الدولارات
تحقيق : هالة حمصي
"نجلس مع يهوذا الاسخريوطي.
الرجل يحتل كل المساحة تقريبا، كل "النجومية" في ما سمّي اخيرا "أهم الوثائق الاثرية المكتشفة في الاعوام الـ60 الاخيرة"، "انجيل يهوذا"، هل أسلم يسوع المسيح ليصلبوه بعدما باعه بثلاثين من الفضة أم كان رسوله المفضل والعالم بكل أسرار ملكوت الله؟
ابتسامة تعلو الوجه، وتخفي شيئا ما. السؤال قد يحرِّض على التفكير، على المراجعة، على اعادة النظر برهة في وجه هذا الرجل يهوذا. هنا أسود، وهناك أبيض بياض الثلج.
هنا شرير خائن، وهناك "بطل اسطوري". من انت فعلا يا يهوذا؟
نحمل في يد الاوراق الـ26 للنص الانجيلي "صك براءة" يهوذا التي استقطبت أخيرا كل الاضواء والدعاية العالمية. انها الاوراق نفسها التي نقضها بشدة القديس ايريناوس اسقف ليون، نحو عام 180 في كتابه "ضد الهرطقات"، أي قبل نحو 1826 عاما. قال: "يقولون ان يهوذا الخائن، بمعرفته وحده الحقيقة، أتم سر الخيانة. لقد اختلقوا حكاية خرافية سموها انجيل يهوذا". وكان يقصد الغنوصيين في ذلك الزمان.
الموضوع اذا بقدم ذلك التاريخ. وبعد 1826 عاما على الاشارة الى وجوده، اتخذ انجيل يهوذا شكلا ما اخيرا. هل هو اكتشاف أثري؟ نعم، على ما يجمع خبراء كثيرون على ذلك. ما أهميته اللاهوتية في العقيدة المسيحية؟ نقرأه كما نقرأ أي رواية، لا أكثر. انه رواية قديمة. ولدينا روايات عديدة. لم نخترع شيئا في الفن الروائي. الروايات موجودة دائما. والميثولوجيات روايات "يجيب مؤسس "مركز التراث العربي – المسيحي للتوثيق والبحث والنشر" (CEDRAC) الاستاذ في جامعة القديس يوسف الاب سمير خليل اليسوعي.
الموضوع محسوم مسيحيا، لدى الكنيسة الكاثوليكية وغيرها من الكنائس ايضا. فعندما نشرت المخطوطة راهن بعضهم على ان محتواها سيهز شيئا ما في العقيدة المسيحية التي ترتكز أساسا على أربعة أناجيل اعتمدت منذ القدم واتفق على انها القانونية. الا ان الامر لم يؤد الى ذلك "نعرف هذا الانجيل قبل ان يكتشف أخيرا، يقول الاب خليل، "فالقديس ايريناوس اشار اليه في كتابه، مع مقاطع منه. وقال انه كان تابعا للشيعة القائينية آنذاك، وانتقد هذا التيار، ذاكرا ان هذه الشيعة كانت ترى قائين كأنه الكاهن الذي قتل الذبيحة الذي هو أخوه هابيل، وذلك اكراما للاله الحقيقي. وكل ذلك خرافات. وكانت تقول ايضا ان يهوذا لم يسلم المسيح خيانة او لرغبة منه، انما المسيح أوكل اليه ذلك لتحقيق ارادة الله. هذه كلها خرافات.
لقد غيروا المعنى، بحيث بدا انه أسلمه عن تقوى ورسالة وبأمر من السيد المسيح. وهذا الامر يعجب بعض المفكرين في الغرب".
ثلاثة معايير داحضة
في الغرب، أخذت هذه المخطوطة كل مداها، على الصعيد البحثي والمالي والاعلامي. فبعدما اكتشفها فلاح مصري عام 1983 في أحد الكهوف في الصحراء قرب بني مزار على مسافة 240 كيلومترا جنوب القاهرة في محافظة المنيا باعها لأحد تجار الآثار المصريين حنا العريان (قبطي) الذي هرّبها وحفظها أكثر من 16 عاما في احدى خزائن مصرف أميركي في لونغ آيلند، قرب نيويورك، قبل ان يتمكن من بيعها لتاجرة آثار سويسرية هي فريدا نوسبرغر تشاكوس. وعام 2001 اشتراها ماريو جان روبرتي لـ"مؤسسة ميسنس" السويسرية للآثار القديمة التي يديرها. وأوكل دراستها الى استاذ القبطيات في جامعة جنيف البروفسور رودولف كاسر.
وتدخلت لاحقا مصر بعدما ذاع صيت المخطوطة. وأعلن الامين العام للمجلس الاعلى للآثار المصري زاهي حواس انه "تم الاتفاق مع الجمعية الوطنية الجغرافية الاميركية (ناشيونال جيوغرافيك) ومعهد "ويت" للاكتشافات الاثرية على ان يبتاعا المخطوطة بمليوني دولار اميركي تدفع مناصفة بينهما، ثم تعمدان الى ترميمها وترجمتها، قبل ان تعيداها الى وطنها الاصلي مصر". وفي آذار 2006، استعادت مصر المخطوطة.
ملايين الدولارات صرفت لاخراج المخطوطة الى الضوء. وباعادة احيائها "تكلمت"، ولكن بما عزز موقف الكنيسة المسيحية، وسلّط الضوء اكثر على تيارات "لا مسيحية" معروفة نشأت في القرون الاولى وحاربتها الكنيسة المسيحية آنذاك.
يقول الاب خليل ان "هذه المخطوطة تنتمي من دون شك الى الفكر الغنوصي، حتى لو لم تكن ضمن مجموعة الاناجيل الغنوصية التي وجد جزء كبير منها عام 1945 وفي نجع حمادي في مصر (نحو 50 كيلومتراً شمال الاقصر)، وكتبت بالقبطية الصعيدية".
ويضيف ان الفكر الغنوصي "له نظرة كونية، تقول ان هناك الهاً خالقاً خفياً للغالبية، باستثناء الغنوصيين، اي العارفين. فالعارفون، وهم قلّة، يعلمون الاله الحق، اما العامة فهم يعبدون اما الاله الشرير واما الاله نصف الخالق. وكل ما هو جسداني شرير، وكل شيء يجب ان يتروحن ليصل الى الكمال. حتى الزواج والعلاقة الجنسية يعتبران شريرين.
في القرون الاولى، وجدت الكنيسة نفسها في مواجهة هذا التيار، فقاومته بالطبع وخصوصاً انه كان يرفض التجسّد، اي ان الله صار فعلاً جسداً، او لحماً اذا اخذنا العبارة اليونانية الاصيلة".
ويشرح الاب خليل ان "الغنوصية تيار فكري شمل الحاضرة الشرق الاوسطية اساساً، من اليونان الى الشرق. وفي نظري ان له علاقة بالهند ايضاً، ولا سيما في فكرة التدهورات والتصاعدات للوصول الى الكمال. وهذه فكرة مشتركة.
وهذا التيار ليس خاصاً بالمسيحية. انما هناك تيار تشبّع بهذا الفكر ومزجه بالفكر الافلاطوني الذي يرفض كل ما هو مادي، ومزجه ايضاً بالمفاهيم المسيحية الموجودة في الانجيل (المعتمد)".
ويقرأ خبراء لاهوتيون هذه المخطوطة انطلاقاً من معايير علمية محددة. فالى جانب "طابعها الغنوصي"، يبرز معياران اساسيان آخران يساهمان في دحض كل ما يراد القول به ان هذه المخطوطة تحدث تغييراً ما في العقيدة المسيحية، لاهوتياً او تاريخياً. وفي نظر الاب خليل "ان هذه المخطوطة تعود الى مطلع القرن الرابع، بحسب تقدير البحاثة. وقد يكون النص الانجيلي من القرن الثاني (المخطوطة نسخة منقولة من كتاب اقدم باليونانية). وفي كل حال، فهو متأخر بالنسبة الى الاناجيل الاربعة القانونية (تعود الى النصف الثاني من القرن الاول). وعلمياً كلما تأخر النص كان اقل توثيقاً. ثم هناك معيار آخر، وهو الاهم، وعدم اتفاق النص مع ما نعرفه عن شخصية السيد المسيح، وخصوصاً لجهة القول ان ثمة اسراراً اخفاها الله عن الجميع وكشفها للعارفين وحدهم. فهذه النظرة بعيدة كل البعد عن مفهوم الانجيل المعتمد الذي يقول العكس".
يهوذا "العارف"
هل كان يهوذا "عارفاً"؟
هذا ما يزعمه الانجيل موضوع البحث. ففي احد مقاطعه، يقول المسيح ليهوذا: "ستسمو عليهم (اي بقية الرسل) جميعاً، لانك ستضحي بالرجل الذي اتخذت هيئته". هذه الجملة اشارت بالاصبع الى الطابع الغنوصي للنص. وفي ذلك تعارض كلي وواضح مع الاناجيل الاربعة القانونية متى ومرقس ولوقا ويوحنا.
ويوضح الاب خليل: "يقول ان يهوذا اسلم المسيح عن حسن نية واتماماً لمشروع الله، بينما تقول الاناجيل الاربعة ان يهوذا اسلم المسيح، اما حباً بالمال، واما لانه كان من فئة "السيكاري" الذين كانوا يريدون القضاء على الحكم الروماني باقامة ثورة. فخاب امله في المسيح، لانه لم يحقق ذلك. وبالتالي لا يمكن ان ننسق بين الاول والاربعة، بسبب التعارض الكلي".
ونستتبع هذا السؤال بسؤال آخر: لماذا يهوذا تحديداً؟ فيجيب الاب خليل: "لانهم (اي الغنوصيون) قالوا بما ان يهوذا هو الذي اسلم المسيح، فلا بد ان يكون هناك سر. وما السر؟ المشروع الالهي يقول بضرورة ان يموت الابن فداء للعالم. وهذه الفكرة مسيحية. ولكن من كان وراءموت المسيح؟ يهوذا. اذا، خلصوا الى ان يهوذا لم يكن خائنا، انما كان العارف، والاناجيل الاخرى هي لعامة الشعب التي لم تفهم".
اخطار عدة يحذر منها الاب خليل: "هذا الانجيل يجعل القارئ، اذا تقبله، يقبل بالتالي الفكر الغنوصي الذي هو لا مسيحي اساسا، لانه يرفض كل ما هو ما دي. ويرفض ايضا تجسد المسيح، وان البشارة هي للجميع، بحيث يقول انها للعارفين وحدهم، وان هناك نخبة هي الفئة الناجية (...) كذلك يرفض عمومية الخلاص الذي تقول الاناجيل الاربعة ان الجميع مدعوون اليه، وهو بالسيد المسيح. ولو سلّمنا بانه لنخبة، لكانت المسيحية ضاعت".
ويستتبع قوله هذا بمزيد من الشرح والتحليل: "(...) كيف ارضى بالقول ان نخبة صغيرة جدا هي التي تخلص، بينما عامة الشعب لا تخلص؟ في هذا القول ازدراء لا يقبل به الله. وللسبب نفسه تقول الكنيسة الكاثوليكية، وربما كنائس اخرى بمفاهيم مختلفة اخرى، ان الله يريد من دون شك خلاص كل انسان. ولا يمكن ان يكون الله رفض الخلاص لغالبية العالم، بما ان الغالبية ليست مسيحية، والمسيحيون يمثلون نحو 20 في المئة من العالم. فهل من الممكن ان يكون الله خطط بحيث لا تخلص غالبية الناس؟ مستحيل".
ويتدارك: "نعلم ان الله يريد الخلاص للجميع، وان الجميع ليس مسيحيا بالاسم، وليس معمدا، ولكن لا خلاص الا بالمسيح. فنقول: لا شك في ان كل انسان يحاول ان يعيش بحسب ضميره، لان الضمير هو شعلة او شظية من الله تعالى وضعت في الانسان. وبطريقة اخرى، لا نعلم كيف المسيح خلصه، انما نعلم انه خلصه لانه بذل حياته حبا بالعالم، حتى آخر نقطة من دمه. كيف يتم ذلك؟ هذا سر الله(...) النقطة الاساسية هي ان الله يريد خلاص كل انسان. وهو رحمة ومحبة".
"الغرب يميل
إلى الغنوصية"
مخطوطة "انجيل يهوذا" ترجمت الى الانكليزية والفرنسية والالمانية، ويمكن الاطلاع عليها بكل سهولة على بعض المواقع الالكترونية على الانترنت. وأن تجد لها كل هذا الاهتمام في الغرب امر غير مستغرب. "الغرب، وأعني بذلك الفكر الاوروبي – الاميركي اساسا، المسيحي وغير المسيحي، يميل اليوم الى الغنوصية. الغرب اصله مسيحي، الا ان مسيحيين كثيرين حافظوا على الاسم فقط، وخلطوا بين التيار الجارف في الغرب وهو تيار انتخابي، اي ان نأخذ من المسيحية ما يناسبنا، كما نأخذ من الهندوسية وربما من الاسلام وتيارات اخرى ما يناسبنا، ونخترع تيارات جديدة. وعلى سبيل المثال، هناك اكثر من 100 ديانة جديدة تنبثق في الولايات المتحدة الاميركية سنويا".
بعد نحو 1826 عاما، لا تزال "الغنوصية منتشرة. لم تمت، ولن تموت"، يوضح الاب خليل، ويزيد: "ففي الغرب، كلما وجدوا شيئا غريبا شاذا، انجذبوا اليه. والغنوصية هي ان ثمة اشخاصا توصلوا الى المعرفة، اما العامة فلم ولن يفعلوا. وهذا التيار قوي جدا. كلما وجدوا شيئا قديما يؤيد هذا التيار، ابرزوه، لا بل قالوا: هذا هو الانجيل الحقيقي".
ويرى ان الهجوم على المسيحية، وخصوصا الكنيسة الكاثوليكية، بات امرا معهودا "ويجب ان نعلم ونقر بان الغرب اصبح غير مسيحي. واذا نظرنا الى القوانين التي تسن، نجد ان لا علاقة لها بالمسيحية، لا بل هي ضدها. كذلك الحروب التي تحصل لا يمكن ان تعتمد على الاناجيل. لقد اخذوا من الدين ما يناسب شعورهم. هم معجبون بالسيد المسيح كشخصية بشرية.
واذا قيل لهم انه اجرى معجزات وانه ابن الله الحي، يجيبون انها خرافات استقيتموها من الميثولوجيا اليونانية او ميثولوجيات اخرى. اما المسيحية، فتمثل لهم تراثا يستقون منه ما يريدونه. وكلما وجدوا في التيارات المنحرفة او الهرطقات القديمة، اعتمدوها كأنها المسيحية الحقيقة. لقد باتوا يرون في المسيحية العالمية تيارا سياسيا يحاول القضاء على هذه الهرطقات. اي انهم ينظرون الى المسيحية نظرة سياسية ويقولون ان الكنيسة، وتحديدا الكاثوليكية بسبب تنظيمها، هي التي حاولت دائما الضغط على الشعوب وفرض نظرتها عليها، لكن تحررنا من هذه السلطات".
هذا هو الفرق
"انجيل يهوذا". ماذا أُريد من كل هذه الدعاية وراءه؟ وماذا يخدم تسويقه في الشكل الذي تم به؟
لعل ما يجب تذكّره هو انه "رواية مبنية على اغاليط تاريخية عديدة. لا نجد فيها الا افكارا، كما بقية الاناجيل المنحولة.
وهذا هو الفرق. الانجيل بشرى. الانجيل هو المسيح. والبشرى ليست افكارا في المسيحية، بل شخص"، يقول الاب خليل. ويضيف: "لا اخاف من اي انجيل منحول، اذا كان ارتباطي بالسيد المسيح وثيقا. اما اذا كان ارتباطي به مجرد افكار عامة، فهناك خوف عليّ. الايمان علاقة شخصية بالمسيح. وهو صخرة الايمان. الانجيل ليس الا اربع صور تكون نظرة اكمل عن المسيح. كلها محاولات كي تعرفني به. بينما انجيل يهوذا لا يعرفني بالمسيح، انما بيهوذا. وما همنا نحن بيهوذا؟".
المصدر:
http://www.annaharonline.com/htd/ADIAN06521-1.HTM